كأس العالــــم – قصة ملاك مغّبر

كأس العالــــم - قصة ملاك مغّبر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد السنديوني

"أنا شاعر ولاعب كرة قدم

أنا تمثال الألم في مدخل القرية

في كل مرة أذكِر أصدقائي كم كانوا لاعبين كبار

ينظرون إليّ بعيون مطفأة ويكملون الحديث

كأنهم لم يسمعوا شىء

وأعود أنا فأنظر الى البعيد

مر الزمن

مر الزمن يا أصدقائي المباركون بالنسيان "

 

أيها الملاك المغبّر مازلت أراك تركض  بخفة و بلا توقف  ، صورتك  تحيطها القداسة أكثر وأكثر كلما تقدم بك العمر ، أنفاسك اللاهثة أجمل الأغاني التي  سوف يظل صداها يتردد في صدرك  ماحييت  ، كأني أراك  أنت ورفاقك / ياسر وجمال ، مخلوقات لاتعرف غير كرة  القدم ، مخلوقات خلقت من أجل كرة القدم ، ماتلى ذلك  لايحسب ولايعد ، على الأقل هذا ماتخبر به الملامح الأن بعد كل هذه السنوات .

 يتفتح  وعيّك على كرة القدم  في ملعب البلدة الذي يواجه  المقابر في مفارقة  سوف تهدد توازنك النفسي الى الأبد ، نظراتك تنتقل كما أفكارك  بين الملعب والمقابر  بين  مكان تتصاعد منه البهجة والضجيج والحياة  ومكان أخر صامت ومخيف ينتقل اليه اللاعبون ومعجبيهم ولايمكن رؤيتهم بعد ذلك ،

كانت الكرة  تطيش احيانا فتأخذ طريقها وسط  المقاير الصامتة ، إيقاع إصطدامها بالأرض واحد  لكنها هنا محاطة بالصمت والصدى والوحشة ، ترتطم في مقابر العائلات  كأنها تبحث عن عشاق من أزمنة مضت ، تبحث  أنت عنها بشغف حتى  تجدها  تلتقطها وتهرب مسرعا عائداً إلى الملعب وقلبك الصغير يدق بعنف ،

كانت الحياة أقوى في صدرك ومتعة اللعب  قادرة على هزيمة كل الأفكار المخيفة  ، لم  يكن لدى البيوت الفقيرة تلفاز  بل أعداد قليلة منه تنتشر  بين المقاهي وكان أحدها  في صالة في مركز الشباب  ،

هذه الملاعب التي رأيتها على الشاشة المضيئة ، عالم  آخر من السعادة  والفرح والألوان ، هؤلاء اللاعبين كل شىء فيهم خارق وياللعجب  ان اهدافهم يمكن اعادتتها  بالحركة البطيئة مرات ومرات  .

في كتاب كرة القدم المقدس الذي يحوي صوراً  فقط ،  والذي يحتفظ كل  لاعب أو عاشق بنسخته الخاصة  في حنايا قلبه ، أول صفحة في كتابك الخاص تبدأ في العام 1978   …. تبدأ من أجمل مكان في الذاكرة ،

 

دورة 1978 :

احتفال كبير يجمع كل عباقرة الكرة من انحاء العالم  ، هذه دورة كيمبس من الأرجنتين ، كوبيلاس من البيرو ، دينا ويونياك من بولندا ، رنزنبرنك من هولندا ، دورة ظهور الكرة الهولندية المبهرة وطريقة الطاحونة الدوارة    لكن كيمبس كان ايقونة هذه الدورة  وظلت صورته  وهو يحرز الأهداف بهجماته  التي يشنها على حراس المرمى  في جمال وقوة  لامثيل لهما  ، ظلت في ذاكرتي  أهداف  المبارة  النهائية  مع هولندا  التي أقيمت  تحت وابل من قصاصات الورق الملون  أطلقته الجماهير العاشقة … ظٌلمت هولندا  وبدأت عهدا طويلا من الظلم …… وظٌلم كيبمس .

 

دورة  1982

 زمن الاعجوبة الثانية من ريو دي جانير :

 

 أطلقت البرازيل جوقة من السحرة  خلبت لب العالم ،  أنظر  الى  قامة سقراطيس  إنها قامة ملِك  ،خطوات فالكاو  إنه مفكر  قبل ان يكون لاعبا  واستطاع أن يقنعنا بذلك ، زيكو  إنك تهينه عندما تقارنه بالأخرين ، أهدافهم  سجلوها  في مسرح  مجهز لذلك  وليس ملعب كرة قدم  ، لاحظ  أن حراس  المرمى لم ينالوا  شرف محاولة إنقاذ  تلك الاهداف التي أمطرت شباكهم  بل ظلوا في اماكنهم مسمّرين  ينظرون الى الكرة في طريقها الى الشباك ،

أعِد تلك الاهداف الواحد تلو الأخر  وانظر الى الحارس في كل مرة إنه في وضعية مضحكة لاتليق بلاعب دولي ، إسترجع هدف سقراط  الاول في روسيا  وأجمل هدف في التاريخ في نظري  الهدف الثاني  لـ (ايدر رقم 11)  في نفس المبارة  لقد أصاب  الاداء البرازيلي  البشر بالجنون في  القارات الخمس  ، وظن الجميع ان  كاس العالم مضمونة للبرازيل لولا ان تنظيما سريا إيطاليا إغتال هذا الحلم الجميل  مستعينين بمجرم  مُدان  أخرجوه  خصيصا من السجن  لم يكن له عمل  إلا  الإنقضاض بغريزته  الإيطالية على الكرات الضالة  أمام المرمى  اسمه ” باولو روسي،

 أذكر جيدا  ذلك اليوم يوم المبارة  قبل النهائية في رمضان قبل الإفطار إنقطعت الكهرباء في “سرسنا ”  فركضنا نحو المدينة  ونحن صائمين  ووجدنا تليفزيون في مقهى ،  سرعان ما تعادل فالكاو  بهدف رائع سجله بقدمه البسرى  وقبل النهاية بدقائق فعلها مجددا “باولو  روسي ” ، أعتقد أن سحابة من الحزن غيّمت على العالم أجمع  ومازالت  آثارها باقية الى اليوم ،

 

دورة 1986

 مارادونا (  وحش كرة القدم العاطفي)

طيّرت وكالات الأنباء اسمه بعد تألقه في  بطولة العالم للشباب  التي فعل فيها المستحيل ، بعد ذلك  صار  إسمه يتردد حتى في أكثر الأماكن النائية في العالم  وأكثرها عزلة  ، في  جزر المحيط ،  وفي واحات الصحراء ،  حتى في معاقل  القبائل  المرتحلة ، كانت صورته  على قمصان أطفال  لم يروا  كرة قدم في حياتهم  ،هيئّت الأقدار المسرح لهذه التحفة الخلابة كي تُشع في مخيلة العشاق الى الأبد ، تكوين مارادونا  الجسدي  القوي والطفولي  مع ملامح وجهه التي هي مزيج من البراءة  والأسى  كل هذا  لم يكن من قبيل المصادفة ،  لا أستطيع  أن أفسر الإحساس الذي كان ينتابني  عندما تصل الكرة  الى قدمي مارادونا وبالتأكيد كثيرين مثلي  ، لقد كان كل شىء يتوقف حتى الأنفاس في الصدور ، لقد وضع مارداونا  كرة القدم في مصاف  المعتقدات  الكبرى على مقياس الوجدان البشري ،   وهذه هي مشكلة  كل موهبة تأتي بعد مارادونا  التي لايمكن حلها ،

بل إني أعتقد أن المسار الذي إتخذه  في  طريقه ليحرز  الهدف المعجزة في إنجلترا  هو جزء  من  مكيدة حربية من الطراز الرفيع استخدمت لأول مرة في التاريخ للرد على  ترسانة الإنجليز التي  ضربـــــت   الجيش الارجنتيني  في جــــزر ( الفوكلند ) قبل  تلك المبارة بايام ،

فجأة صار مارادونا للأرجنتين هو  البابا والمطرب العاطفي وقائد الجيش  وبطل كاس العالم ـ  من عبر التاريخ إجتمعت له كل تلك الألقاب ؟

بالنسبة لي  لم يستطع أحد  أن  يتخطى  تلك القمة  التي وصل إليها مارادونا  ، بنهاية  دورة عام 1986 كنت قد  تجاوزت  مرحلة  الدراسة  وأصبحت أكثر  إنخراطا في مشاكل الواقع  ، إستيقظ  الملاك  المغبّر  المسكون بالشعر على  تحديات المستقبل على حقيقة أن العالم  ليس في حلاوة لعب كرة القدم  وليس غامضا  صامتاً  كالمقابر  بل هو  أقسى  ، حيث كتب عليك أن تكون شخصاً  آخر  وأن تتدرب على ذلك كل يوم  بجدية  كاملة ،  أن تصبح كقروي متحمساً لكل ما لاتحب في المدينة كي تظل على قيد الحياة ، حيث لم يعد يناسبك  لعب كرة القدم  وحيث لاتستطيع أن تفتخر بكونك شاعر  مجهول ،

 

 عدت بعد  ذلك  بسنوات أكتب قصيــدة كأس العالـــم في كتابي الثالث ” اللاعب ” ، الديوان الذي  كرّسته للاعبي كرة القدم من عائلة السنديوني  وفريق سرسنا المغمور ،  سرسنا حيث  الملعب  يواجه المقابر .

 

(من ديوان اللاعب)

كأس العــالم

 

كاس العالم

كان يزيِن واجهة محل فقير رواده من غبار

كأس العالـم

أمل فريق سِرْسِنا المغمور

فريق سِرْسِنا المغمور

الذي لا يعقد عليه عشاقه أي أمل ،

***

كاس العالم ثمنه عشرون جنيهـا

جُمعت من الصدور الحانية للأمهات

ومن محافظ  الآباء الضخمة الفارغة

التي تنتهي بسلسلة غائرة في اللحم ،

***

كأس العالم

في ذلك النهار

حمله حشد إلى النادي

وسجله موظف

تحت بند ” ذكريات،

***

كأس العالم

لمع كنجمة في السماء

عندما جاء يحمله  نقيب

وسلمه إلى المحافظ

وأمر عساكره أن يعطوا ظهورهم للملعب

عندها نزل الفريقان

وسط الهتاف المجنون الذي إنتبه له

الفلاحون في الحقول البعيدة ،

***

كاس العالم

الذي لم يستقر فوق الطاولة حتى أُسنِد بحجر

هو المجد الذي من أجله أفرغت جرارات حمولتها من الجماهير

الجماهير المتحمسة التي جاءت برفقة الطيور والخضروات ،

 ***

عبر مُكبِر صوت مزعج

ترددت أسماؤنا لأول مرة

مكبر صوت

أفسد وحده قيلولة ثلاث بلاد ،

***

نحن الفريق الذهبي

نجوم سرسنا

الإسم الذي إخترناه على عجل

بناءً على طلب المنظمين

الذين أخذوا ما في جيوبنا من جنيهات قليلة

وألقوا إلينا بالمفاجأة

”  يجب أن يكون لفريقكم إسم

 

نحن اللاعبون

ذوو الألقاب المضحكة

التي ترسخت مع الأيام

حتى محت بكل محبة أسماءنا الأصلية

صرنا بين يوم وليلة

أبطال كأس العالم

 

كأس سرسنا وأجوارها.

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار