كاتبة وثلاث نسخ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 30
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

03.27 مساءً.

تجلس فى منتصف سريرها مع اللاب توب، تكتب.

بجوارها كوب قهوة نصف ممتلئ.

توقفَتْ بعد 631 كلمة، رفعَتْ صوت الموسيقى من اللاب توب، استلقَتْ على ظهرها لدقائق، خرجَتْ باتجاه الصالة، توقفَتْ خارج الردهة، تراقب الروبوت عند رفّ الكتب وهو ينقل عينيه بين العناوين، يرتدى تى شيرت بلون الليمون، وبنطلون قطنى أزرق داكن، نور الشمس يمُرُّ عَبْرَ زجاج النافذة ويلمسه قبل أن يتفرَّق بطريقة يبدو معها كأنه يعرف زوايا الشقة، ويُوَزِّع نفسه داخلها بأسلوب خاص.  

“هل تبحث عن كتاب معيَّن؟”، سألَتْه.

التفَتَ إليها: “أرجو ألا تمانعين؟”.

هزَّتْ رأسها وهى تتجه إليه، توقفَتْ بجواره، تطلَّعَتْ إلى العناوين، فعلَ مثلها لثوان، نظر إليها: “هل تعرفين أنى لا أعرف اسمك حتى الآن”.

“أعرف”، قالت وعيناها تتنقلان بين الكتب.

“ستخبرينى به يومًا ما؟”.

“لا نعرف إنْ كنتَ ستصمد هنا لأيام أخرى”، نظرَتْ إليه، ابتسم وقال: “أريد أن أقرأ رواية لكِ”.

“كى تعرف اسمى من غلافها؟”.

“كى أعرفكِ أنتِ”.

فكَّرَتْ لحظة: “فقط لأن ردَّكَ أعجبنى.. لى أربع روايات، وثلاث مجموعات قصصية، أيها تختار؟”.

“روايتكِ الأولى”، قالها بطريقة مَنْ يعرف ما يريده.

“اختيار لئيم”، نظرَتْ إلى الكتب: “أعتقد أن نسخة منها موجودة هنا”، مرَّرَت يدها أمام الأرفف، “هنا؟، لا، هنا؟، لا، هنا، نعم”، سحبَتْ كتابًا من المنتصف، نظرَتْ فى غلافه الأمامى، ابتسمَتْ ومسحَتْ عليه بيدها، قَدَّمَتْه إلى الروبوت: “روايتى الأولى، كان يمكنكَ ببعض المجهود أن تعثر عليها، صورتى على الغلاف الخلفى”.

أَمسكَ الرواية بين يديه، نظر فى غلافها الأمامى، مسحَ عليه مثلما فَعَلَتْ، وابتسمَ، نظر إلى صورتها.

قالت: “أشعر أنكَ عثرْتَ عليها قبل أُعطيها لك، لكنكَ..”، صمتَتْ لحظة: “على أىّ حال، صِرْتَ تعرف اسمى الآن بشكل رسمى”.

“وقريبًا أعرف روحك، جزء منها على الأقل”، رفعَ يده بالرواية يقصد أنه سيعرف روحها من خلال روايتها.

قالت: “لكنى لا أضمنُ لك أن تبقىَ فى البيت حتى تنتهى من قراءتها”.

هَزَّ كتفيه: “لا يهم، سآخذها معى.. إذا أعجبتنى، شكرًا على أىّ حال”، نظر إلى الرواية لحظة، ثم إليها، قال: “برأيكِ، هل يمكن للروبوت أن يكتب رواية؟”.

“لكن الروبوت ليست لديه روح”، فوجئَتْ بإجابتها السريعة، كأنها كانت جاهزة بداخلها فى مكان ما.

قال الروبوت: “بعض الروبوت كتبوا نصوصًا أدبية قصيرة، وربما يستطيعون كتابة روايات”.

“حتى لو حدث، أعتقد أنها كتابة ستنقصها الروح، الكتابة ليست كلمات تنتظم مع بعضها بعضًا، ليست حكاية وحَبْكَة وشخصيات، أو غيره، أنت تخلق روحًا، بطريقة ما”، صمتَتْ لحظة: “حتى كتابتنا نحن البشر، الكثير منها تنقصها الروح، وإنْ لم تكن الروح موجودة فلا شىء يمكن أن يكون موجودًا.. لا أقصد أن أكون فَظَّة معك هنا”.

قال الروبوت: “أريد أن أسمعك”.

“ما أقصده، أن الروبوت يمكنه أن يكتب بمساعدة برامج، وأشياء مثل هذه، لكن برأيى، أن الكتابة تحتاج مساعدة من الروح، الكاتب يعطيها من روحه، وتعطيه هى من روحها، هذا أهم شىء”.

أومأ الروبوت: “هذا ما أفكر فيه.. الروح”.

تأمَّلَتْه لحظة، قالت: “لكن ليس لدىَّ مشكلة أن يخوض الروبوت تجربة الكتابة كاملة، ولنرى ما يكون، هل تفكر فى كتابة رواية؟”.

ظَلَّ صامتًا لثوان وهو ينظر إليها، قال: “أنا أفكر فى الروح”.

“الروح”، حرَّكَتْ بها شفتيها وهى تكتبها بسبَّابتها فى الهواء دون أن تُغيِّر وَضْعَ يدها.

“تكتبينها؟ الروح؟”، قال الروبوت وهو ينظر إلى إصبعها.

ابتسمَتْ: “نعم، يحدث الأمر معى بتلقائية، أقرأ أو أسمع كلمة تعجبنى، أو تمرُّ فى عقلى، فأكتبها فى الهواء”.

ابتسم الروبوت، أحاط روايتها بيديه، وقال: “الروح”.

 

06.21 مساءً

جالسة إلى مكتبها فى الصالة، تتحدث إلى صفحة من روايتها على شاشة اللاب توب: “سأُعِدُّ قهوة لنفسى، هل يريد أحدكم شيئًا؟ أنتِ تشربينها بدون سكر، صحيح؟ لا تريدين، وأنتَ؟ ليس الآن؟، امهمم، أوكى، لن أتأخر”، نهضَتْ، وجدَتْ الروبوت واقفًا قُرْب الشرفة، ابتسمَ وقال: “تتحدثين إلى شخصيات روايتك، يعجبنى هذا”.

“أسألهم لو أحدهم يريد أن يشرب شيئًا”.

“يمكنكِ أن تبقى معهم، وسأُعدُّها لك”.

مشَتْ إلى المطبخ: “أُحب أن أُعدِّها بنفسى، أعتبرها استراحة قصيرة، يمكنكَ أن تشاركنى، لو أحبَبْتَ”.

فى المطبخ.

  صبَّتْ للروبوت قهوته، ولنفسها.

سألَها: “أنتِ لا تعملين شيئًا غير الكتابة، أقصد أنك تعيشين منها، صحيح؟”.

حركَّتْ سبَّابتها فى الهواء وكتبَتْ كلمة “الكتابة”، قالت: “نعم، الكتابة فقط، روايات، قصص، مقالات أدبية، وسيناريو فيلم كل عِدَّة سنوات، لست ثرية، لكن أمورى المادية مطمئنة”، تطلَّعَتْ حولها: “اشتريتُ هذه الشقة مؤخرًا، بعد سنوات من التنقُّل بين الشقق المؤجرة، واللوكاندات”. 

رشفَ الروبوت، وقال: “يُعجبنى أن الكتب فى كل مكان بالشقة”.

“كل مكان هنا هو مكان مُحتَمل للقراءة والكتابة، ستجد كتابًا، قلمًا ونوت بوك لأُسَجِّل الأفكار التى تأتينى”، ابتسمَتْ: “وزَّعْتُ الكتب فى زوايا أُسمِّيها مشارب كُتُب، المَشْرَب رقم 1 موجود فى غرفتى، رقم 2 فى غرفتك، رقم 3 فى الصالة، نظرَتْ إلى رفّ كُتُب فى زاوية بالمطبخ: “هنا المشرب رقم 4، رقم 5 فى الشرفة، ولن يخلو الحمام من كتاب أو اثنين”.

ابتسم الروبوت: “تتقدمين فى روايتك، صحيح؟”.

أومأت.

تردَّدَ لحظة، وقال: “هل.. هل يمكن أن تحدثينى عنها؟ قليلاً قليلاً؟”.

فكَّرتْ، رشفَتْ قهوتها، قالت: “عن كاتبة تتمنى أن تحصل من نفسها على عِدَّة نُسَخ كى تفعل أشياء مختلفة فى وقت واحد، نسخة تكتب فقط دون توقف، لا تأكل، لا تنام، لا تقابل أحدًا، لا شىء غير الكتابة، ونسخة تنطلق فى العالم لتعيش الحياة، ونسخة ثالثة تمارس العادات اليومية، تأكل، تشرب، تنام، وغيره”، صمتَتْ لحظة كى ترى إنْ كانت الفكرة أثارت اهتمامه، أَكملَتْ: “يبدأ الأمر عندما تنام هذه الكاتبة أثناء كتابتها رواية، وتسقط رأسها على الكيبورد وتضغط مع أصابعها على المفاتيح، فتظهر على صفحة الشاشة كتابة عشوائية تتحوَّل إلى النسخ الثلاث، وتعيش كلٌ منهن حياتها، وعندما تستيقظ الكاتبة تجد فوق المكتب رزمة أوراق، تكتشف أنها نفسها الرواية التى كانت تكتبها”.

قال الروبوت: “هل أتوقَّع أن نسختها الكاتبة التى ظهرَتْ من الشاشة هى مَنْ كتَبَتْها وتركَتْها لها؟”.

“نعم، هذا صحيح”.

تأمَّلَها الروبوت لحظة، وقال: “هل يكون صحيحًا أيضًا لو خمَّنْتُ أنكِ أنت نفسك الكاتبة التى داخل روايتِك، أنتِ مَنْ تريدين الحصول على ثلاث نسخ منك؟”.

“هذا صحيح، أنا أتمنى أن أكتب طوال الوقت دون توقف، وفى الوقت نفسه أريد أن أعيش الحياة”، صمتَتْ لحظة: “الكتابة تعطينى كل شىء، وتمنع عنى كل شىء، لا أعرف كيف تفعل ذلك”.

“ألا تُرضى الكتابة جموحك، وتُعوِّضُك عن الحياة الحقيقية، أو ما يُسمَّىَ حياة حقيقية؟”.

فكَّرَتْ لحظة: “سؤال صعب، وربما سهل، أُفكِّر أحيانًا أثناء الكتابة أن هناك حياة تمضى، ويمكننى أن أعيشها، وعندما أكون فى الحياة، أفكر أن هناك كتابة تفوتنى، أنا أخلق كل ما أريده بالكتابة، لكنى أيضًا أريد أن أعيشه، أريده أن يترك فىَّ علامات واضحة”، نظرَتْ بعيدًا: “مع أىّ شىء أفعله غير الكتابة، مهما كان بسيطًا، ولا يستغرق وقتًا، يظلُّ ذلك الصوت بداخلى ينادينى لأعود إليها، هو لا يصمت، وأنا لا أهدأ، حتى أعود إليها”، نظرَتْ إليه: “هذا مؤلم، مُبهِج، غامض، ومـُهلِك بطريقة ما”.

“أفهمكِ، أعتقد ذلك”، قال الروبوت.

ابتسمَتْ له، رفعَتْ يدها بالكوب: “انتهت فقرة القهوة”، ظلَّتْ تنظر فى عينيه لحظة إضافية، وضعَتْ الكوب على الطاولة، اتجهتْ إلى باب المطبخ، خرجَتْ، أطلَّتْ عليه بوجهها، وقالت: “ما رأيك أن يكون اسمك ‘غمزة عين’؟”.

…………………

*مقطع من رواية بعنوان: ROBOTO3ESHK– روبوتو عِشْق

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون