قراءة لمقهى سيليني

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام


"يأتون ويذهبون، يخلّفون وراءهم وَجعًا."، هذه هي الجملة الأولى من رواية أسماء الشيخ (مقهى سيليني)، والتي تصف المترددين على والد رقية، الحجّام والمعالج بالطب الشعبي، بقدر ما تصدق أيضًا على شخصيات هذا العمل، سواء الرئيسية أو الثانوية أو حتى تلك التي لم تظهر إلا عبر رسائل وذكريات بعيدة.
من هذه الجملة الأولى تتوالي الحكايات والمشاهد التي انقسمت بالعدل تقريبًا بين عالم فتاتين، المصرية رقية والإيطالية بيتا، أمام خلفية إسكندرية الأربعينيات، حيث الأجواء المعهودة لعالمٍ نكاد نعرفه مسبقًا من رباعية داريل، أو زيزينيا أسامة أنور عكاشة، وبالطبع كتابات إدوار الخرّاط. 

لا تخفي الرواية ولعها بهذا العالم، ولا تحاول التمويه على الحنين لزمن الأبيض والأسود، ولا تتردد أمام إعادة إنتاج صورة المدينة الكوزموبوليتانية، وربما كان في هذا نقطة قوة تُحسب لصالحها، أولًا لأنها استطاعت أن تُنتج حكاية تخصها اعتمادًا على أيقونة فنية شبه جاهزة ومتوقعة، وثانيًا لأن إعادة إنتاج هذه الصورة لا بدّ قد تطلبت جهدًا بحثيًا مسبقًا ودقة واعتناء، وهو ما ظهر أثره في تقديم صور بصرية ناصعة وقابلة للتصديق، لا للزمن والمكان والناس وحسب، بل أيضًا ظهرَ هذا الجهد المعرفي في الاشتغال على عوالم مصغرة مثل بشائر سحر السينما، وأسرار الطب الشعبي والحجامة، وحتى حضرات المتصوفة والذكر والإنشاد. في ذلك كله كانت الرواية تلمس ما تكتبه عن قرب، دون أي إدعاء لتبني قضايا خطيرة وأسئلة ذات شأن.
قد يُرجع البعض إحكام البناء الصارم لهذا العمل إلى ظروف إنتاجه، حيث شاركت أسماء الشيخ في الدورة الثانية من محترف نجوى بركات (كيف تكتب رواية)، وطوّرت فكرتها عبر شهور، إلى جانب ستة كتّاب آخرين من دول عربية مختلفة، ثم فازت بجائزة المحترف في العام الماضي بعد نشر الروايات السبع عن دار الآداب، وقد لا تتسم جميع هذه الأعمال بالدرجة ذاتها من الدقة التقنية والعفوية السردية الواضحين هنا، فما على ورش الكتابة إلا أن تصف الطريق، وعلى كل كاتب أن يمشيه بمفرده، برؤيته وإمكاناته وحدسه.
هذه رواية تسهل قراءتها والانغماس في عالمها، ومحبة شخصياتها، وملاحقة كلٍ من رقية وبيتا، فيما تحاول كلٌ منهما على حدة أن توسّع بطريقتها حدود عالمها الضيق والخانق، فإذا كانت الأولى عثرت على شرفة روحها في شاشة السينما واكتفت بنجيب الريحاني عاشقًا متخيلًا، فقد تشتتْ الثانية بين عالم التصوف حينًا والاستغراق في رسائل قديمة لأمها الراحلة حينًا آخر. ومع التركيز على هاتين الشخصيتين، ظُلمت شخصيات ثانوية أخرى حملت إمكانيات لم تختبر، إلى جانب عدم التماس الكافي بين الفتاتين، إلا متأخرًا للغاية وبأهون قدر، وكان من الممكن (لو جاز لنا أن نتحلى بروح الورشة) أن تأخذ رقية دور عالية التي تصادق بيتا وتفتح أمامها أبوابًا خفية، عندئذٍ كان من الممكن تشييد جسر بين عالميهما في لحظة مبكرة، ما قد يسمح بتطوير أغنى لحكاية كلٍ منهما، خاصةً أن الرواية بدت في بعض المواضع مترددة، لا تعرف إلى أين تمضي بما أبدعته من شخصيات وحالات ثرية حقًا.
إذا كانت مقهى سيليني هي الرواية الأولى لكاتبتها، فلا يملك القارئ إلّا أن ينتظر خطواتها التالية، التي قد تكون أكثر ثقة بعد أن اجتازت امتحان اللعبة السردية في هذا العمل، واستيفاء متطلباتها كما يقول الكتاب. وإذا كانت الكاتبة تعترف باعتمادها “النمط كما يجب أن يكون”، فهي أيضًا تضيف إنها جريمة ارتكبت بحُب. وقد ترك هذا الحب أثره على كل صفحة، الحب للعالم وللشخصيات، وقبل هذا كله الحب للحكايات الآسرة التي استجابت وفتحت أبواب كنوزها عن طيب خاطر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشر بجريدة القاهرة يوليو 2015 

مقالات من نفس القسم