قصة ساعة من الزمن

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 24
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة: كيت شوبان

ترجمة: نبراس الحديدي

كانت السيدة (ميلارد) تعاني اضطراباً في القلب، فكان من الواجب إبلاغها نبأ وفاة زوجها بأكثر الطرق عناية ولطفاً.

تولَّت شقيقتها (جوزفين) مهمة إخبارها بما حدث مستخدمة عبارات متقطعة وتلميحات مبهمة، كان (ريتشارد) صديق زوجها واقفاً إلى جوارها، وهو أول من علم بالخبر حيث كان جالساً في مكتب الصحيفة عندما وصلهم نبأ كارثة السكة الحديدية واسم (برنتلي ميلارد) يتصدَّر قائمة القتلى، انتظر لبعض الوقت حتى وصلته برقية ثانية تؤكد النبأ، فهرع إلى منزل صديقه مستبقاً أية محاولة متسرعة من الغير لإبلاغ الزوجة الخبر الحزين دون اكتراث ومراعاة لمشاعرها.

لم تكن ردة فعلها كردة فعل كثير من النساء في مواقف مشابهة، حيث بقيت مسلوبة الإرادة عاجزة عن استيعاب ما جرى، ثم انفجرت بالبكاء وارتمت فجأة بين ذراعي أختها، وعندما هدأت عاصفة الحزن سارعت مبتعدة إلى حجرتها وطلبت ألا يلحق بها أحد.

جلست على كرسيها الوثير قبالة النافذة المفتوحة وغاصت فيه من شدة الإنهاك الذي استنزف جسدها وكاد يجثم على روحها. كان بإمكانها من خلال المساحة الممتدة أمام بيتها رؤية قمم الأشجار تهتز وهي تستقبل الربيع الجديد، حيث رائحة المطر تفوح في الأرجاء. في الشارع أسفلها كان بائع متجول ينادي على بضاعته، ورغم صوته المرتفع تبادر إلى مسمعها صوت خافت لأنغام أغنية يُرنّمُها شخص ما من بعيد وعدد لا يُحصى من عصافير الدوري يغرّد على حافة الشرفة.

كانت السماء قبالة نافذتها ناحية الغرب تبدو كرقع زرقاء مبعثرة هنا وهناك عبر الغيم المتراكم فوق بعضه البعض. أسندت رأسها على حشية مسند الرأس ساكنة دون حراك باستثناء تنهيدة خافتة انبثقت من حلقها وانتشلتها كطفل صغير من حلم جميل.

كانت السيدة ميلارد شابة على قدر وافر من الجمال والوقار، خطوط وجهها تنمُّ عن القوة وضبط النفس، لكن الآن لا يبدو في عينيها سوى نظرة باهتة تسمَّرت على إحدى تلك الرقع الزرقاء في السماء، لم تكن مجرد حملقة خاطفة بل دلالة على ذهن متقد.

هناك شيء ما متجه صوبها، كانت تنتظره بخشية دون أن تعلم ماهيَّته! شيء ماكر ومراوغ تصعب تسميته، لكنها شعرت به ينسلُّ عبر زرقة السماء، متجهاً نحوها عبر الأصوات والألوان والروائح التي تعبق بالهواء. أخذ صدرها يعلو ويهبط في اضطراب واضح، بدأت تعي ذلك الشيء الذي يقترب ليستحوذ عليها، أخذت تحاول جاهدة إبعاده عنها بإرادة مهزوزة، تماماً كيديها البيضاوتين النحيلتين، ولما شعرت بأن قواها خارت, تسلَّلت همسة صغيرة من بين شفتيها المنفرجتين قليلاً، ثم عادت لتكررها بأنفاس متقطعة مرة تلو أخرى

“(حرة، حرة، حرة!)”

تلاشت النظرة الباهتة من عينيها، لتتبعها نظرة ثاقبة مشرقة، مصحوبة بنبض متسارع يضخ دماء دافئة ويمنح الاسترخاء لكل ذرة في جسدها. لم تتوقف عن التساؤل حول ما إذا كان الشيء الذي استحوذ عليها إرادة وحشية أم شيء آخر، في الوقت ذاته سيطر عليها شعور داخلي دفعها لتجاهل التفكير في أمر كهذا.

كانت تدرك أنها ستبكي مجدداً عندما ترى يدي زوجها المرهفتين الناعمتين يلفهما رداءُ الموت، والوجه الذي لم يَرْنُ إليها بغير نظرات الحب قد بدا شاحباً لا حياة فيه. غير أنها أبصرت ما وراء ذاك المشهد القاتم سلسلة طويلة من السنوات القادمة لا يشاركها فيها أحد، وهي تفتح ذراعيها مرحبة بقدومها. ليس من أحد تحيا لأجله في السنين المقبلة، لذا ستحيا لنفسها فقط. لن يتمكن أي شخص مهما عَظُمت إرادته من فرض سيطرته عليها أو التدخل في شؤونها الخاصة ورغباتها، فلا أحد يملك الحق في التطفل على شريك العمر؛ سواء كان ذلك التطفل بنية حسنة أو سيئة، فإنها الآن وفي لحظة تجلّ لا تراه سوى جريمة يستحيل غُفرانها.

رغم أنها أحبت زوجها بعض الأحيان، إلا أنها كانت لا تطيقه معظم الوقت، ما الفارق؟ ما الذي يعنيه الحب، ذلك اللغز المحير، في مواجهة هذا القدر من تأكيد الذات الذي أدركته كأقوى دافع في وجودها.

“حرة، حر أيها الجسد، حرة أيتها الروح” استمرت تتمتم.

كانت (جوزفين) راكعة عند باب الحجرة المغلق وشفتاها على ثقب المفتاح تتوسل الدخول قائلة:

افتحي الباب يا لويس، أتوسل إليكِ، لا تؤذي نفسك، ما الذي تفعلينه يا لويس؟ بحق السماء افتحي الباب!

اذهبي أنا لن أؤذي نفسي، ردت عليها.

كانت تحسُّ وكأنها تشرب إكسير الحياة عبر النافذة المفتوحة.

اندفع خيالها منطلقاً بشغب يجوب أياماً تنتظرها، أيام الربيع، أيام الصيف، كل أنواع الأيام القادمة التي ستغدو ملكاً لها. تضرَّعت بدعاء قصير أن تكون حياتها أطول وهي التي كانت البارحة تفزع من فكرة الحياة المديدة.

نهضت أخيراً وفتحت الباب تحت ضغط من إلحاح شقيقتها، كانت عيناها تلمعان بنظرة انتصار محموم، تتبختر في مشيتها وكأنها إلهة النصر، تأبَّطت خصر أختها وأخذتا تهبطان السلالم حيث كان (ريتشارد) ينتظرهما في الأسفل.

قام شخص ما يفتح الباب الخارجي باستخدام المفتاح، كان القادم هو (برنتلي ميلارد) زوجها ذاته وعليه القليل من وعثاء السفر، وفي يده مظلة وحقيبة سفر صغيرة يحملها بهدوء، لا تظهر عليه أية علامة لأثر حادث سير ولا يبدو حتى أنه سمع بحدوثه. وقف مذهولاً أمام صرخة (جوزفين)

الثاقبة وحركة صديقه (ريتشارد) السريعة نحوه ليحجبه عن مرأى زوجته، لكن يبدو أن ريتشارد تأخر كثيراً. عندما أتى الأطباء لفحصها قالوا إنها قضت نحبها جراء نوبة قلبية سببها انفعالات الفرح الشديد!!

………………..

*كيت شوبان: كاتبة قصص قصيرة وروائية أمريكية، من رواد الأدب الأنثوي في القرن العشرين. كتبت بين 1892 و1895 عدداً من القصص القصيرة منها للأطفال ومنها للكبار كانت تنشرها في مجلات مثل ذي أتلانتيك وفوغ وذا سينتشوري ماغازين. من أعمالها الكبرى مجموعتان قصصيتان هما «جماعة بايو» (1894) و«ليلة في أكادي» (1897)، ومن أهم قصصها القصيرة «طفل ديزيريه» (منشورة في سنة 1893) و«قصة ساعة» (صدرت في 1894) و«العاصفة» (الصادرة في 1898). حصلت كيت شوبان على اعتراف واسع بعد مرور عشرة سنوات على مماتها بصفتها من كبار مؤلفي زمانها.

مقالات من نفس القسم