قصص بالسمن والسكر

موقع الكتابة الثقافي art 11
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شيرين فتحي

أخبرني أحد الاصدقاء أن إحدى قصصي القصيرة تصلح للتحول إلى رواية. لم تكن المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الكلام. أحدهم اتهمني من قبل أنني أهدر العديد من الأفكار مع القصص القصيرة متهما إياي بالتعجل وعدم الصبر. فالعديد من تلك الأفكار يسهل تحويلها إلى روايات ببعض الاهتمام وإعادة الكتابة.

لا أعرف الطريقة التي يرون بها القصة القصيرة. بعضهم يتعامل معها كأنها حكاية ناقصة أو مقتضبة، أو كأنها ليست في حاجة إلى معاناة للبحث عن فكرة وقماشة جيدة للكتابة. وأن الأفضل أن نحتفظ بالأفكار الجيدة لكتابة الروايات.

أنا أحب أن أخلص لما أكتب حتى وإن لم يتعد العمل أو النص عدة أسطر. يشبه الأمر المرأة التي لا يجب أن تقدم على طهو الأطعمة دون أن تكون لديها أدنى خبرة بالطهي والمقادير.

في الصغر حين بدأت دخول المطبخ، كان هذا في السادسة أو السابعة من عمري. كنت أستغل فترة غياب والديّ في العمل الصباحي، وأخبر اشقائي أنني بصدد اختراع أكلة جديدة. أخلط الدقيق بالحليب بالسكر بالملح بالسمن والفانيليا وربما أضع بيضة او اثنتين وأقوم بخبز ما صنعته في الفرن. وكل مرة كانت النتيجة أطعمة واشياء غير مستساغة ألفها جيدا في ورق الجرائد القديمة قبل أن القيها في سلة المهملات.

كانت أمي تجيد طهي كل شيء تقريبا، أصبحت لها مكانتها في عائلة أبي بعد أن كان الجميع يتعامل معها بحذر على أنها وافدة من بلدة غريبة غير بلدتهم. لم يكن مقنعا أن تلك الطبيبة الشابة القادمة من طنطا ستصبح ست بيت من طراز خاص. أصبح الجميع يستعين بها للطهي في المناسبات والأفراح. كانوا يطلبون منها أصنافا بعينها تجهزها لوليمة أو لعشاء عروس في ليلة زفافها. كنت أسعد بالفرجة على الأقارب وهم يتتابعون للخروج من حجرة السفرة في بيتنا كالسكارى بعدما مسحوا الأطباق وكل ما عليها من أطعمة.

بدأت رحلتي الحقيقية للطهي في الثامنة حين علمتني أمي كيف أطهو الأرز. كنت متبرمة، لم تذكر أي من زميلاتي شيئا عن دخولها إلى المطبخ. بدأتُ أتعلم الطبخات وأساعدها في التقطيع والتقليب في صمت، لم أعد أخبر أحدا بما أفعله وكأنه أمر مخجل لا يجوز الحديث عنه خشية التعرض للسخرية. ففي الوقت الذي كان حديثهم يقتصر على المدرسة أو الألعاب التي نخترعها معا أو حتى عن قصص الحب الأولى.. كانت لي أنا خبرتي ببعض الأمور التي لا يعلمون عنها أي شيء لأنها ببساطة لم تكن مناسبة للحديث عنها في مثل هذا العمر.

قبل أن أدخل مدرستي الاعدادية الجديدة كنت أجيد طهي الأرز وكل أنواع الخضروات. كنت أميز أي الأنواع في حاجة لتقلية من البصل والثوم قبل إضافة الخضار وعصير الطماطم وأيها لا يحتاج سوى البصل فقط.

تعلمت صناعة الكيك بمقادير لا تخيب أبدا. كل ما كان عليّ أن أحفظ المقادير جيدا، وأحسب وقتي قبل فتح الفرن لأختبر تمام النضج بغرز السكين في منتصف الكيكة بالضبط. ربما كان الكيك هو الشيء الوحيد الذي تلتزم به أمي في المقادير بينما بقية الوصفات والحلويات تصنعها بالبركة . كنتُ أثور عليها كلما ذكرت كلمة “البركة” بدلا من أن تعطيني مقادير ثابتة لكتابتها وحفظها. بتكرار وقوفي معها وملاحظتي لما تعمل أصبحت لي بركتي أنا أيضا في ضبط الأكلات. ربما كانت البركة تورث فترثها بناتي أيضا كما ورثتها من جدتهم. تعلمتُ المزيد من الأكلات كنت أنقش الكحك وأدير ماكينة البسكويت. أخلط وأعجن وأقلب، أحفر الباذنجان والكوسة بالمقوار الخاص, ألف أوراق الكرنب وورق العنب، وأصنع القتر لسقاية صواني الكنافة والبسبوسة وأحرق السكر للكريم كراميل المنزلي.

حين بدأت أمي تعلمني كيفية صناعة الحلوى كالكنافة والبسبوسة. لم تعجبني كميات السمن التي كانت تستخدمها. فقررت أن أصنع طبق الحلوى في المرة القادمة بمقاديري أنا.

جهزت أشيائي. أذبت كمية السمن التي قررتها والتي كانت تعادل نصف ما تضع أمي على النار. جهزت الشربات الدافئ بخلط السكر مع الماء وإضافة قطرتين من عصير الليمون وتركه على النار الهادئة حتى يسمك قوامه ويصبح مناسبا.

فركت الكناقة جيدا وفصلتها عن بعضها قدر المستطاع, رصصتها في طبقتين فصلتهما بحشوة من الكريمة التي تميزت أمي في إضافتها للكنافة في وقت لم نكن نعرف فيه إلا حشوة السوداني والزبيب مضافا إليهم جوز الهند. وزعت كمية السمن التي قررتها على صينيتي وأدخلتها الفرن، ثم سقيتها بالشربات الدافيء بعد خروجها بدقائق كي لا تتعجن. ولكنها كانت يابسة وغير طيبة بالمرة. تركتني أمي يومها أفعل ما يحلو لي وهي على ثقة بأنني سأعدل عن فكرتي بعد وصولي للنتيجة المحتومة، وقد كان.

بعد زواجي وانجابي للأطفال وبحثي عن طرق طهي صحية، استطعت أن أقلص كمية السمن المستخدمة في الطهي إلى النصف واستطعت الاستغناء عنه تمامًا في الكثير من الأكلات مع الاحتفاظ ببعض المذاق، وإن ظلت القاعدة التي تعلمتها من أمي دائما في رأسي أن بعض الأكلات يجب أن نخدمها جيدا كي تخرج لنا بالمذاق الذي نتمناه.

هذا بالضبط ما كنت افعله مع قصصي القصيرة، أوالكتابة عمومًا. أحاول أن أخدمها بكل ما أملك. أفرط يدي في السمن والسكر. أضبط حرارة فرني وأنتظر الوقت المناسب لفتح الفرن كي لا تخرج بصورة نيئة أو غير مرضية.

 

 

 

مقالات من نفس القسم