قراءة لـ مصحة الدمى

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كل كتاب قصصي للمغربي أنيس الرافعي مغامرة مجبولة من خامة مختلفة، فإذا كان كتابه السابق، أريج البستان ...، اتخذ من مراكش وبعض دراويشها، فرصة للعب عبر سبعة أبواب وحكايات للمدينة، فإنه في كتابه الجديد، مصحة الدُمى، الصادر هذا العام عن دار العين أيضًا، يتخذ الدُمى منطلقًا لرحلة عجيبة، تاريخ الدُمى ونوادرها وصورها الفوتوغرافية، ثم تجلياتها السردية كتمثيلٍ للإنسان في هيئته الجسدية المادية الخرساء، وفي كشفها لرغبة الخلق والتدمير، والتأرجح ما بين خيوط الوصل وانقطاع العزلة والخرس والصراخ الحبيس في الخزائن والكوابيس. 

هُنا أيضًا سبع حكايات، تنطلق من صور فوتوغرافية شهيرة لدُمى، من هنا جاء مُسمى الكتاب “فوتوغرام-حكائي”، وليس بالغريب على تجربة أنيس نحت لافتات تخصه وتثبيتها فوق هامة صنائعه، لكن اللعبة لا تقتصر على التسميات، فما هي إلا قشرة خارجية تتوالى تحتها طبقات التغريب والاختلاف، وآليات عمل ذهنية صارمة بقدر ما تستنفد إمكانات فن القص بقدر ما تهزأ بتراثها وتغترب عنها لتمضي على مسارها الخاص. قد لا يتسع المجال لتناول أغلب آليات التجريب لدى أنيس، سواء في كتبه السبعة السابقة أو في كتابه الجديد هذا الذي يتقاسم بعض الألعاب الأساسية مع أشقائه الأكبر سنًا، إذ لن يفتقد قارئ الرافعي ألغازه المحيّرة ومتاهاته الصغيرة وانعكاسات المرايا وانقسام الذات وتوزعها واستبطان عتمة الداخل الإنساني في الضوء الشاحب لصور خارجية ليست أقل تشوّشًا. لمسة الرعب في الكتاب واضحة، تستغل آليات إنتاجه المعروفة، بأهداف بعيدة عن إنتاج حكاية مخيفة، بقدر توجيه ذلك الرعب إلى أسئلة الداخل الموحش، ومسرحته في ديكور نموذجي لهذا النمط، حيث الليل والمطر والحيوانات المتربصة والسائر الشارد لا يدري له هدفًا، وأصوات توقظ النائمين، وبالطبع الدمى التي تنبض فجأة بالحياة لتستحيل وحوشًا أخرى في مواجهة مثيلاتها الإنسانية على حافة المرآة.
القارئ الساعي وراء متعة خالصة ومُصفّاة قد يشعر بالتململ في مصحة الدمى، وقد يطرح تساؤلًا مشروعًا عما إذا كان الكتاب مُثقل عن عمد بالإحالات الثقافية الخارجية، من قبيل مدونة الدُمى التي تسرد مختصر تاريخ سبع دمى مختلفة، لم تشتبك بالقدر الكافي مع الحكايات السبع التالية عليها، إلّا إذا أفرطنا التأويل وحمّلناها ما لم تحتمل. قد يسأل هذا القارئ نفسه ألم تكن تلك النصوص الفاتنة في غنى عن الصور الفوتوغرافية السابقة عليها وترسانة الحواشي الأخرى؟ غير أن مادة القص هنا لا تعترف بأسطورة النقاء، وتلعب على الشوائب والخلط وتركيب العناصر المختلفة من مجالات وأنواع قد تبدو بعيدة عن بعضها البعض، تمامًا كما تتناول الحكايات السبع نفس الموتيفات الأساسية وتتلاعب بها في حركة صاعدة من الطابق الأول حتى السابع، في إعادة إنتاج لوصفة كابوسية واحدة، وإن اتسمت كل قطعة بمقاربتها التقنية الخاصة، واشتركت في اللغة التي لا تتعفف عن مهجور اللفظ “واضحة النهار – وبُهمة الديجور”، وعن زخارف البلاغة التي تعرف كيف تستغلها لصالح دهشة الابتكار وغرابته أحيانًا.
أنيس الرافعي أحد مجاذيب القصة، يخلص لها في عالم أذهله هوسُ الرواية عما عداها. لا يزال معرضًا في كبرياء عن سهولة الاستهلاك والشيوع والمقاصد القريبة للقص الطيب. ولا يزال يستطيع أن يطبع بصمته الخاصة في كل جولة قصصية جديدة، ويحصد الاحتفاء النقدي الذي اعتبره “شيخ طريقة” بتعبير الأردني محمود الريماوي. ولكن ألا يكمن الخطر في تلك البصمة ذاتها؟ ألا يمكن أن تصير دليل إدانة يمكن تتبعه، أسلوب عمل معد سلفًا من السهل إعادة إنتاجه، مهما بدت كتابة جديدة وغير مسبوقة؟ وهي تهلكة مُسكرة كبئر نبيذ، غير أن لاعبًا ماهرًا مثله يعرف كيف يتجنب السقوط فيها، مهما عبّ منها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في جريدة القاهرة المصرية

 

مقالات من نفس القسم