قراءة موازية لكتاب “دكان جدي (لوحات من زمن مفقود)”

دكان جدي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أيمن مصطفى الأسمر

بمجرد قراءتي لصفحات قليلة من كتاب صديقي وصديق والدي الراحل الأستاذ / محمد طاهر التوارجي الذي ارتبطت أسرته وأسرتي بعلاقة قوية لعقود متتالية، أدركت على الفور أنني سأكتب عن كتابه المعنون “دكان جدي – لوحات من زمن مفقود” نصا موازيا لكتابه الشيق يحمل قراءتي الشخصية لما أبدعه الكاتب، ورغم أن العلاقة التي ربطت أسرتينا شهدت تقلبات عديدة ما بين صعود وهبوط، مد وجزر، حميم وفتور، إلا أنها ظلت صامدة رغم كل هذه التقلبات فكنت من سعداء الحظ الذين قرر الأستاذ / محمد أن يشركهم متعة الاحتفاء بصدور كتابه الأول.

وقد عرفت الأستاذ / محمد مثقفا موسوعيا غزير الاطلاع، منكبا على البحث والدراسة والاستمتاع بجوانب متعددة من ثقافات الشعوب المختلفة بأوجهها المتلونة، فهو محب للموسيقى والفن التشكيلي والأدب والمسرح .. الخ، كما عرفته ناشطا سياسيا واجتماعيا مهتما بالشأن العام وله في هذا المجال كتابات عديدة تحمل طابعا ساخرا، وله تجارب في الكتابة الساخرة لإذاعة الشرق الأوسط المصرية، كما أنه صاحب صالون ثقافي يعقد شهريا في منزله الحالي بمدينة دمياط الجديدة، ولشخصيته جوانب أخرى عديدة قد لا أتمكن الآن من حصرها كلها.

ورغم أن الأستاذ / محمد ـ كما عرفته ـ يميل إلى المغامرة والتحدي، ويستمتع ـ أحيانا ـ بإظهار الجوانب غير الاعتيادية في شخصيته، والتي قد تصدم من اعتادوا على أنماط تقليدية من التفكير والحياة، إلا أنه رغم كل ذلك لم يغامر حتى تاريخ كتابة ونشر هذا الكتاب في سن الثانية والسبعين بجمع كتاباته السابقة في كتاب منشور، وعندما واتته الشجاعة أخيرا على فعل ذلك خرج علينا بكتاب سردي مشوق يعرض فيه جانبا هاما من السيرة الذاتية لجده وأبيه وأسرته، ولمجتمع قريته الصغيرة ذات الخصوصية والتميز، قرية عزبة البرج في أقصى شمال دلتا مصر، القرية المصرية الأشهر ـ ربما ـ في أنشطة وحرف مرتبطة بصيد السمك وبصورة خاصة السردين، والتي كانت وقت طفولته وصباه وشبابه لا تزال تحتفظ ـ كغيرها من المجتمعات المحلية الصغيرة ـ بتراث عريق من العادات والتقاليد، وحكمة شعبية متوارثة عبر أجيال، وحكايات عجيبة تجمع بين الخرافة والعلم والدين، وفي زمن لم تداهم أناسه بعد أنماط من الاستهلاك السفيه، ولم تلق التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصالات والمعلومات بظلالها السلبية على العلاقات الإنسانية بين البشر، وقد قدر لي في وقت لاحق ـ على ما أظن ـ لوفاة جده صاحب السيرة زيارته بصحبة أسرتي بمنزل العائلة بعزبة البرج، وقد خرجت من هذه الزيارة الوحيدة بحصيلة وافرة من تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية التي أمدني بها في حينه.

غير أن الكتاب لا يمكن حصره فقط في نطاق كتب السيرة الذاتية، فهي بالطبع سيرة مصاغة في قالب قصصي و/أو روائي، وقد أرد أن يطلق لنفسه حرية التصرف والكتابة كما يحلو له بعيدا عن الارتباط بأي قوالب معروفة عند كتابة السيرة الذاتية أو القصص والروايات، لذلك لعله اختار عنوانا فرعيا للكتاب “لوحات من زمن مفقود” ليتيح له هذا القدر من الحرية الذي يريده، فنراه أحيانا يترك الحديث عن الشخصية الرئيسية في الكتاب، شخصية جده الشيخ محمد مصطفى التوارجي ليخوض في أمور أخرى، أو قد يجعل من أقوال وأفعال ووقائع حياة هذه الشخصية ذات الأبعاد الأسطورية، متعددة المواهب والاهتمامات والعلاقات، ذات البعد البطريركي، وصاحبة السلطة المجازية بمجتمعها المحلي الصغير، يجعل منها مدخلا للقفز إلى المستقبل أو الرجوع إلى الماضي، فيحدثنا عن بعض الأحداث السياسية والاجتماعية المحلية أو العالمية بشكل عابر أو مفصل، أو عن قراءاته وآرائه وتجاربه الشخصية، فضلا عن سفرياته المتعددة لبلدان شتى، ورؤيته لأحوال الدنيا وتقلباتها.

ورغم أن الكاتب مقتنع بأن الحياة لا يمكن أن تسير على نمط واحد لا يتغير، وهو يؤمن بالتأكيد بالتطور الإنساني على مستوى الفكر والعلم والتكنولوجيا، إلا أن الكتاب يحمل شوقا جارفا لنمط من الحياة والعلاقات الإنسانية والاجتماعية اندثر أو كاد، ولا يملك القارئ إلا أن يصيبه هذا الشوق إصابة مباشرة في القلب، وبصورة خاصة الأجيال التي عاصرت أو لحقت ـ مثلي ـ هذا النمط من المجتمعات المحلية الصغيرة ذات الخصوصية والتميز، وهذا النمط من الشخصيات ذات الأبعاد الأسطورية كشخصية الشيخ محمد مصطفى التوارجي.

وبعد، قرأت الكتاب الصادر عن دار الأدهم – 2019، وكتبت عنه هذه القراءة الموازية في زمن قياسي ـ على غير عادتي ـ لم يتجاوز يومين اثنين، ولن أتردد في نصح كل من يرغب في استعادة سحر ذلك الزمن المفقود أن يقرأه، وأثق أن من يفعل ذلك سيخرج بكثير من المتعة والفائدة كما ذكر د/ إبراهيم منصور، أستاذ الأدب العربي في خاتمة دراسته الملحقة بالكتاب.

 

مقالات من نفس القسم