قصة البعد الثالث.. قراءة في مجموعة “اعتقال الغابة في زجاجة” لأنيس الرافعي)

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ركاطة حميد*

لعل تجربة الكتابة عند القاص المغربي أنيس الرافعي بقدر ما تخلق الدهشة القصوى تخلف كذلك انطباعا بالغرابة القصوى ، سواء من حيت عتبات المجوعات ،أو ما يرافقها من تسميات خاصة ، أو إرشادات مساعدة ،أو هوامش دالة على معنى من المعاني أو مختزنة لجزء من حقائقه .

كتابة اتخذت خطا تصاعديا نابذة ما وراءها بقوة وهي تشيد على أنقاض المعنى أو الفكرة الجديدين قصصا قد تتناص كثيرا مع معطيات الواقع في بعض تفاصليها، لكن في حقيقة التحليل ما يضفي عليها طابعا غرائبيا هو تكرار الصوت واللغة وإيقاع الجملة الواحدة وكأنها إيقاعات منفلتة لمرور قطار سريع بشكل مفاجئ .

لكن، دعونا نتساءل في بداية هذه الورقة : لماذا قسم القاص مجموعته اﻷخيرة "اعتقال الغابة في زجاجة " إلى أربعة أجزاء يحمل كل منها ملمحا من ملامح عتبة المجموعة وكأنها مساهمة في التنظير لأفكار معينة أو تبرير لطرح جمالي ما ؟.

بقدر ما نسعى للبحث لدى الكاتب عن مبررات بقدر ما يزج بنا داخل زجاجتة الصغيرة ليتم اعتقالنا. فقصصه الشفافة تتشكل بقوة كلما نفخت فيها روحا جديدة ، لكن لماذا تبئير مكون “طبيعي”(الغابة) وتقزيمه إلى هذا الحد المذهل؟ هل لصعوبة التحكم فيه، أم لكون الاعتقال هو وجه آخر لملمح ومكونات ستبوح بمكنوناتها نصوص من قبيل : ( الشاطئ / الصدع / الزوبعة / الكابوس / القربان) ؟ عناوين دالة على المجال والألم والثورة والخوف والتقديس والموت ، في امتدادها الطبيعي والأزلي لتشكل الحياة وكأنها سلسلة تقصي من حساباتها مؤثرا حقيقيا على المجال (هو الإنسان) . وهي ملاحظة يمكن تسجيلها في الجزء الأول” مساهمة في تدمير الإيقاع ” ما منح النص ملمحا ﺇيكولوجيا خاصا بطرح فلسفي لأسبقية “الطبيعة” على” الإنسان”، الذي يمكن عده ﺁخر من التحق ليمارس سيطرته بالقوة على مكونات سابقة علية ولها حق السيطرة عليه غير ﺃنها تسلط عليه قوة مماثلة أو أكثر قوة منه ” شخص يمسك بذراعي كل مرة أحاول أن ﺃكتب “(ص، 21) وهي الجملة التي اختتم بها الكاتب نص” الزجاجة ” اﻹفتتاحي للمجموعة .

ﺇن هذه المحاولة لتدمير الإيقاع في هذا المهاد السردي ستجعل من بقية نصوص المجموعة حلبة لتجريب قوة تقارع اللغة ، حيث تكتب القصة نفسها بالصوت والصورة سينوغرافيا ، وتتخذ لها من الإطارات ما يجعل المشاهد المبهمة أحيانا أو الكثيرة التفاصيل أو المكررة من حيث سياقاتها تبرز أن القصة تكتب نفسها بالصوت والعين الكامنين خلف عدسة كاميرا متنقلة ليحل التعليق بعد المونتاج كآخر مكون من مكونات الكتابة الجديدة .

إن المراجع البصرية بقدر ما وجهت القارئ ربما ساهمت في عرقلة قراءة مضامين النصوص، خصوصا عند جهل مضامينها كإحالات دالة لها معنى باعتبارها مرتكزا آخر لتمتين عروة النصوص ومنحها عمقا وبعدا استراتيجيا .

المرجع البصري بهذا المعنى هو عدة لوجيستيكية استعان بها الكاتب لتبئير فكرة النصوص السردية وحصرها. فالتدمير المقصود للإيقاع وازاه تدمير ممقوت للمكان بل إعدامه من الأعلى بالقوة ضدا عن إرادة المواجهة الشريفة ، وﺇن كان منطق الحرب يقصي من حساباته مفهوم ” الشرف” ليحل محله مفهوم “الخدعة “. والسارد يشيد ضدا عن إرادة العدم عالما مشعا بالحياة والحركة ” عشب / موجة / خمرة / نور / ثلج / حصان / رسالة غرامية / اﻷقحوان / النرجس / النيلوفر/ عباد الشمس ..” وقوة تمنع اﻹستمرار في الحلم بالحياة وهي تمارس بعنف وقوة حائلا ومانعا ضد اﻹستمرار ” شخص يمسك بذراعي كل مرة أحاول أن ﺃكتب” (ص، 21).

فالمثير بهذا المعنى في قصص مجموعة “اعتقال الغابة في زجاجة” لأنيس الرافعي هو الكتابة ذات البعد الثلاثي: تركيبة الحلم ،الصمت، والتشظي . مكونات بقدر ما تعرف بنياتها انشطارات وانقسامات تتورط في صناعة فضاء يحقق المستحيل وتحقيق الحلم الذي بقدر ما يكون مشتركا أو منتظرا أو أفقا جديدا يشكل مجالا مثاليا للوصول إلى حلم ﺁخر من خلال بروز قدرة الاستئناف كطاقة جديدة متولدة لحظة الضعف القصوى ، وهذا المعطى المنفلت سيعرف بدوره ارتجاجات وانقسامات تلقي بالحلم الجديد داخل فضاء جديد مبتكر متحول بالقوة من حجمه الطبيعي إلى حجم آخر قابل لتحقيق حلم آخر بداخله وكأنها صيرورة لا متناهية ونفي للنفي مادام الفضاء الجديد سيكون هو الآخر غير قار أو ثابت، لأنه سيحتضن بالضرورة عناصر أخرى جديدة تشاركه أحداثه ومجاله ما يجعل انفلات الكتابة يقاس بجموح الصور التي تفتت المعنى بل تمحقه حد الانصهار والتحول عن الطبيعة الأصلية .

كتابة تأنسن “الطبيعة” وتطبع الإنسان بقلب الأدوار وتحقيق عدالة إيكولوجية ، ما يبرز حقيقة مفادها السخرية من استغلال الإنسان العاقل ومن فظاعة ما تقترفه يداه في حق باقي المخلوقات التي تقتسم معه المجال ويعيش على تحقيق منفعته الذاتية على حسابها مما يظهر خبث مقاصده وأهدافه .

إن ظاهرة التحول في نصوص القاص المغربي أنيس الرافعي بقدر ما تقزم من قوة أبطالها على حساب “الطبيعة” التي تتحول على متحكم والإنسان مكون يصارع من أجل البقاء والاستمرار سواء من خلال المواجهة أو بالتحايل على منطق الاشياء والطبيعة والقدر دون يأس بالنزوح نحو أنسنة الموت بمنحها صورة وسلوكا بشريا مليئا بالحقد والضغينة والجبروت رغم أنها قوة ما ورائية لا متحكم فيها يقول السارد ” ينحني علي (الموت) ليوشوش في أذني وله صورة عيون زجاجية وأسنان كبيرة تجيء في عجالة بلا صوت” (ص 27 ).

إن هذا التحايل على الموت واستفزازها للإنسان في بعد آخر بقدر ما يفقد الأشياء بريقها وهالتها،بقدر ما يمنحنها شخصية ذاتية على قدم المساواة لإفراغها من كل حجمها وضغطها وجبروتها ” لكني ﻤﺘﺄكد بكل ما في من قوة اليأس أنني في صباح اليوم التالي سوف أصل .. سوف أصل حتما ” (ص 27 ).

إنها كتابة تكرس التشييد الداخلي عبر كتابة نفسية مراوغة تبدأ بالإيهام بالواقعية فقط لتحويل مجريات اﻷحداث من واقع ملموس إلى داخل محسوس سيصبح متخيلا من خلال تحويل مجريات اﻷحداث نحو الداخل إبان لحظة قابلة للتجزيءإلى ثانية أو جزء منها . كما نلمس في نص “الصدع ” (ص29 )، حيث يقول السارد ” حدث الانهيار بداخلي” (ص 29 ) وهو انهيار يكشف لا محالة عن رغبة في الشرب لسد حاجيات الجسد المتعطش” كان من الممكن استدعاء الترميم على جناح سرعة نادل المقهى الذي كان من المفترض أن يقطع فجوة الصمت والسهو ليحمل بيرة أخرى باردة، وها نحن قد بددنا سمعة الكسر” (ص 29 ).

إن هذا الفراغ سيكشف العوالم النفسية للبطل ، التي اتخذت سمة البناية المهددة باﻹنهيار ما لم يتم ترميمها وهو ما سيحول الذات ﺇلى مكان تجري فيه أغلب الأحداث والوقائع التي سرعان ما سوف تبهت بظهور النادل وعودة البطل للواقع من خلال اﻹنتباه إلى قنينة البيرة الجديدة وحدوث خوف مفاجئ ” فجأة …خفت ..خفت كثيرا وحسمت أمري على العودة فورا من حيث جئت ” (ص 30) وهي عودة نحو الواقع والبداية لاستئناف الشرب بعد لحظة انتظار ليست بالطويلة كانت أزلية بالنسبة للبطل لترميم خرائب انفلات الذات لحطة فراغ وإفراغ للزجاجة التي ستعتقل غابة ظنونه بمجرد ما تلوح عودتها في يد النادل ” خفت إن تقدمت أكثر وجدتني ميتا هناك ” (ص31 ).

إنها كتابة تنقل الحدث من الملموس نحو المجرد والمحسوس وغير المرئي ، تحفر مساراتها في الأعماق بقوة تعادل الميتافيزيقا ما يحيل على تحول الأنا الساردة إلى شيء ﺁخر غير الذي كانته نحو بعد قصي ممزوج برغبة في التحول والتطهر ﺇبان لحظة تعطيل الحواس أو أجزاء منها .

في نص ” الزوبعة ” نلمس عنصر المفاجئة النابع من الأعماق بسبب زوبعة تحول بطل النص إلى رجل صامت مختل مجنون ، مصاب بهستيريا قاتلة ..غير أن الزوبعة ” ليست شيئا يهب بغتة من بعيد ..إنها أنت وأنت هي ” (ص 35 ). إن هذا الصفع يضعنا إزاء حالات شخوص تترفع عن الواقع تنبذه لتشيد على أنقاضه عوالمها المليئة بالحمولات الثقافية والانشغالات والأثقال والهموم وهي كقنابل موقوتة تسير في الشارع العمومي لا تعود إلى حالتها إلا بعد حدوث اصطدام أو بتأثير من أحدهم جراء ارتجاج أو اصطدام مفاجئ يقول السارد ” أحدهم.. أحدهم ما يربت برفق على كتفك، فتتلاشى الزوبعة ” (ص 35).

فشخوص نصوص مجموعة “اعتقال الغابة في زجاجة” هي شخوص انشطارية بالقوة ، يتحكم في مصائرها عامل الحضور والغياب كما الأشياء والأمكنة التي يتحكم فيها الفراغ والصمت والوضع الستاتيكي داخل فجوات أو تصدعات جانبية قد تكون غير ذات أهمية، لكنها عوالم مثالية لبداية أحداث قصص تخلق أزمنتها وأحداثها بعيدا عن زمن اﻷحداث العادية كحالات اللاموت واللاحياة منزلة بين الشقاء والسعادة والحزن والفرح القبول والرفض وهي حالات تبدو كأنها مستحيلة وغير ممكنة ،لكنها كالثمتيل أو الإيهام بالواقعية قد تتسبب في عذاب سرمدي ما لم يتحقق شرط توقفها مثلا في اللحظة الحاسمة يقول السارد في نص “الكابوس” (ص38)” فقفزة المظلي من الكابوس التي كان من المفترض أن تصير فيما بعد هي اليقظة باءت بالفشل ” (ص 38) ليستمر الحلم الأزلي ومعه أحداث القصة ،وهو ما يمنح السرد بتكراره منحى تصاعديا ورتيبا بحثا عن تأكيد حضور منفلت أريد تضخيمه لكي يلاءم المكانة التي أصبح يحتلها البطل ، أو أريد له ذلك مادام في الواقع مسلوب الإرادة والحرية والاختيار وتقرير المصير. أمر سنلحظه في نص “القربان” بجلاء ، يقول السارد ” و … ممن هم كثيرون غيرك أسندت إليهم مهام رعاية مصائرك في الأماكن التي لا تتواجد فيها أنت وسواك “( ص40 ).

إن هذا التأثيت الذي بقدر ما كان يهدف مسح المجال أمام شخص واحد خلق حالة انمحائه القصوى وانهيار الصورة والهالة التي حفها به السارد لتنهار بمجرد تحويل نفس المجال الذي يشغله من مجال خاص إلى مجال مشترك هو ما سيؤثر على الذات والشخص ويحوله إلى هدف وضحية ” فجأة ، تتكاثر عليك الوجوه والمسكن واحد. تتقاطر عليك الوجوه والمسكن واحد ، صغير، ضيق ،ضاج، ومكتظ بالشخوص بالوجوه كالنحل في قفير مترع بالعسل ” (ص 40 ).

إننا نلاحظ تشذيبا ونسفا مقصودا للمكونات المكونة لمملكة البطل بشكل عبثي وجنوني مدفوعا بنزوع تدميري غير مسبوق وبعدوانية مطلقة تصل حد التهام الذات الصامتة وتفجير وقارها باحتجاجات وردود الأفعال التي ستلقى مواجهة عنيفة ، يقول السارد” لما وددت أن تجد لها عملا آخر غيرك ..لما وددت أن تمسحها من وجودك مثلما تمسح السماء بقفاز الغيم تحليق الطيور من خلفها : “.. هاهم يطالبونك بحقوق استغلال المسكن / يتعاقبون أمام ضميرك ../ يسوقون حجج ..هاهم يطالبونك …” (ص 41). فالتصدي والعدوانية هو كشف لأغوار الداخل وللمحجوب في البعد الغائب هو اكتشاف لمهزلة الكلام ، عد عكسي للوجود الفعلي للبطل في مواجهة عنف اللغة والواقع والمجال وهو يدفع ضريبة الصمت حد الانمحاء المطلق ليتحول لجليد وبياض ” فقط (ذلك ) البياض ..الذي لم (يعد) راغبا في مغادرته ..يشبه أقصى زاوية في العالم ” (ص42 ).حقيقة تؤكدها إيحاءات المرجع البصري المرافق بتحويل البطل إلى ضحية .

فالهالة التي تحيط بشخوص قصص هذه المجموعة والصور التي يقدم السارد عنها تجعل من سارية النص تنبت على صدرها أغصان حكايات وطرائف وغرائب مثيرة وعجيبة تنفخها كبالون وهي غارقة في جحيم العجز المطلق والذي لا يتم الإعلان عنه كما هو الأمر في نص ” الخزاف” الذي كان تماما عكس ما قدمه السارد في بداية النص ونحن نطلع على مأساته الإنسانية وأحاسيسه الدفينة التي لم يكن يشعر بها إلا هو، يقول السارد ” الخزاف يطمح في كل مرة داخل مشغله إلى إعادة صناعة وجهه “(ص45) ،لكن المثير أن الأحداث الموالية ستبرز عجز الخزاف ويديه المشلولتين ليتضح أن البناء تم في الزمن النفسي ضدا على الواقعي ، فسمة العجز هي التي ستخلق الظروف المناسبة لتكسير الوجه المهيأ الذي تخطى بجرأة رغبة صاحبه ليقفز ويتشظى وهو بمثابة انتحار دون ﺃن يستطيع أحد منعه ليستمر الانتظار / فالقوة التي تمنح الأشياء تنزلها مرتبة أعلى من أصحابها ليظل الإنسان في مرتبة دونية ” منذ أن أصبح ذلك الخزاف الذميم،الذي يطمح في كل مرة دخل مشغله ﺇلى ﺇعادة صناعة وجهه ..” (ص 46) وضع يكرس انتظارا رهيبا .

إنها قصص بقدر ما تدعو إلى التأمل تفتح مساحات رهيبة للانتظار والتسويف من خلال رسم ملامح حكايات مشذبة بعناية بموازاة مع سحب المتلقي وتوريطه للمشاركة في كتابة قصته متذمرا من مواقف السارد أو البطل أو ممتعضا من بلادتهما معا رفضا للعجز والفشل والدونية وهو ما سيخلق تفاعلا بين النص والمتلقي تفاعل يلف من خلاله السارد الحبل على كل من في غابة الحكي ليدخلهم زجاجة شفافة مليئة بالتخمينات والتوقعات والاحتمالات لن تتحقق إلا بدخول البعد الجديد البعد الثالث بربط مقدمة النص بخاتمته وتقليص مساحة الحكي وحذف التكرار وتشذيب النص بالجنوح نحو الاصطدام بالفراغ والبياض المعجز بل الهادر والقاتل لكل التوقعات ، ما يجعلنا في مواجهة نصوص تتمرد على قالب كتابتها ترفض تعاقب اﻷحداث أو الإعلان عن نهاية حتمية للقصة ما يجعل منها تتبدل وتتغير باستمرار من خلال انفلات أحداثها وشخوصها في اللحظات الحاسمة جدا والتي يفترض أنها ستؤرخ لنهاية محتومة لتشق عصا طاعة ساردها بالانفلات بالقوة محققة استمرارها في بعد آخر. أمر نلمسه في نصوص عديدة ” البالون / الساق / المايسترو ” وكأنها متواليات تدين وترفض ﺃن تنال حتفها مانحة لذة خفية للمتلقي بقدر ما تعمل على استنفار حواسه نحو النهاية الطيبة تستفزها لتأبد استمرار زمن الحكاية بل تخليدها مدمرة أواليات الكتابة نفسها ، إنها بهذا المعنى عودة إلى الأسطورة بحث عن الأصل الخفي للقصة والجذر غير المتآكل الذي ظل لقرون طي النسيان. إنها تفتح كوة السرد في سديم أعطاب الذات بحثا عن الأبدية في محاولة لاحتجازها في لحظة واحدة في لحظة يائسة ، فتأليف “المايسترو” للثور سيؤدي نحو اﻹنفلات والقتل بحثا عن نفس اﻹستمرارية ، كذلك الأمر في نص “البالون” الذي لم يكن سوى المرأة التي ستحمل بداخلها روح زوجها الميت تحقيقا للاستمرارية تحايلا أو تحديا للموت والقدر وكل القوى القاهرة فالاستمرارية ستحقق خلود الذات الفانية بعودتها للحياة داخل مكون آخر كنوع من التحول “ميتامورفوز” ﺃو تحول لمجال وقاعدة اﻹنطلاق نحو البعد الآخر .نفس الملاحظة في نص ” الساق “ الذي يبثر فيه البطل ساقه حبا في الساق الاصطناعية لمحبوبته لكنه في النهاية سيمنحها ساقه الحقيقية ليعود “وهو يمضي من الحديقة بعكازين وهي لا تعرف إلى أين ستمضي (بتلك) الساق الزائدة” (ص 53). أمر قد يبعث على المفارقة والجنون، لكنه واقع يكرس نفسه تحقيقا لنفس الغرض السابق اﻹستمرارية ولو بشكل عبثي ما جعل مكونات الحكايات واﻷحداث والشخوص والعوالم أشبه بغابة معتقلة بالقوة داخل الحلم والنفس المنشطرة بين الحب والكره، التعقل والجنون ،وهي تبحث عن تحقق حلم واحد من خلاله وعبره تفجر مكبوتات الواقع وتحقق رغبة الاستمرار في أزمنة مشيدة بمقاييس مضبوطة وعلى قدر كبير من اﻷهمية والهيمنة الرافضة لقواعد الفيزياء والجاذبية ، حيث يضحى الحلم هو سيد العالم واﻷشياء ومكان وزمان إمكان تحقق كل الرغبات ، ففي هذا القسم من الغابة تبرز لذة الحلم الضارب في عمق الجنون والعبث واللامعقول وكأنها لوحة سريالية غريبة المكونات ، لكنها تقدم وضعا وعالما مفترضا متمردا ورافضا ، كذلك قصص هذه المجموعة التي بقدر ما لا تقبل القراءة العادية تروم تحقيق خلخلة عميقة على قالب كتابة القصة التقليدية ومكوناتها ما يجعلها اعتقالا لغابة حكي داخل مساحة توهم بالشفافية والامتداد ، لكنها محاطة بحاجز وهمي حيث تضيق المساحة أكثر فأكثر إلى حد نعتقد معه أن البداية هي ذاتها النهاية لتبدأ جولة أخرى غير منتظرة . ما يجعلها كخاصية كتابة باحثة عن تجريد القصة التقليدية مما شابها من قيود وتمثل نزوحا نحو عتقها وتحريرها من خلال محاولات التطويع الجديدة والتشذيب المتواصل بخلق محتمل القصة وممكنها قالبا وموضوعا ومضمونا ومعنى ورؤيا في ارتباطها بسياقات جديدة وأسانيد محيلة على مرجعيات الكتابة هي بمثابة المساعد على تحديد المسارات المؤدية نحو أبواب موصدة لا تفتح إلا بعد دخول البعد الثالث .

ـــــــــــــــــــــــ

* قاص وناقد من المغرب

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم