قطب الرحى في “وراء الفردوس”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبدالكريم يحيى الزيباري

رواية منصورة عزالدين (وراء الفردوس)صدرت عن دار أونيون السويسرية باللغة الألمانية مؤخرا، وترشحت للقائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية، تبدأ بمشهدٍ كقطبِ الرحى، سيدور مع القارئ دوران الدَّم في عروقهِ.

بجمل مبتورة همنغوايِيَّة سريعة (كنمرة هائجة نزلت سلمى رشيد درجات سلالم بيتهم الثماني، يتبعها خادم يرزح تحت ثقل الصندوق الخشبي الضخم الذي يحمله، وقفت في منطقة جرداء بالفناء الخلفي للبيت الذي فقدَ كثيراً من رونقهِ.. غير مهتمة بالحر..لم تنتبه للثعبان الأسود..ولا للفأر الرمادي السمين) في الفناء الخلفي وليس بالفناء الخلفي. يتحرك السرد حول هذا المشهد بصورٍ لصراع القديم والجديد، ومقاومة بقايا العقل الأسطوري في محاولات المجتمع المصري تحقيقَ ذاتِهِ الإنسانية، ودرجة وعيه بحريته وإرادته، استناداً إلى تاريخٍ حقيقيٍّ أو خيالي: إرهاصات القرار الحكومي بإغلاق مصانع الطوب حَفَاظَاً على الأراضي الزراعية في آب 1985/ ص106، كدوستويفسكي في الجريمة والعقاب تناول قانون إصلاح النظام القضائي وإلغاء القنانة، وإدخال نظام الحكم الذاتي 1861- 1864، وإشاعات فشل زواج نظلة بسبب غيرة زوجها الجني، وشفاؤها بسبب مسامحته لها بعدما عاقبها لأربع سنوات، والحقيقة أنَّها ترفض أن يلمسها زوجها، فيطلقها، بسبب عقدة لولا، وإشاعة الناس عن خوفها انكشاف فقدان عذريتها. حاجة أفران مصانع الطابوق إلى قرابين بشرية، وغير ذلك، المشهد الأول سيتكرر أكثر من مرة، ليكتشفَ القارئ في نهاية الرواية، أنَّ سلمى التي أحرقت صندوق والدها، نَحَّت أوراقهُ جانباً، (لم يكن مضطراً لكشف نفسه أمامها إلى هذه الدرجة/ص220)أخذت نسخة من روايتها لتسلمها إلى جميلة في شقتها بالمعادي/ص221. لكنَّ القارئ لم يرَ لجميلة ميولاً أدبية، كما لم يعرف بماذا اعترف والدها الماجن رشيد: هل هو الذي اغتصبَ لولا؟ هل هو الذي اغتصبَ الفتاة المجنونة بدر؟ لماذا حالما قرأت سلمى الأوراق بَدَتْ كنمرة هائجة؟ ألا يستدعي هيجان النمرة ترويضاً، أو سيارة تصدمها؟ لماذا تركت القرية وعادت إلى القاهرة؟ لَمْسَة تشويق لكلٍّ جملةٍ في المشهد الأول: عالج أسامة أنور عكاشة أبسط عمل شكسبيري(ترويض النمرة)في مسلسل كوميدي عام 1985، بعنوان(وأدرك شهريار الصباح) بطولة يحيى الفخراني ونورا. لماذا فقدَ البيت الأبيض(بيت رشيد) رونقه والعائلة تزداد ثراءً؟ بطلة الرواية سلمى رشيد، عمرها 32، خرجت بعدما اعتكفت شهراً في غرفتها، لتحرق صندوق يحوي أغراض والدها، خالتها لولا حملت من دون زواج فانتحرت، عمتها نظلة فشلت ليلة الدخلة وانتابتها حالة مرضية، هستيرية لرفضها أنْ يلمسها زوجها، سلمى تشاهد عمتها نظلة (وهي تلون شعرها بالحناء الواردة من الفاو/ص25) لم تبقَ مزارع الحناء في قضاء الفاو جنوب البصرة، ولم يبقَ النخيل، لم يبق شيء، غير شمسٍ حارقة وميت ينوحُ على ميت. تكرار للمشهد الأول مع تغييرات طفيفة(وضعت أوراق الرواية التي تكتبها في حقيبة يدها، وخرجت متجهة إلى بيت أبيها في القرية.. بعد شهر تقريبا كانت سلمى تنزل درجات سلالم بيتهم الثمانية كنمرة هائجة../ص16). سلمى(تخرج من شقتها الصغيرة متوجهة مبكرا للجريدة التي تعمل بها/ ص82)(هو نفسه البيت الذي نزلت سلمى رشيد درجات سلالمه الثماني كنمرة هائجة بعد ما يقرب من ربع قرن على بنائه/ص113) (في صباح ذلك اليوم الذي أضرمت فيه سلمى النيران في الصندوق الخشبي/ص145)محررة في صحيفة وتكتب رواية وتقرأ(الحب في زمن الكوليرا)وتشبه نفسها بــأليس في بلاد العجائب. تنظِّر لكيفية كتابة رواية ص 86- 87. وتنوِّه بقصة بروخس(التاريخ العالمي للعار). ربما كانت رواية(وراء الفردوس)هي النسخة العربية من(الصخب والعنف): الصخب والعنف/ وليم فوكنر وراء الفردوس/ منصورة عزالدين، قصة حضارة: جيلين متعاقبين، شخصيات تتعاقب السرد بضمير الغائب: سلمى، جميلة، نظلة ثريا المؤلفة: تتداخل مع شخصية سلمى. قصة حضارة، رواية جيلين متعاقبين، شخصيات تتعاقب السرد بتقنية ضمير الغائب (بنجي، كونتن، جاسن، المؤلف).

الخالة لولا حامل قبل الزواج، تنتحر بالزرنيخ. فشل زواج العمة نظلة. فشل زواج سلمى. كاندس يطلقها زوجها حالما يكتشف أنها حامل من رجلٍ آخر. ابنتها تعشق لاعب سيرك تسرق النقود من غرفة عمها وتهرب معه.

سلمى ونظلة تنوءان بعار لولا. كونتن ينوء بعار شقيقته كوندس حتى ينتحر  الأب كمبسن ينعكفُ على الكتب والويسكي، زوجته تقضي وقتها في فراشها، لإصرارهما على مقاومة الحياة الجديدة.  العمة نظلة تنعكف على قراءة القرآن والصمت، وإصرار البقية على مقاومة الحياة الصناعية. رشيد متعلق بشقيقته نظلة، جابر يعتقدها حيلة للاستيلاء على نصيبها، ثريا زوجة رشيد تغار من نظلة. كونتن يحب شقيقته كاندس، جاسن يكرهها وابنتها كونتن ويعاملها بقسوة يقول: عاهرة يوماً عاهرة كل يوم..الخ. خالد يستمع إلى عمِّهِ سميح، عن مجون والده رشيد، حتى يُصاب بكآبة وينطوي على نفسهِ، كذلك يفعل جاسن بكونتن الصغيرة، مع تفاصيل صغيرة: سلمى(اخذت تقرِّب يديها من النار، حتى ليخيل لمن يراها، أنَّها على وشك شيِّهما/ص8)وكذلك كانت كاندس تفعل هذا، بسبب شخبطات الشيخة على جسد سلمى بقلم الفوبيا، يقرر والدها ألا يرسلها إلى الشيخة شمس، كذلك كانت إدارة المدرسة تشكو كونتن ابنة كاندس. خالد بن رشيد الماجن متدين ومستقيم، وهشام بن جابر المتدين، ماجن وشرير، شخصيات الجيل الأول متداخلة مع الجيل الثاني: الأم رحمة، زوجة عثمان، تزوجته بعد موت شقيقتها، لتربي ابنها سميح، وهي والدة جابر ورشيد ونظلة. جابر زوجته حكمت ابنة خالته وابنهما هشام، طلقها وتزوج بشرى، هشام يفضُّ بكارة جميلة ابنة صابر وزوجة أبيه بشرى، ويخطب سلمى لعشرة شهور، ماجن لعوب، جميلة تنهمك في دراستها، جرحها يدفعها للتفوق واللامبالاة، وغير نادمة على تسليم نفسها بتلك السهولة إلى هشام، الذي هجرها بعد ذلك مباشرةً. رشيد زوجته ثريا، سميح لم ينجب من زوجته خديجة (أخٌ غير شقيق، لما ماتت والدته تزوج والده عثمان بخالتهِ رحمة، فأنجبت له جابر ورشيد). أبناء رشيد: سلمى، هيام، خالد. جميلة بنت صابر، مصطفى ابن معاون الزراعة، شقيق ثريا ولولا وأنوار، مهندس معماري، أنوار العانس مقتنعة بأنَّها ضحية استهتار شقيقتها لولا(مَنْ كان سيفكر في الزواج من فتاةٍ حملت أختها من دون زواج؟/ص170). مارجو بنت ميشيل والدها شريك مصطفى شقيق لولا وثريا. أبناء عوف الصياد. جرجس وزوجته عايدة قبطيان، زيارة ثريا وحماتها إلى بيتهم يجسد علاقة الأقباط بالمسلمين في مصر(تذكرت عايدة أن لا أحدَ من القرية شرب أو أكلَ أي شيء عندها..تمتمت بصوت منخفض: مسلمين أوساخ/ص142)رغم قوله تعالى(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)المائدة: 5. معتقدات الأجيال السابقة ممن أخذوا تعاليم الإسلام من أفواه شيوخ التكيات، بشرى زوجة صابر ترفض أنْ ترتدي ابنتها جميلة ملابس سلمى القديمة، شبكَ جلباب صابر في سير الخلاط الذي جذبه وفرمه، لتدعم خرافات الفلاحين أنَّ المصنع يستدعي قرابين بشرية، جابر رغم تدينه يواقع بشرى زوجة صابر قبل أن يتزوجها، ويعطي شقيقه سميح إيراداً ثابتاً عن حصته 300 جنيه أسبوعياً، رغم أنَّ أرباح المصنع متفاوتة من أسبوعٍ لآخر، العجل الذي ذبحه جابر لا يشبع نهم المصنع للدماء البشرية، كَثُرَت حالات خطف الأطفال، فقالوا: لقد تحولوا إلى قرابين بشرية كي لا تنطفئ نيران الفرن، حوادث مريعة ضحيتها فلاحون لم يتدربوا على الانتقال من حراثة الأرض إلى العمل في المصانع/ص48. من طفولة جميلة البائسة إلى الشابة المثقفة، قفزة(بعد ما يقرب من ربع قرن، ستسير امرأة شابة في الأماكن والطرقات نفسها/ص51)هذه القفزة الماركيزية، أسرفَ باموك في استخدامها في روايته (وكان في حضنه حوض سمك ياباني سيسلي أحفاده بعد خمسين سنة/ الكتاب الأسود-ص17) (وبحسب ما حكاه جلال لغالب ورؤيا، فإن الحمّال القادم لهذا العمل والمتخصص بنقل الأشياء التي تحتاج إلى دقة مثل الثلاجة والبيانو هو الحمّال نفسه الذي جاء قبل اثنتين وعشرين سنة لينقلها إلى الطابق الملحق. ولم تفعل السنوات به شيئا سوى جعل رأسه أقرعاً/ الكتاب الأسود –ص36). جابر يتزوج بشرى، حكمت ترى في منامها جابر يناولها باقة نرجس ويناول بشرى باقة آس، وهامش أنَّ باقة الآس عند ابن سيرين وابن النابلسي زوجٌ باق، نظلة تفسر رؤيا حكمت: سيطلقك زوجك لأنَّ النرجس يذبل أسرع من الآس/ص59. وفعلا طلَّق ابنة خالته حكمت واستبقى بشرى. في يوم الجمعة ساعة خير لا يردُّ فيها الدعاء، والجمعة كله خير، لكن في الرواية(يوم الجمعة به ساعة نحس/ص61)الصواب فيه، وليس به، والدة جابر تعترض على تشغيل رزق لأنه نصراني، والدة جابر حالما ترى عايدة زوجة رزق(يا أهلا بالحبايب/ص76)مارجو ابنة المهندس ميشيل تعرِّف التحضر(تسمية الأشياء بمسمياتها/ص78) ولأنَّ جميلة معجبة بمارجو وحياتها المتحررة، التي تجذب هشام، تسمي أبناء عوف الصيد بأسمائهم(أحمد، ربيع، ياسين، كرم)بينما سلمى تسميهم بأبناء الصياد، وأهل القرية يسمون النيل البحر، والقاهرة يسمونها مصر. (هيام مدللة أمها الصغيرة/ ص170)هذا يعني أنَّ هيام أصغر من سلمى، (بدا لسلمى أنَّ الهدف الرئيسي لأختها الكبرى هو المساومة/ص171) هذا يعني أنَّ هيام أكبر من سلمى. حالات تناص كثيرة مشروحة في الهوامش: أساطير مصرية وعالمية كالأسطورة الصينية(أرض أزهار الخوخ)، الأكلة كشميرية، ، الطريقة الحروفية في تفسير الأحلام (يصمت رزق- الذي كان مختلفا تماماً عن بطل “ المهدي” باستسلامه الرومانتيكي لمحاولة أسلمتهِ/ ص139)هامش رقم 6: “ المهدي” رواية لعبدالحكيم قاسم. حدوتة كمونة: هامش رقم 7، ص153 (حدوتة شعبية شهيرة من وسط الدلتا، كتبتها المؤلفة بتصرف من الذاكرة)وغيرها من حالات التناص سواء المشروحة في المتن أو في الهوامش، ليس للروائي تفسير عملهِ الأدبي باعتباره الكاتب، كما ليس لهُ أنْ يشرحَ لنا مواقع التناص، لأنَّ شروحه سوف تحيلُ إلى أصلٍ ثابت يتناقض مع ما للتناص من طاقة نصيَّة منتشرة بلا حدود، كحوارٍ مستمرٍّ يتجدد بين النصوص، فضلاً عن أنَّ كلَّ هامشٍ أو شَرحٍ سيقطع لذة القراءة بانفصال سياق السَّرد وكأنَّها تمَّ إقحامها بعنف قسري يفسد شعرية النص، ويُحبِطُ النص من طموحات النص المفتوح، ويُقرِّبه من السيرة الذاتية، استناداً إلى دوالٍ أخرى كطريقة تسريح شَعْر نجوى إبراهيم المنوَّه بها، تكاد تكون عينها طريقة تسريح الكاتبة، والبطلة سلمى تعمل في جريدة وتكتب رواية، والكاتبة كذلك. وأعتقدُ أنَّ الهوامش والشروح جاءت نتيجة ضغوط من اعتقاد أنَّ قارئاً لن يفهم الإحالات، وما يضرُّ الكاتب أو القارئ ألا يفهم؟ وكما قال أبو تمام: لم لا تفهم ما يُقال؟ كما أنَّ (فرويد قدَّم مقالته في دستوفسكي مُتَنَصِّلاً بقوله “في مواجهة الفنان المبدِعْ يجب على التحليل أنْ يلقيَ بِسِلاحِهِ- وكان كارل غوستاف يونغ أكثر ارتياباً ومقتنعاً أنَّ “الفعل المُبْتَدَعْ وهو النقيض لمحض رد الفعل: سيروغُ دائماً عن الفهم البشري”).

 

 ك.ك. رونفن- قضايا في النَّقد الأدبي- ترجمة الدكتور عبدالجبار المطلبي-1989- دار الشؤون الثقافية- بغداد-ص177

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم