في صحبة السيد: لا أعرف

محمد محمد مستجاب: لا أعرف المتاجرة بالأدب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد محمد مستجاب

لم أكن أعرف أن كل طوب الأرض والحجارة والزلط التى كنا نركلها بأقدامنا ونحن صغار، أو تلك التى كنا نتعارك بها أو نقذف بها سباطات البلح أو نسب بها قائدي الطائرات المحلقة في السماء تصلح أن تصاغ في شكل أدبي أو روائي، إلا عندما كتبت قصة ” حجر” عن حجر ألتقيت به وذهب معي لميدان التحرير مشاركاً في ثورة يناير، بعدها وجدت قصة أخري للأديبة والشاعرة الفلسطينية ” مني ضاهر، لكني عندما حملت رواية ” عن الذي يربي حجرًا” للصديق والكاتب الشاب الطاهر شرقاوي، قلت أن طاهر أخذ باقي طوب الأرض وبدأ يشغل منه روايته الجديدة، إلا أن الحجر لم يترك أي أثر على روايته ألا في مواقع قليلة جداً، وهنا غضبت لأنه لو اتسعت دائرة الحكي عن الحجر لأصبح لروايته شكل ومزاق أخر، لكن طاهر اكتفي بأن يقف على حجره، كي يغزل وحدته وصمته ويسرد عالماً من الحكايات.

إنني لن اتحدث عن الرواية، بل سأتحدث عن طاهر، بل دعوني أن أتحدث عن أنفسنا، فكما قلت سابقاً نحن نكتب أنفسنا، ليتضح في النهاية أن أنفسنا هي نفوس وحيوات أخرين اثروا فينا وتركوا بصماتهم على حياتنا وتصرفاتنا وردود افعالنا، فحكايات وممارسات طاهر في الحياة، هي ممارسات وحكايات أشخاص اخرين، تاريخه الخفي، تكويناته، حيوات آخرين تسربت إليه، فأحلامه القليلة، هي أحلامنا التى تتسرب منا ولا نمسكها، وإذا كنا داخل روايته نري ابتسامته الماكرة، رغم ملامحه الطيبه وهدوئه وصوته المنخفض، إلا اننا  سنجد أن بداخله شرير خفي، نواياه غير مرئية، فطاهر في روايته البسيطة، يمسكك كل ذلك ويبثه في نصه، معبراً عن جزء كبير نخشي البوح به، أو لم نفكر إنه يصلح للكتابة.. ربما.

فنحن أمام رواية بسيطة ورهيفية وحالمة، تتقلب من الداخل – الغير مرئي – الذي لا نستطيع أن بوح به إلى الخارج – المرئي، والذي جميعنا نشترك فيه، ومن سرد بسيط وبجمل أبسط وبصور سينمائية، يسرد طاهر حكاياته – أقصد – حكاياتنا، الغارقة في الأحلام والثرثرة والأسئلة والأنتظار.

وإذا كانت العينيان هما بوابتا الجسد، فالقلم مؤرخ الحكايات، فوحدته هنا تغزل عالماً من الحكايات والأحلام والتساؤلات و الطموح والبراءة.

منذ البداية يعلن طاهر إنه مغرم بالصخور لدرجة الهوس، يلم الزلط والأحجار من الشارع، مع إنه فاشل كبير في العناية بنفسه، إلا إنه يستطيع أن يعتني بالحجر ذو اللون البني المائل للون الشيكولاتة، وهو دائم الترحال هو وكتبه وأفكاره وأحجاره، لكنه في كل مكان سكن فيه، يترك أثراً، يترك جزءً منه، يترك صداقه مع جار، أو كتاب، أو قلم، أو حلم بعيد المنال.

حكايات وسيرة ذاتية

طاهر الشرقاوي: هو السيد لا أعرف، تلك الجملة التى تتردد على لسانه، وكأنه يغلق بها الكلام ويستريح، لأنه يبحث عن أشياء هي في متناول أيدينا وتقع عليها عيوننا كل يوم، فيربي حجراً في بيته سريع الغضب، ويخشي النظر لعيون القطط، ولا يستطيع أن يفض إشتباك أي معركة يراها، ويحب طعم القهوة ورائحتها الذكية المميزة، وصعلكة وسط البلد ومقاهيها، ويقيم صداقة مع مقعد، مقعد عجوز في طريقة للموت، في الحديقة التى يفتح عليها نافذة شقته، ويشاهد منه الفتاة التى تسكن وجه القمر وتلوح له في ليل الحديقة، ولقد أكتشف خلال إنتظاره أن القطط قد اتخذت الحديقة وكراً لممارسة الحب، بينما الخرابة المقابلة لها تسكنها قبيلة من الكلاب، لنعلم إنه قسم العالم لأخيار وأشرار، وتأتي “سيرين” سيرين ذلك الأسم الوهمي، الذي تهاتفه به صديقه لم يلتقي بها، وحرف السين الذي يسمي به كل الأشخاص في الرواية، سواء الجيران أو الأصدقاء، سيرين تلك الوهمية، صاحبة الضحكة التى كأحلام، وطاهر لا يحب، ولم يدخل في قصة حب، مع إنه يبحث عن الحب بشغف، يتجول في وسط البلد وفي كل مكان، ينحت الحكايات والقصص كي يصل إليه، والحب هنا مراوغ وأن كان أمامه، لذا نجده مهموس بمراقبة المحبين في كل مكان: في المقهي، يتابعهم ويتصنت عليهم بل ويقرأ شفاههم وحركة أصابعهم وطريقة إرتشافهم للقهوة أو الشاي، وفي عربات المترو ومحطاته يتابع شقاوتهم وإيماءتهم وتعليقاتهم وهمسهم، بل إنه في وحدته ومتابعته أي بخياله وحكاياته يكمل تلك القصص، فهو يسحب معه حبيبان لمنزله، أو لحديقة منزله، ثم يراقبهما في ضوء القمر، وما يفعلانه، بعدها يبدأ في نقش اسميهما على مقعد الحديقة، وكأنه يعلن شهادة ميلاد حبيبين ويؤرخ لهما، ويضعها في دفتر أحوال الحب، مع قلب يخترقه سهم دليل على الشغف والوله، ثم يجلس على المقعد القديم، والذي لا يعرف تاريخه، يطل في السماء، فيتعاطف مع القمر ويشعر بعجزه وقلة حيله أشعته أمام وهج أشعة الشمس، لذا ينظر له دائماً وبإستمرار، يغرق في الأحلام خلال نظره له، ليدخل حلم ويعثر على جنته، ويكتشف إن الجنة بالنسبة له لن تتعدي شقة على السطوح وبها نبات صبار يزرعها وقمر يطل عليه وليل ونسمة هواء تدغدغ الجسد، لكنه في خجل لا يستطيع أن يبوح في حلمه بعد أن يعثر على جنته، بالوجة أو الجسد الذي يفركه في هذا المكان، ثم ندخل معه شقته الصغيرة، تلك المقبرة التى ينقش عليها أيامه وكتابته وتاريخه السري الذي لا يعلمه إلا هو وعدد قليل جداً من أصدقائه المقربين، تاركاً في مقبرته تمائمه من أحجار وأقلام وكتب وأربع لوحات، هي كنزه الأثير، الذي يعلن إنه لن يتركه لمفتشي الآثار أي أثر كي يعثروا عليه، ثم يتقابل مع مصاصي الدماء، ويختار أحدهما، وهو يراهم ويقابلهم في عز الظهيرة، مع إنه لا يعلم أن الحياة ليس فيها مصاصي دماء، بل بشر أكثر فتكاً وافتراساً وحدة من مصاصي الدماء، فيحلم أن يكون أحد مصاصي الدماء، لذا نراه يقول: كلما بكرت في النزول، زادت حصيلتي من الصيد، وهم ملوك الأناقة، ووسط كل ذلك يتسأل في سخرية: لا أعرف كيف لم أصادف مصاصة دماء أنثي، مع إنهن يملن مقهي سوق الحميدية ووسط البلد ومقهي صالح الذي يجلس عليه طاهر.

وأزعم إن تلك الأفكار التى يطعم بها روايته، هي أفكار نتيجة مشاهدته للأفلام، فطاهر عاشق للأفلام، ويحلم ذات يوم أن يكتب فيلماً للسينما.

إننا خلال كل ذلك نشعر بوحدته، وبالظلام الذي يعيش فيه، بصمته المحبب له، حيث يجمع حياته كلها في مكان واحد: سريره، دولابه، كتبه، لوحاته، موسيقاه، افلامه، لذا نجده لا يمتلك تليفزيون، حيث يحب أن يجلس في الظلام بالساعات بلا حراك، ينتظر شيء لا يعرفه، وأعتقد أن طاهر هنا ينتظر الحب، الحب الذي يجعله يخترق السماء ويقبض على أشعة القمر ويحفر سابع أرض، حب لا نراه إلا على شاشات السينما.

ثم يحلم ذات يوم أن يمتهن مهنة غير مألون ولا يتكالب عليها الكثيرين من الشباب، فيعثر على مهنة ” قاتل أجير”ً لكنه يكتشف أن المدينة لا تحب تلك المهنة وسوف تعريها من أدواتها وخصوصيتها ووقعها ومجدها، فهي مهن للريف أو للصحراء، فيحزن إنه لن يستطيع ان يتربص بضحاياه الذي حلم بالفتك بهم.

طاهر الصائم عن الكلام يقول: أصمت كي أسمع العالم، يعشق الأحلام،  ويحلم أن يعيس في حلم دائم، فيقول: الحلم هو الحرية الكاملة، فنجد خلال الرواية أحلام وحكايات متداخلة بين أيام الصبا والنشاءة وتعلقه في يد جده  وأيام تجنيده ورحيلة للجامعه وعمله ووحدته، يتذكر أيام الصبا وندائه هو وأقرانه في البراح والخلاء منتظراً ان يعرف إين يذهب صدي صوته، لعل الصوت يحطم الجبل والصخر والزرع، ذلك الصدي الذي لا يعرف إين يذهب ولماذا لا يرتد، وبين الواقع الذي نعيشه وهو جندي ببياده، يستحم في زاوية صلاة أثناء عودته من المعسكر، يشرب منها ماء نظيف،  يشعره بالراحة وبين إمراة يراقبها ثلاثة رجال عواجيز يستحلبون المضغة، وكأنهم ثلاثة شياطين يقفون على باب المسجد، كي يصل في النهاية إلى شقته، تلك التى يقول عليها مقبرته: فيقول: امتلك تابوتاً على مقاسي، ومقبرة لا تليق إلا بعظيم، مقبرتي هي عالمي.

ومع إن طاهر له مقبرته الخاصة، فكل منا له مقبرته، إلإ إنه  يعشق التسكع في وسط البلد حيث يشعر أنه حُر، وأنه يعيش وسط العالم وهو جزء مهم فيه، يقف في شباك شرفته، جاعلاً منه شباك الجنة، لكنه يشعر بوحدته أيضا في الجنة، فالناس تنظر له كمسجون يحسد الشارع.

أن طاهر الذي تشير عليه ” سيرين ” بإن يذهب إلى طبيب نفسي، داخل عقله بيت حجا للكلمات التائة، فالعمر يضيع وراء الكلمات ومحاولة القبض عليها، فهو يعشق الكلمات، ترتيبها، مراوغتها، صمتها، عفويتها، ركونها، ضجتها بين السطور، وتجولها على الأوراق البيضاء، لذا نجده يبحث عن دقة صياغة الكلام، فجاءت الرواية في جمل قصيرة، ومركزة، كلأحلام المباغتة التى لا نستطيع أن نقبض عليها.

طاهر الذي يعشق الظلام فهو ناعم كملمس الحرير، يسير كأعمي في الظلام، ليحكي سيرته الذاتية، ويحكي عن عاداته وارتباطها  بثنائية النور والظلام، لذا لا يحب أن يذهب إلى مكان بالليل، فيتابع كل الكون حوله: كتائب النمل وثرثرة الجيران وصراخهم، النميمة، ووقع أقدامهم على السلم، وصراع الأصدقاء على العمل وعلى الأفكار، وسائقي قطارات المترو، وخروج الموظفين من العمل.

ونظراً لجلوسه وحيداً خلق عالما موازيا للحياة الخارجية، حيث العفاريت التى تعابثة وتناوشه وتخفي منه الأقلام والكتب، تلك الأقلام التى تراقب حيرته وهو يبحث عنها، ليكتشف في سخرية رهيفة إن تلك العفاريت تحب الشعر من بين كل الكتب وخاصة الأعمال الكاملة للشاعر الكبير ” أمل دنقل”، وإنها تحب الأقلام الملونة، وعندما يكتشف أن مجلات ” ميكي ” اختفت، يخبرنا إنه من بين العفاريت ” عفريت طفل”.

لقد مرنا جميعنا بالوحدة، قبل أن ننجح في تكوين المثلث الاجتماعي: البيت، المكتبة، الزوجة، وطاهر في رحلته الذاتية لم يصل إلى الضلع الثالث في المثلث وهو الزوجة، ربما صمته وقلقه هو الذي يمنعه عن اتخاذ هذه الخطوة، والتى لابد منها، فهو في حالة انتظار شيء جديد، وقد اظن ان هذا الانتظار، لن يكون مع سيرين في لقاء الساعة العاشرة الذي يرتب له منذ قرون.

طاهر الذي لا يعرف كيف يبكي،  دائماً  يعود من حكاياته البائسة، المغلفة بالوحدة كفارس خسر معركته ولم يخسر الحرب، يبحث عن الحب، واخبره – هنا – أنني صنعت له تعويذة سحرية سوف تأتيه بعد هذا المقال، وسوف يدهسه قطار الحب قريباً، كي تزداد كتابته، رسوخا ورهافة وقوة.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم