“قانون الوراثة”.. الأدب المصري الشاب متمرداً على نتاج الستينات

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 24
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد بدوي

كما يفعل كثيرون في كتابهم السردي الأول، لجأ الروائي المصري ياسر عبداللطيف الى فضاء طفولته ومراهقته في كتابه "قانون الوراثة" الصادر أخيراً عن دار ميريت، معلناً انحيازه الى المقولة الشهيرة "لا تكتب إلا عما تعرفه" وهي النصيحة التي التقطها كُتاب الستينات في مصر من هيمنغواي، وعلقوها كالتميمة على صدورهم. وظل كثيرون منهم إن لم يكن معظمهم مخلصين لها، حتى بعد أن نفدت صلاحيتها بفعل تغير الزمن. الطفولة والمراهقة هما اقرب ما يمكن ان تطاله أنامل الكاتب الشاب الذي يحرص على مشاكلة الأدب للواقع، وتمثيله، والشهادة عليه. لكن مفهوم الذات وعلاقتها بالعالم لدى ياسر يختلف قطعاً عن المفهوم نفسه لدى كُتاب الستينات، ومن تبعهم من الكُتاب الذين أتوا في العقود التالية. وسنحاول هنا ان نتلمس الفروق بين هذه الكتابة وكتابة الستينيين. لدينا اولاً اللجوء الى الطفولة والمراهقة، وهو ما نجده لدى عبدالحكيم قاسم ويحيى الطاهر وحافظ رجب وغالب هلسا. ولدينا ثانياً مفهوم هيمنغواي السابق، عن الكتابة وعلاقتها بالخبرة اليومية الحية، وهو مفهوم قام الستينيون بتكييفه فأضفوا عليه طابعاً يسارياً يأخذ فيه الكاتب موقع الشاهد على الواقع في سياق الايديولوجية الكفاحية التي رفعتها حركة التحرر الوطني. ولدينا ثالثاً: مشكلة النوع الادبي، لكُتاب تدربوا جيداً على كتابة القصة القصيرة ثم دلفوا منها - لأسباب كثيرة - الى الرواية التي ظلت حاملة نسمات القصة القصيرة التي طالت قليلاً إلا في أعمال قليلة، للقلة منهم التي قدر لها ان تحسن حبكة الرواية.

بدأ ياسر عبداللطيف النشر بكتاب شعري، ينتمي الى قضية النثر هو “ناس واحجار” ربما بسبب التغير المفصلي في الشعر المصري الذي حدث مع تحول قصيدة النثر من هامش صغير الى ظاهرة عامة. وهو تغير قد يكون تأخر كثيراً اذا قورن بنظيره العربي، وربما بسبب علاقته القوية بعدد من مجايليه الشعراء، وربما بسبب ما تنتجه قصيدة النثر من كتابة الذات، مع التحرر من المواصفات الشكلية للشعر الموزون. على أي حال كان شعر ياسر القليل الذي نشر متقطعاً ثم مجموعاً يتكئ على السرد، نائياً عن تدفق الذات وهذيانها، مفضلاً الشح اللغوي والرصانة. فتشعر بالتأمل الفلسفي جافاً ضاغطاً وكأن الصوت الشعري يتحدد بصعوبة. لكنّ ما كان يحاصر الشعر، ويرهقه، يتحول هنا الى مزايا. ذلك أن النثرية التي تتسلل الى القصيدة ترهقها، لكن الشعر حين يرفد القصة يثريها، ذلك يعني أن “الازدواج” بين الشعر والسرد لم يكن ينهض على التمييز ولمح الفروق الدقيقة بينهما، على رغم أن الازدواج نفسه ممكن، بل قد يكون ضرورياً لدى البعض.

يحمل غلاف الكتاب كلمة “رواية” فان قام القارئ بترجمتها الى شكل ونوع وخصائص على الوجه الذي تفهم به الكلمة على نحو تقليدي ومستقر احبط توقفه، اذ سيدرك ان الكاتب يستخدم الكلمة في شكل مجازي. فنحن مع سرد ممتد نسبياً، وهو عبارة عن نصوص ينهض معظمها بنفسه تقريباً من دون عون من سابقه أو لاحقه. لكنها مع ذلك مرتبطة بما يجاورها، اذ استثنينا “المقدمات” التي كتبت غالباً بعد كتابة النصوص الاصلية التي يمكن كل منها بناءً خاصاً واضح التطور، من مقدمتها حتى نهايتها. كل نص له بناؤه، ونموه الغائي، والحرص على الايحاء ببنية كلية تنظم الدلالة. لكن النصوص جميعاً تسبح في فضاء وزمن وبعضها مشدود الى بعض عبر “أنا” السارد الكاتب، وبحضور لشخصيات اساسية، وعبور لأخرى باهتة. وهكذا سنجد شكلاً سردياً أقرب الى ما يسميه ادوار الخراط بالمتوالية القصصية، اضف أنها تمتح من السيرة الذاتية للكاتب من دون سعي للتطابق معها. والاحرى أننا ازاء سرد يعتمد على السرية الذاتية. فثمة تطابق بين ما نعرفه عن الكاتب وبين السارد في كل شيء تقريباً: طفولته، الحي الذي ولد فيه، والحي الذي انتقل اليه، مدرسته وجامعته وتخصصه الدارسي. وقبل ذلك كله تحدره من سلالة نوبية. فسيرته سيرة بعض احياء القاهرة وسيرة سلالة بينها. ومع ذلك ثمة ما يشكك في هذا بسبب الاستبعاد الذي مارسه السارد على لحظات وشخوص، مثل غياب الأم، واستبعاد العلاقة بالاخوة وشحوب التاريخ الشخصي في بعض جوانبه، مثل العلاقة بالمرآة مما يعني ان تعمد الايحاء بسرد “قصة حقيقية” غير خيالية ليس دقيقاً، تماماً، لأن الكاتب يمارس الانتقاء، والاستبعاد، ويركز على لحظات بعينها يرى أنها أكثر دلالة، أو أكثر طرافة، أو تملك خواص “الأدبية” من الطرافة أو الادهاش.

مع ذلك لا ينبغي ان يفهم ذلك على أنه انتقاص من قيمة الكتاب، الذي يعلن عن مولد كاتب له نبرته الخاصة في اللغة والسرد، نبرة هي مزيج من السخرية، واستبعاد غير الدال من الأحداث والشخوص، وتكثيف للنص يبعده عن الثرثرة والاسراف العاطفي، ونزوع الى التفلسف، ينبغي ان يرفد بما يحد في الفكر، لئلا يقتصر على تلك الامشاج التي عرفها الكاتب من دراسته. لذلك وعلى رغم انشداد هذه الكتابة الى الواقع الصلب العاري، وسوء ظنها بالخيال، فإنها تختلف قطعاً عن هذه الكتابة التي تملأ السهل والجبل في الادب المصري وعن الذات فردية او جماعية والتي ترتفع الى مستوى المطلق الفلسفي، لأن علاقة الذات بالعالم أكثر تعقيداً من الغناء او مديح الذات أو الوطن أو الفقراء النبلاء. صحيح ان الكتابة تأخذ في ناحية منها هيئة الشهادة الراصدة والممثلة لبعض جوانب الواقع، إلا أنها مع ذلك تكشف عن نمط حساسية مغايرة لحساسية الكتابة في الستينات من حيث تجاور الخطابات فيها، وابتعادها عن الايهام بواقعية المشهد، وعدم الخضوع للمواصفات السردية المستقرة. اضف ان تحرر الذات من الطلقات، وحذرها من سلطة الايديولوجيا قد يوقفانها في منطقة قلقـة، فأضحت الهوية غيرة بديهية، وغـيرة معطـاة سلفاً، ومن ثم تنهض على الاختلاف لا التجانس وعلى النسبي لا المطلق.

شاغلنا في هذا السرد هو هوية المتكلم في النص، فنحن مع رحلة وعي يتسع فضاؤها من الطفولة حتى الشباب، لطفل متحدر من اسرة متوسطة جذورها نوبية لكن السارد يتكلم من موقع من يستعيد شريط حياته، متخوفاً بين الحنين الى الماضي والانفصال عنه بهدف تأمله وملء ثقوبه. في المقدمات نظرة طائرة تخلق مهاداً سردياً يوجز منا ستتكفل النصوص التالية بتخيله. اي اننا نعرف “الحكاية” دفعة واحدة، وانتماء السارد الطبقي ومدرسته الفرنسية في حي “وسط البلد” ثم ضاحية المعادي ودخوله الى الجامعة. إلا ان ذلك مكتوب بمنطق المعلومة ولكن المسيّجة بمشهد دال او مشهدين. بعض هذه المشاهد ليس مشهداً في المعنى المحدد بل هو مجرد عبور طيفي لمعلمته مدام جورجيت، أو مدام نبيلة حبشي، او بعض رفاق المدرسة من الذين قامت المؤسسة بتنحيتهم، ربما لعجزهم عن الاندماج في النسق، او بضيقها عن استيعابهم، فتقودهم السكائر الى المخدرات، وبعد ذلك الى الوقوف على الحافة للفرجة. حضور الأب شاحب، ربما لغيابه في الخليج، اما الأم فأبعدها السارد، وأحضر بدلاً منها المعلمات، في مرحلة الطفولة. ما دلالة غياب الأم هنا؟ هل اصبحت المعلمات هن البديل لها؟ أم أن الكاتب يبتعد متقصداً عن موتيف الأم، التي تسم الابن بما سيظل معه بعد ذلك، يسعد به او يشقى، أو يصبح زاداً سرياً يأخذه الى من يشبهنها من النساء ام خوفاً من انفلات اللغة من بين الأنامل، فتومئ مجازاتها الى علاقة أوديبية مثلا؟ أم ان غيابها يشير الى وطأة المؤسسات الكابحة، حيث رقابة الذات على نفسها الناتجة من ثقل الثقافة التي تعتبر الأم محرماً “تابو” لا يجوز السرد عنه، وهو ما يؤكده شحوب النساء عموماً في هذا الكتاب الذي يبدو كأنه سرد ذكوري؟

ولأننا عرفنا كل شيء تقريباً لا يبقى أمام الكاتب إلا البحث عن شيء آخر يثير فضولنا، بعد ان ضحى بورقة التشويق، فيجده في كتابة كيفية حدوث الاشياء من خلال سرد يزاحمه التأويل، ومن هنا سمة تجاور الخطابات: السردي والشعري والتأملي. الأول سريع، يغلب عليه التلخيص ويبتعد عن المسرحة، والثاني جملة قصيرة واضحة الحدود، والثالث حجاجي لا يستنكف عن استخدام بعض مصطلحات الفلسفة. وفي هذا كله غياب للحوار. ولعله يشير الى انعدام الحوار في “الواقع” و”المرجع” وفي حضور للسخرية السوداء التي يمكن لمسها في المعجم والفارقة اللفظية، بل تلوح منبثّة عبر المشاهد والحكايات الصغيرة، تنتشر في الحكاية كلها.

لا يكتب الكاتب هذا الزمن تحت وطأة الرثاء والنهنهة العاطفية، بل يصوغه كمهزلة فتصل السخرية الى كل شيء: المؤسسات والحروب العبثية، والتمرد وحكاياته الكبرى… أي أن الكوميديا السوداء النحيلة الدرجة في الحنين حين نكون مع زمن الجد، تتحول الى مهزلة في كتابة الزمن الراهن، لكن النص الأخير “ربيب العائلة” يكشف عن سيولة الزمنين وكأن الاختلاف بينهما ليس قاطعاً ليجعلهما نقيضين، بل يؤكد تشابههما، كزمن واحد هو زمن الطبقة الوسطى المصرية التي تنطوي على عوامل ذاتية، تسم قسماتها، فتشد الجد الى الحفيد، وتجعله يبحث عن جذوره، وهو يعي ان قوانين الوراثة أكثر صلابة من محاولات تجاوزها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

*شاعر وناقد مصري

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم