قراءة في الفيلم البلغاري “الدرس”

قراءة في الفيلم البلغاري "الدرس"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
لو أن احداً اراد أن يلخص قصة فيلم «الدرس» فلن يجد سوى أسطر قليلة تحكي قصة مدرسة في أواخر الثلاثينيات من عمرها تعيش مع زوج عاطل بسبب الظروف الاقتصادية وابنة في بستان الطفولة وبينما تبدو امرأه جادة حد التجهم- لا نراها تبتسم مرة واحدة طوال أحداث الفيلم حتى وهي تحتضن ابنتها أو تحكي لها حكاية ما قبل النوم -تضطرها ظروف الحجز على منزلها من قبل أحدى البنوك أن تقترض من مرابي يريد لها أن تعمل كعاهرة عندما لا تفلح في تسديد المال فلا تجد أمامها سوى ان تصبح سارقة بدلا من ان تصبح عاهرة وتقوم بسرقة البنك الذي قام بالحجز على منزلها.

هذه القصة البسيطة التي كان من الممكن تناولها بشكل ميلودرامي يجعلها تشبه كل قصص السقوط والأنحراف الاجتماعي الذي تسببه الضغوط الاقتصادية قدمها المخرجين الشابين بأسلوب درامي مكثف محمل بسياقات المشاعر والأفكار دون اسراف وعبر مادة بصرية تكاد من فرط بساطتها وواقعيتها ان تبدو قطعة من الحياة ذاتها.

يبدأ الفيلم بمشهد طويل تنتقل فيه وجهة نظر الكاميرا ما بين زاويتين الأولى هي المدرسة التي تجلس على منصتها في مقدمة الفصل تستجوب الطلاب الذين هم على اعتاب المراهقة حول من منهم الذي سرق زميلتهم اثناء الفسحة المدرسية ووجهة النظر الثانية هي وجهة نظر الطلاب إلى المدرسية بكل فوقيتها الأخلاقية وصرامتها وجديتها التي تجعل من مقاومة الاعتراف لها بالسرقة أمرا شديد الصعوبة.

لا تتغير وجهات النظر ما بين المدرسة والطلاب إلا حين تتفرس في وجههم بينما زواية النظر إليها ومكانها ثابت كأنه موقع مقدس او عرش تجلس علي في ألوهية مطلقة لا بسبب سلطتها عليهم بحكم كونها مدرسة ولكن بحكم السلطة الاخلاقية والتربوية التي تجعلها في موقع ابوي أو أمومي منهم تلقنهم درسا في الأخلاق.

هذا المشهد تحديدا سوف ينتهي به الفيلم مرة أخرى بنفس السياق البصري وبزمن أقل نسبيا لكن الاحجام والزوايا لن تختلف، بل ما سيختلف هو دواخل الشخصية ومحصلة التجربة الانفعالية والاجتماعية التي مرت بها مما يجعل الطرح صداما ويجعل سؤال القداسة مدنسا بجرم مشهود لا من قبلنا نحن فقط كمتفرجين ولكن من قبل الطالب الذي تكتشف المدرسة في النهاية أنه يسرق زملائه حين تفاجئه اثناء دخولها الفصل.

هذه المفاجأة كان من الممكن ان يكون رد الفعل عليها مختلفا تماما وتربويا جدا وأخلاقيا لأقصى حد لو أن المدرسة لم تكن قبل مشاهد قليلة قد اقدمت على سرقة البنك الذي حجز على منزلها ودفعها للجوء إلى المرابي القذر-والقذارة هنا ليست اخلاقية فقط بل تبدو حاضرة بصريا عبر شكل الشخصية ولغتها وصوت تبولها الذي نسمعه في كل مشهد من مشاهدها-ولكن لأن شخصية المدرسة في جانب منها لا تزال على قدر من التربوية أو لنقل الأخلاقية العكسية فإنها لا تجد نفسها قادرة على النفاق بأن تكشف الطالب وتوبخه، بل تجد نفسها تصمت وتتستر عليه دون أن يكون لديها القدرة على ممارسة سلطتها التربوية لأن كلاهما الان اصبح متساويا مهما كانت الدوافع وراء السرقة.

لماذا إذن حافظ السيناريو على رد الفعل المتستر من المدرسة ولم يجعلها تفضح الطالب وتوبخه؟ لانه ببساطة لا يريد أن يشير إلى أي نفاق من أي نوع بل يريد لنا أن نتلقى درسا قاسيا في كيفية انقلاب الهرم الانساني الذي يجعل من مربية فاضلة ومعلمة اجيال بالمفهوم الكلاسيكي تتحول إلى سارقة وترتكب الجرم الذي كانت تعتبره خطيئة لا تغتفر بل وجاهدت من أجل اكتشاف مرتكبها من طلاب فصلها الوحيد.

كيف يمكن للضغوطات الاقتصادية والنظام الأعمي أن يجعلها توشك أن تخسر بيتها لمجرد خطأ في الاجراءات فتصبح مدينة للبنك بمبلغ يعادل 20 سنتا!! هل من الممكن أن يتصور احدانا ان يخسر منزله بسبب نظام عقيم يجعلنا مدينين بعشرين سنتا لمجرد خطأ اداري تافه!!

أن المشاهد الذي نتابع فيها بمنتهى الصرامة والواقعية كيف تحاول المدرسة الفاضلة سداد العشرين سنتا (اقتراضها من المرابي- سرقة النقود القليلة من محفظتها بعد أن نصبت فخا عقيما للطالب المجهول- نفاذ بنزين سيارتها-اضطرارها لأن تركب الباص دون تذكرة اعتمادا على صداقتها مع الكمساري- وقوفها للتسول في احدى الحدائق العامة من أجل الحصول على العشرين سنتا-عودتها للمنزل سيرا على الاقدام)هذا التتابع الواقعي شديد الكثافة والقسوة وبأسلوب الكاميرا المحمولة التي تجعله اقرب لربورتاج ميداني او حالة وثائقية عن واقعة تراجيدية تحدث أمامنا سوف يصبح مبرر درامي وبصري للسقوط الذي ينتظر المدرسة.

 

الأم الغائبة والعاهرة الحاضرة

في سياق اجتماعي موازي لاستكمال ابعاد شخصية المدرسة يوجد ذلك الخط الخاص بعلاقتها بأمها الراحلة والتي نرى صورتها معلقة في صدارة منزلها في أول مشهد يظهر فيه البيت الذي يعتبر محور الصراع الأساسي بين المدرسة والمجتمع أو الدولة.

تتوقف الكاميرا أمام صورة الأم بينما تتحرك المدرسة إلى الداخل كي تطمئن على ابنتها دون أن تتبعها الكاميرا فيصبح ثمة خيط خفي لكنه محسوس يمتد ما بين صورة الأم الراحلة وعلاقة المدرسة بابنتها والتي-دون ضجيج حواري أو مباشرة-تصبح انعكاسا لعلاقة الأم بالمدرسة.

هذه العلاقة تبدأ بمشهدين قصيرين يقدم فيهم صناع الفيلم النتيجة على السبب، تذهب المدرسة عقب يوم عمل مفعهم بالتدريس والسرقة كي تطلب كوبين من القهوة بنهكتين مختلفتين مما يجعلنا نظن أنها على موعد مع شخص ما وفي المشهد التالي مباشرة تجلس في لقطة بحجم ضيق أمام شيء ما لا نتبينه ثم يتسع الكادر في اللقطة التالية لنراها وهي تضع كوب القهوة الثاني على قبر امها وكأنها جاءت كي تحتسي معها القهوة.

هكذا ببساطة دون موسيقى تصويرية مؤثرة او زاوية كاميرا معقدة، فقط لعبة تقديم النتيجة على السبب لا لأسباب شكلانية أو جاذبة ولكن لأن المخرج الجيد هو من يبحث عن موضع الثقل الدرامي المفترض في اللقطة أو المشهد ولما كان الثقل الدرامي موضعه هو نفسية المدرسة فأنه يركز عليها قبل أي عنصر اخر بمعنى أننا نتابعها وهي تشتري كوبين من القهوة ثم تذهب إلى مكان ما لا نعمله ولكننا ندرك شعورها بالحزن والافتقاد بمجرد أن تضع كوب القهوة فوق القبر الواطئ والذي يحمل اسم اسمها وتاريخ الوفاة.

وبنفس هذا المنطق تصبح صورة الأم داخل المنزل هي جزء عضوي من المنزل نفسه وكأن دفاع المدرسة عنه ضد البنك واستماتتها في الاحتفاظ به هو دفاع معنوي عن روح امها التي تسكن البيت وليس قط دفاع مادي عن منزل اسرتها الصغيرة.

ولا يكتسب حضور الأم غائبة في تجليات العلاقة ما بين المدرسة وابنتها أو المدرسة وابيها إلا بوجود امرأة أخرى في حياة الاب وهي شابة متهتكة مبتذلة الشكل والأسلوب تضع صورها الشهوانية محل صور الام في منزل الأب-الذي هو منزل العائلة-وكبداية للتمرد والخوض في صراعات ضد المجتمع تقوم المدرسة بتشويه صورة زوجة الاب الشابة برسم شارب ولحية لها وكأنه احدى الطلاب في مدرستها – فيما بعد سوف تسرق أيضا-.

ان تشويه صورة زوجة الأب المبتذلة هو ارهاصة بالتحول الذي سوف يصيب شخصية المدرسة الجادة الفاضلة، وهو في ذات الوقت إذا ما اقترن بصورة الأم الغائبة في منزل المدرسة شكل من اشكال النقد الاجتماعي للدولة ككل في اطار ميلودرامي لكنه يقدم هنا بصورة راقية فالأم الغائبة هي النظام القديم او الدولة القديمة التي ماتت عقب التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها اوروبا الشرقية-وربما تحسرا على ايام الأم الشيوعية-والنظام الجديد الذي تزوج الأب-مصدر الامان وحائط الصد امام ازمات الحياة-ما هو إلا تلك العاهرة الملونة بمكياج صاخب ومقزز، هذه العاهرة تحديدا سوف تصبح السبب الرئيسي وراء عدم اقتراض المدرسة المال من ابيها لتسديد القرض وهو دمج درامي ودلالي جيد ما بين مستويات التأويل والطرح في السيناريو.

لا شك أن الفيلم يحمل الكثير من النقد السياسي في طياته وليس فقط على مستوى القصة الأساسية وهي تحول المدرسة من مربية اجيال إلى عدوه للمجتمع بسرقتها للبنك ولكننا نجد أن تعامل صناع الفيلم على سبيل المثال مع الشرطي ومندوب البنك بصريا في مشهد قدومهم لمعانية البيت قبل الحجز عليه يتم بشكل ساخر ونقدي في نفس الوقت فالكاميرا تتحول معهم في البيت والزوج يعاملهم بجفاء وعدم احترام بينما تحاول المدرسة أن تتماسك لتتعرف منهم على الحلول الممكنة ولكن في نهاية هذا المشهد الميلودرامي نصل لذروة شديدة الذكاء والبريق عندما يطلب رجل الشرطة ومندوب البنك من الزوج أن يزيح سيارة الرحلات الضخمة التي يملكها من امام باب المنزل كي يستطيعوا الخروج فيقول لهم الزوج اخرجوا كما دخلتم فلا يكون منهم – في لقطة واسعة ثابتة- إلا أن يقفزوا من فوق السور كأنهم لصوص وليسوا موظفين رسميين.

هذه اللقطة كفيلة بتوجيه سهم نقدي ساخر لطبيعة الدولة كما يراها صناع الفيلم، مجرد مجموعة من اللصوص التي تقفز فوق اسوار المنزل كي تسلبه دون اي اعتبارات انسانية أو اجتماعية من أي نوع وتعود من حيث اتت قفزا من فوق السور مرة أخرى ولا ننسى أن الخصم الظاهر أمام المدرسة هو أحد البنوك اي ممثل الرأسمالية الأول بالمفهوم السياسي والشعبوي على حد سواء.

 

المستقبل !!

ما هو مستقبل المجتمع الذي يتحول فيه المدرسون إلى لصوص ينهبون البنوك كي يسدوا قروضهم الاجتماعية؟؟

ما هو مستقبل المجتمع الذي تكتشف فيه المدرسة أن الطالب الذي يسرق زملائه ما هو إلا قريب المرابي الذي كانت تقترض منه المال كي تكتمل دائرة الظلامية التي تشي بأن هذا المجتمع قد تسوس وصار نهبا للرأسمالية في اقبح صورها(بنوك تسليف ومرابين)!! بل ويصبح الشخص المطالب بالتربية هو نفسه الغير قادر على البوح لأنه ببساطة اصبح جزء من هذه الدائرة الملعونة!

لا يمكن اغفال ملاحظة أنها مدرسة لغة انجليزية وتعمل مترجمة في مكتب خاص يهرب صاحبه بعد أن يتم مقاضاته بالعديد من تهم النصب والتحايل على المترجمين واصحاب الكتب المترجمة في سياق هام من سياقات الاختناق المادي والاجتماعي الذي يدفع المدرسة للسرقة، والانجليزية هي لغة الغرب الرأسمالي كما كانت ترد دوما في قاموس الادبيات الشيوعية.

هذه الأسئلة هي الدرس الحقيقي الذي يلقنه صناع الفيلم للجمهور في المشهد الاخير عندما تتواطأ المدرسة مع الطالب بعدم الكشف عنه، حيث ينتهي الفيلم بلقطة واسعة لها من وجهة نظر تلاميذها وهي في ذات المكان المقدس المنزهة ولكننا نعلم- ومعنا الطالب السارق- انها فقدت كل براءتها وقدسيتها وتهدمت روحيا ووجدانيا في محاولة منها لأنقاذ منزلها.

تظلم اللقطة الأخيرة على المدرسة وليس على الطلاب في الفصل، فكما سبق وذكرنا أن الثقل الدرامي الأساسي يكمن فيها والمستقبل كما يصوره صناع الفيلم ليس في مجموعة الطلاب المراهقين ولكن في من يلقنهم تعاليم الحياة وأسسها، ولا ننسى أن اختيار البطلة امرأة وأم هو جانب دلالي مهم لفكرة الوطن والاحتواء الأجتماعي وهو ما يزيد من تعاطف المتلقي مع الشخصية من جانب ويجعلها عرضه لسقطات اخلاقية لا نهائية ابسطها أن تتحول إلى عاهرة بل ويصبح تحولها إلى سارقة في حد ذاته شئ مأساوي لأنها لا تملك الصفات الجسمانية ولا المادية فالمرأة عند السقوط تفكر في بيع جسدها بينما الرجل يفكر في استغلال قوته الجسمانية وهي هنا تتبدل لتصبح رجلا في اسلوب التفكير والموقف الحياتي فبدلا من أن تقبل العمل كعاهرة لدى المرابي تقرر أن تصبح سارقة مثل أي رجل يتعرض لأزمة وهو ما يمنح السيناريو ميزة دلالية أخر تضاف إلى العديد من الميزات التي استحق عنها بجدارة جائزة افضل سيناريو في افلام المسابقة.

ــــــــــــــــــــــــ

*نقلاً عن “فيلم ريدر”

مقالات من نفس القسم