قبل الثامنة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رأيتُ الرّجل يتقيّأ... كان ذلك بين السّاعة السّابعة والثامنة صباحاً. كنتُ على رصيف كورنيش شطّ العرب، تحفة الطبيعة الشحيحة في مدينتي البصرة، أصرف لحظات ما قبل الثامنة. أذرعُ الرّصيف المديد. أفكّر مع الأشجار العالية، والكائنات المبكّرة على صخور الضفة المدهونة، قبل أن تحالفني هبّةُ هواءٍ رخيّة وتدفع بقدمَيّ إلى موقع عملي القريب.

حين اقتربت أكثر تبدّدتْ فكرتي عن الرجل، فمظهره الأنيق أخرجه من احتمال أن يكون من أولئك المتشردين الذين يشربون العرق خلسة على جرف الشطّ مع ظلام الليل، وينامون على تخوت الخشب، أو حتى على رمل الجرف بمجرّد أن يفقدوا أنفسهم، وفي  الصباح يركبهم الغثيانُ لا محالة، فيكسر ظهورهم. يختنقون، أو يغصّون، وتنشقّ أفواههم على حجر الرّصيف بزوبعة قيء تهدر  مع يقظة الضّوء، ثمّ تنقذف مادةً صفراء لعينة ترسم، على الحجر، شكلَ حياتهم.

 كان لا يني ينحني مقوّساً ظهره، ثم مادّاً إيّاه إلى أمام، وأخيراً دافعاً به إلى الأسفل بقوّة محاولاً لصق بطنه بفخذيْه، كما لو أنّه كان يكافح ليقطع الطريق على شيء تسلل عبر فمه، وهو الآن في آخر مريئه. شيء من الأشياء التي بوسعها أن تقرض العالمَ كلّه لو شعرتْ أنّه يُضيّق عليها الخناق. جرذ ليل أسود، سرطان أعمى، عضاءة تائهة، أو ما لا يعرف من الحيوانات البشعة الضالة في الظلام ينزلق منحدراً داخل قناة مخاطيّة، وسوف يرتطم بقعر المعدة، وينام هناك إلى ما يشاء.. لم يكن أمامه إلاّ أن يسدّ الطريق على المتسلل، ليوقفه عند حدّه، بتضييق المنفذ القريب، وإحكام غلقه بكسر الظهر على الفخذيْن، وبالمزيد من الضغط على الأحشاء لتتقلّص. لتُصعّد موجات تقلّصاتها إلى أعلى. لتندفع في تسديدة عاتية، وتلفظ كل شيء..

كان يشعر بالعالم في داخله ينقبض على نفسه، ويتضاءل، حتى ليكاد يخنق بعضه بعضاً، بكل أحشائه تتلوّى، وتهدّد ما كان يعاندها ويسدّ عليها الطّريق، بالهواء يدور في دوّامة من حوله، ويتهيّأ ليُعلنَ شيئاً.. لم يفقد الرجل الأمل. رفع سبّابته أمام عينيْه المحتقنتيْن، كما لو كان يحرّضها على أمر، وقذف بها في عمق فمه.. العالمُ الغامضُ المحبوس في جوف الرجل وعى، على الفور، تحديَ السبّابة، وجاءت استجابة عناصره سريعة، اهتياجات، وتقلّصات، ودوراناً عنيفاً متلاحقاً تصاعد بمادته الهائجة إلى أعلى.. كسر الرجلُ جذعه سريعاً بردّة فعل قاسية طائعاً ما كان في طريقه إلى الانفجار، وأحنى رأسه، مشرعاً فمَهُ على الأرض، وفقدَ نفسه تماماً…

الأشياء القريبة، وأنا، وحدنا، من سمع، بالنيابة عن العالم، الصّوتَ المجرّح الذي ضرب الأرض هادراً بمادته اللّزجة الكثيفة، وارتدّ عنها متمدداً في الهواء، ثم انهار، زاحفاً  بأثقاله، على ضفة النهر، قبل أن يغرق في المياه.

فتش الرجل، بعينيْن جاحظتيْن، خليطَ البقعةَ الكثيفة الصفراء التي انتثرت بين قدميْه، بلا انتظام، في شكل فوضويّ على مربعات الرصيف المتربة، وتأكّد أن أحشاءه لم تكن فيها…

قال الرجل حين ربتُّ على كتفه بمجرّد أن اعتدل بقامته:

“لا شيء”.

ثمَّ أردف: “أنا هنا، كلَّ صباح، أمارسُ رياضة التقيّؤ، قبل أن ألتحق بعملي في الثامنة”. 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون