في خلود السياب وأنشودة المطر

في خلود السياب وأنشودة المطر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نعيم عبد مهلهل

ليس هناك موسيقى أجمل من صوت المطر

رسول حمزاتوف

يظل الشعر يسعى لتبرير خلق الوجود بهذه الفنتازية المتعددة الصور والسابحة في أنواء فضاء نتعلق فيه كبندول برج الكنيسة ولا يشدنا إلى نقطة الثبات سوى قانون الجذب ، وهو ( أي الشعر ) صانع ماهر لما تريد أن تنتجه دواخلنا المكونة أصلا من مجموعة أحاسيس قابعة في زاوية ما وتنتظر لهذه الوثوب إلى الضوء حيث ينتظرها عنوان عريض لشاهدة قول يطلق عليها اصطلاحا ( القصيدة ) .

يشغل الشعر مساحة الذهن دون تواجد كتلوي أما هو مجرد رؤية لتخيل مشهد أو وقيعة أو ردة فعل إزاء ما نتعرض له ، وهذا الأشغال لا يتواجد عند الجميع ، أنما حافز التملك متوارث بقدرية طبيعية تنمو مع الموهبة والمثقفة وهناك ما يدعوه أرسطو ( المحفز القادم من العلا ) وما يعتقد محي الدين ابن العربي أنه ( المؤثر الساطع ، وجوده فن ، وصناعته جنون ، وفي النهاية نحن له بسجود لأنه مصنوع وليس مطبوع ، ومن صنعه الذي أوجد فينا هذه اليقظة ) وحتما هو يقصد اليقظة القدرية والإلهية كما يقصد ذلك الفيلسوف أرسطو .

يرسي الشعر أنماطا من التخيل تتعدد ألوانها وأغراضها ولكنها في النهاية تقع ضمن دائرة الشعاع الإلهامي للخيال البشري ومن خلاله نستطيع استحضار لحظة الغياب والتمتع بما تملك من جمال في بريق المعنى وموسيقى الكلمة وفي هذا المدار المتخيل نضع أنشودة المطر لبدر شاكر السياب أنموذجا ، فهي واحدة من بواكير الحداثة الشعرية العربية المتميزة والمليئة بشحنة العاطفة الجديدة وربما هي بهاجسها الوجودي مثلت واحدة من مقتربات صحوة الحداثة لما حفلت القصيدة بشكلها الجمالي وموسيقاها العميقة وروحها التي رسمت في مأساتها الصورة المستعادة للحزن الإغريقي أو دمعة أيوب وحزنه الأسطوري .

أن قصيدة أنشودة المطر شكل من أشكال التواصل مع القادم الجديد من الخيال الحضاري وحملت في ثنايا موسيقاها أسى الروح وهي تتدارك بخيبة الموت لصناعة الجمال قالبا وشكلا للحظة الشعرية ، ولتمثل في معنى حكايتها صيغة مبتكرة لتعامل الروح مع حزنها الذي هو وريث الجوع والفقر وانهيار قيم الثورات الحلم .. فكانت صورة القصيدة هي صورة اللم الذي لم يجد لقدريته موطئ قدم في ظل متغيرات ما بعد الحرب الكونية الثانية فكانت ردت الفعل ليس مع السياب نفسه ، ولكنه تميز عن مجايله بأن حملته موهبته ومعرفته الجيدة بالأدب الإنكليزي وترجماته له أن يميل إلى اكتشاف الرؤية الجديدة للقصيدة العربية في هكذا نمط من الجمال والتصور والموسيقى ، فأنشودة المطر هي عبارة عن كتلة من الحس الإنساني المليئة برغبة الحياة في ظل المعاكسة القدرية وهي الجزء الهائل من عالم الشاعر وما يتعرض وتعرض له وانتهى فيه طريح  فراش الموت في المستشفى الأميري في الكويت .

وقصيدة أنشودة المطر لا تقع في خانة المنجز المدون في إرث شاعر بل هي واحدة من جماليات الكتابة الشعرية التي تؤرخ للأسى وحداثته القادمة مع عصر الصعود إلى الفضاء وثورات اليسار وصعود عاطفة الوعي المفتوح في ذاكرة أجيال العالم الجديدة وقد رافقها الحس الشخصي والمعانات من جسد نحيف أراد من خلال هكذا نمط حسي أن يؤسس لحداثة تقرأ بعمق وبلذة وبرصانة .

يؤسس السياب برومانسية فاتنة بدء قصيدة مشيدة بعذوبة . شيء من غزل التوصيف المرهف القائم على التسبيح والإنشاد كما صدى قصائد بدء العشق وهو يبني في مقطعه الأول زخرفة من كلام مصنوع بأسى التشفع لجمال لم يعد معه آو قربه وهو بذلك يصنع عاطفة آتية من تقريب ضوء عيون وطن أو أنثى غي لحظة الحاجة القصوى إليهما :

( عيناك غابتا نحيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق الكروم

وترقص الأضواء كالأقمار في النهر

يرجه المجداف وهنا ساعة السحر ..

كأنما تنبض في غوريهما النجوم

وتغرقان في ضباب من أسىً شفيف

كالبحر سرح اليدين فوقه المساء

دفء الشتاء فيه وأرتعاشة الخريف

والموت والميلاد والظلام والضياء )

أختار بدر شاكر السياب العيون ليطل منها على وجوده والمكان ولكنه وقع في لجة الهيام بتلك المرآتين فكانتا بوابة لشهادة وتدوين ما يرى عبر لهاث الروح ورغبتها بمخاطبة المشاعر القلقة التي ظلت تسكن روح وذاكرة الشاعر منذ نعومة أظافره وحتى رقدة الموت الأخير ، فكانت هذه اللهجات المدونة بصورة حمد ووصف للمؤثر الجمالي هي انعكاس لرغبة الشاعر بمسك شيء عبر ما يحسه مفقودا وغائبا عنه ( المرأة الجميلة ، المرأة الرغبة ، المرأة التي يتمناها ، وأخيرا المرأة الوطن ) وتلك المحفزات وحدها من ذهبن ببدر ليبدأ رومانس أنشودة المطر ببوابة ( عيناك ) وكان هذا التصوير المشوق بأدائه الموسيقي العالي يمثل بدءا قويا ومؤثرا لروح القصيدة وقصدها ، إذ كان الوصف فيها لا يصل إلى تخوم ميتافيزيقيا التصور ، بل هي بدء نشيد حمد وتخيل لما يمكن أن يحوي ليل الوطن من خلال عيون امرأة .

الليل بتاريخ فقراءه وسلاطينه وأشياءه الأخرى . لذلك شكلت ابتسامة العيون عند من تغزل فيها بدر حافز صناعة نصاً خالدا يطل منه  على مشاعر شعب بأكمله ( شعب يجوع ويحلم ويحارب ويموت ) ، وتلك الرؤية البدء هي من أخذت القصيدة بغزليتها الدامعة لتكشف معنى ما يريده الشاعر في هكذا بناء لغوي مرهف وشفاف ، فصورة : ( يرجه المجداف وهنا ساعة السحر ) هي في شجن التفسير حركة لجمالية ديالكتيك ما ننظر إليه في الليل ونسفح على ضوءه أمنياتنا ، لكن دهشة الصورة واكتمال شكلها البلاغي الجمالي يكمن في ( رجة المجداف ) فهي تصنع وقيعة تخيل ما نريد أن نفعله مع النهر لنطعم به أطفالنا الجياع ، لأن السياب دائما يربط شعوره بالرغبة لامتلاك من يريده من الإناث ( وهن كثيرات ) برغبة الإنسان الوطني البسيط ولهذا فان ما أدركه السياب في هكذا صناعة لحداثة المشهد إنما يشكل تجديدا في تناول القصيدة العربية المعاصرة في  مشهدية ساحرة وجميلة .

صور جديدة ، ابتهال لتخيل يستحدث الصورة بتجميع ثقافة الأخيلة ، مزق لعناصر كثيرة ( ضوء القمر ، رعشة البكاء ، رجة المجداف ، نشوة الطفل ، الخوف ، قلوب النجوم عندما تنبض ) .

هكذا وصفيات تتداخل فيها ذاكرة المشاعر والأحاسيس لابد أن تكون مقدمة لحدث غير عادي يقيم عليه الشاعر تأسيساً لقصيدة ( أنشودة المطر ) وهو تأسيس يعتني بالصورة واللغة والفكرة والموسيقى لتأتي لنا القصيدة غارقة في دهشة صناعتها وصدقها وفنتازياتها التي تحمل الكثير من معاني الحياة في قرن بات فيه الوصول إلى الفضاء  ممكناً لكن الروح في زحمة رجرجة المدفع تبحث عن خلاصها في موسيقى الشعر وروحه وقدرته على بعث الأشياء من جديد ليجعلها تقاوم وتصد الطغاة وصناع الجوع ودموع .

وعلى هكذا رؤية تؤسس القصيدة لغاية يُراد من خلالها نقل المعاناة المعاشة من قبل صناعها وهي في فلسفتها وتجربتها مخاض حياة قلقة ومريضة ودائمة الحاجة لأشياء توفر للشاعر حياة لائقة بما يملك من موهبة أحس فيها أن ثمة مجافاة بينه وبين القدر وأنهم قد لا ينتبهون إلى الملامح الصينية للشاعر بقدر انتباههم إلى موهبته وقدرته الهائلة في كتابة نمطا لريادة جديدة في الشعر العراقي والعربي،  وقد بانت الشكوى في واحدة من قصائده في تلك المناجاة والصورة التي تحمل الكثير من الإحساس بالغبن وبالرغم من هذا ظلت وتيرة الإبداع السيابي في تصاعد لن الموهبة في خارج سلطة المؤثر الاجتماعي وذلك لخضوعها لمؤثر الروح والخلق فكانت أنشودة المطر حصيلة تصاعد أداء الشعر والحياة والحس والشعور بألم الأشياء وطقوسها التي لا تجلب لذاكرة الشاعر سوى إحساسه الأول بأن البنات لا يعشقن شكله بقدر عشقهن لديوانه الذي يحمل قصائده كقوله في هذا الصدد :

يا ليتني كنت بديواني لأفر من قلب إلى ثان..

بقي الشاعر متكأً على هكذا عالم صنعه باعتقاد أن كل هذا يعود إلى رغبة الرب ليكون لهذا فأن ناتج هذا الشدو الطبيعي يظل قائم على ما يتقنه الشاعر ، وهو الاحتفاء بالموجود بطريقة الأسى الذي يصنعه بيديه وبشعره وهنا تأتي مفردة المطر بالنسبة لرؤى الشاعر هي دالة النأي بأحلامنا وتذكيرنا بواقعنا المرير ، الفقر ، الهجرة ، المستعمر ، التخلف بكل جوانبه ، لهذا فالمطر هنا يعكس هاجسه بفعل قلق الشاعر وصراعه مع نفسه قبل صراعه مع الحياة بتكويناتها الاجتماعية والطبيعية غير أن قيمة الجمال تكمن في القدرة التصويرية لهذا الهطول وتلك الاستعدادات التي تظهرها الطبيعة والأشياء لهذا القادم إلينا نتاج إحساس الغيوم بثقل زائد على ظهورها وكأنها قطيع من الجمال مل من حمله قي سير صحراوي طويل ونتاج كما في وصف الشاعر ارتطام أقواس السحب بالغيم ، فيأتي كما يراه الشاعر ضيفا ثقيلا فيما قدره الأزلي المعروف أن يكون بشارة خير للأرض وغلتها .

أذن انعكاس رائية أنشودة المطر ومشهدها هي محصلة نفسية وردود فعل لما يحدث للإنسان وما يتعرض له من استلاب على مستوى الحلم الحياتي والبيئة والأسرة وحتى مكانه في دائرة الوظيفية .

إنها خيبة تنهمر بأسى ومرارة أخرى ، ومادام ما ينتجه لا يذهب إلى أهل الأرض التي يروي حقولها ، وما دامت في خضم طقوسه تحدث فواجع الموت والنفي والهجرة وبالرغم من هذا يأخذ الشاعر بتصوير لحظة التهيؤ لهطول المطر وهو تأثيث ساحر لما قد يغاير الفعل المتوقع لهذا المجيء ، وكانت الصورة الوصفية التي هي في حكم الاستهلال تمثل قدرة هائلة من خلق الهاجس الشعري بشكله المبدع مضيفا إليه نمطا حداثوياً مشغول بعناية وحرفية وقدرة كبيرة على صناعة الخيال الخصب عندما يستمر الشاعر في الوصف بمثل هذه التقنية التي تخفي في حنايا حروفها الكثير من مشاعر اللم المبتهج بضياء الجملة وسحر تصويرها ، لهذا يستفيق فيه كل شيء ويعلن عن معاناة الهاجس بالتوجس وتثوير المعنى الوصفي وتصاعد أداء المشاهد في هذا الاستهلال الممتع :

( فتستفيق ملئ روحي رعشة البكاء

ونشوة وحشية تعانق السماء

كنشوة الطفل إذا خاف من القمر )

إلى هذا الحد تبدأ ميكانيكية أخرى لذهن السياب ويقترب من الحديث عن المراد وروحه ، غير عن وصف ما يحدث لحظة تأجج البروق في المكان المتخيل حدوثه في غاية القصيدة يظل قائما وتظل الصورة هي من يسيطر على رؤية الشاعر لما يحدث ، ومرده إن الشاعر السياب لا يريد أن يغادر مستعجلا إلى ما يبغي بسبب تعلقه بالصورة وصناعتها وهي واحدة من حرفيات الشعر في أقامة طقوس الحمد بمقاربات وأوصاف ودلائل تتحول بين الميتافيزيقيا الكونية ومتغير المكان المصور من قبل الشاعر أي البقاء على وصف المكان المتوقع هطول المطر عليه :ـــ

( كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم

فقطرة وقطرة تذوب في المطر

وكركر الأطفال في عرائش الكروم

ودغدغت صمت العصافير على الشجر

أنشودة المطر

مطر

مطر

مطر ………………………………..)

من هنا تبدأ القصيدة لحظة الوثوب إلى ما تريد ويتصاعد في أداء كورالي عزف الكلمات وهي محملة بمعنى النشيد الذي يريد فيه الشاعر إثبات العكس فيما نجنيه من المطر .

بدء احتفالي يلتقي مع الوجع الذي مارسه اليوت في قصيدته الشهيرة ( ارض الخراب ) وربما كان السياب متأثرا جدا بهذه القصيدة وروحها الحاملة للقهر الإنساني المتوالد من الضد الذي تصنعه الآلة ومتغيراتها المليئة بالحروب والاحتلال .

أن اليباب المطري هو ما تحمله أنشودة المطر فيما يباب الروح تحمله أرض اليوت عندما تسال سيسيل العرافة وتجيب إنها تريد أن تموت .

ذاته الموت يشغل مخيلة أنشودة المطر ، حيث يتشكل هاجسه الوصفي بصورة لا تغيب عن مخيلة المكان في طفولة الشاعر وهي ذاتها طفولة جيكور وبويب وتلك المنازل المحتفية بصمت من يموتون ويولدون في دورة حياتية يائسة لا يرتقى فيها كما يرى السياب سوى الشعر وأحزانه الكثيرة . لهذه تأتي هذه المقطوعة الوصفية مقترنة بالطفولة والموت كواحد من إسقاطات ما مكان ( السياب الطفل ) يراه ويعيشه .

صور من اليتم والفقدان والاغتراب ، صورة للحنان الضائع والتساؤل البدائي الذي كان يلف عينيه وهو ينحدر بعيدا عن جيكور إلى مقبرتها النائية ليسأل عن الصمت المكتئب والاندثار الأزلي لأمومته والفقدان المبكر للأشياء التي رآها في شبابه متوفرة للكثير من الحسان والشبان ممن زاملهم في الدراسة الثانوية ودار المعلمين العالية .

هذا التشكيل برؤاه الميتافيزيقية ـــ الطفولية هو إسقاط الذكرى على ورقة الشعر وهو ملامسة للحدث الوطني الذي يشعر من خلاله إن المطر لم يعد يفعل شيئا سوى المزيد من الدموع والبحث عن أمومة ضائعة في دياجير المقبرة ، لذلك احتمت في رؤية الشاعر وأحاسيسه في وصفية المشهد لحظة صناعة النشيد المطري ، مساءات متثائبة وغيوم ضجرة ، كلها صنعت مدرك العودة النفسي إلى شخصية المطر ، وهي حتما شخصية الشاعر :ـــ

( تثاءب المساء والغيوم ما تزال

تسح ما تسح من دموعها الثقال

كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام

بأن أمه ـ التي أفاق منذ عام

فلم يجدها ، ثم حين لج في السؤال

قالوا : بعد غد تعود

لابد أن تعود

وأن تهامس الرفاق أنها هناك

في جانب التل تنام نومة اللحود

تسف من ترابها وتشرب المطر )

لم ينته التشبيه في القصيدة بطفولة غابت عنها أمومتها بل تعداه إلى استلاب آخر في صورة الصياد الذي هو ربما ( الجار ، العم ، الخال ، إنسان من أناس جيكور المعدمين بحلم الحاجة والنهر ) حيث يمسك الصياد خيط الحياة من خلال أغنية يطلقها حين يأفل القمر وهو يعيد بسلطنة الشعر صورة الموجودات وقدرها المدفوعة بأسى ما يتركه المطر من تبعثر لخطط الحياة عند البعض ومنهم الصياد الذي رسمه السياب كصورة من صور العوز التي تلف هاجس قرى الجنوب بأزلية الفطنة والرغبة إن الحياة قد تطول في قسوتها أمضى من سكين حادة :

( كأن صياداً حزيناً يجمع الشباك

ويلعن المياه والقدر

وينثر العناء حين يأفل القمر

مطر ، مطر ، مطر

مطر ، مطر ، مطر )

بهذا حس مشت القصيدة ، أرخت للمطر تواريخ لم يؤرخها احد بهذه الهواجس المركبة التي تتعلق بالنوازع وما تحسه الذات اتجاه المتغير والقدر إنها مثل الصياغة الموسيقية لعمل خالد يتصاعد أدائها بإتقان وتقترب من عاطفتها الإنسانية بمقدار توسيع دائرة الإنشاد بهكذا صوت حزين ومؤثر فهي بعد فصلي التشبيه ليتم الطفولة وضياع الرزق عن الصياد تلوذ بهاجسها البدي وعقدتها الدائمة ( المرأة ) فهنا يعود السياب إلى مناجاتها ، الحبيبة التي يعتقد في كل عصور حياته إنها أفضل الحلول المناسبة لنقله إلى فردوسه المتخيل لهذا فهي مع اوبرالية العزف المطري في ذاكرة القصيدة تعاني وقتما تشاء لتكون موضع خيار الشاعر ومصدر أسئلته وإجاباته الدائمة وهي ربما اللصيق الأثري والأبدي بهذا الهطول الذي يشغل مساحة الوجود بشتى الأرزاق والرغبات والتحولات على مستوى الفكر واليوم المعاش والهاجس الذاتي .

لقد كون المطر في حدس التخيل الأنثوي افتراضاً للعديد من الصور والمتغيرات التي يمكن أن يتعامل بها المطر مع أشياء الكون ولهذا كان على الدوام مصدر الهام حتى في اشد لحظات الهدوء أو العنفوان ولكنه يهدأ إلى سكينة الافتراض والتعيير حين تتعلق قطرات بأهداب عيون امرأة تلك التي يسألها السياب ويريها كيف يترك هذا الساحر خطواته على جسد الأرض والروح ليتحد مع فتنة الغزل التعلق برغبة الامتلاك فما بين المطر والمرأة الجميلة تنبري عاطفة السياب تصوغ أنشودتها بحنو وتنشر رؤى الحياة وصورها بطيفها الوطني لتصير حاجة الشاعر هي حاجة جميع الناس الذين يسكنون ارض العراق وسواحله وهي حاجة عكست الكثير من المشاعر والأحلام بين شتى الأطياف والمناخات وهي في مجموعها مثلت ثقافة الشاعر وانتماءه وجزءا من اعتقاده بصورة الرسالة الشعرية بزيها الوطني والعاطفي والمبدع ، لهذا فان صورة امرأة والمطر هي توحيد لرغبة الانتصار على طقوس الجوع واللم والهجرة والفقر عبر نافذة الحلم الأنثوي وذلك ما كان يشيد له السياب البيوت وألأساطير :

( أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ؟

وكيف يشعر الوحيد بالضياع ؟

بلا انتهاء ــ كالدم المراق ، كالجياع ، كالحب ، كالأطفال ، كالموتى ــ

هو المطر

ومقلتاك بي تطوفان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمسخ البروق

سواحل العراق

بالنجوم والمحار

كأنها تهم بالبروق

فيسحب الليل عليها من دم دثار )

ومضة البروق هذه أخذت القصيدة إلى مناخات أخرى شغلتها هواجس غربة الشاعر والشعر وهيمن عليها شوق المكان ( الوطن ) بما يعانيه ويحسه . هذه الغربة المتألمة للفق المقوس لمال الملايين من الفقراء والجياع مثلت للسياب هاجسا دائما لخليقة ليس بمقدورنا تغيرها ولكن بمقدورنا أن نصفها ونندب حظوظنا من خلالها ، إنها نوع من الخنوع والانهزام إمام المقدر حيث لا يبقى من الشعر سوى المناجاة وشرخ هاجس الذي يراه ويحدث وتلك هي واحدة من مشاعر الحس المستسلم الذي ابتلت فيه ذاكرة السياب وصار يلتف تحت مطرقة القدر ويخضع لها في وصف مؤلم ولكنه شعريا يتفوق على جميع المشاعر التي تحدثت عن مثل هذا المر قي نفس أزمنة حياة الشاعر ، إنها مخيلة قلقة ولدت مكن تراكيب الحيرة والصراع النفسي والطبقي وتأثيرات الداء والعوز والتأثر بالقراءة الحديثة للوقائع العالم فكانت أنشودة المطر تصويرا بارعا لتلك الاستكانة الخاضعة لمقادير محسوبة ومنزلة بهدايا مطر ثقيل ينث على القرى بصدى آهات الجياع وأحلام الصيادين وحتى يرسم في قدره اسطرة تلك المكنة ويعيدها إلى الوراء لتربط خيالها بتلك الماسي التي حدثت لقوام دثرت وربما يفعلها المطر مرة أخرى بتلك الأرض التي تلوح من المشاهدة البعيدة للشاعر حيت تصنع أماكن النفي أو الهجرة آو أسرة المرض نواظير مكبرة نشاهد فيها ما يمكن أن نراه من أبديتنا التي جبلنا إلينا وهي تأن الآن تحت أشجان الحريف والفقر والمطر. وكان العراق بأزليته وروحه يمثل دالة هكذا أشجان عبرت كل تلك المسافات وصارت بحروف هذه القصيدة ترفرف فوق ذات المقبرة التي دفنت فيها ام هذا الطفل السيابي الذي استفاق فجأة :

( أكاد اسمع العراق يذخر الرعود

ويخزن البروق في السهول والجبال

حتى إذا ما فض عنها ختمنها الرجال

لم تترك الرياح من ثمود

في الوادي من اثر

أكاد اسمع النخيل يشرب المطر

وأسمع القرى تأن ، والمهاجرين

يصارعون بالمجاديف وبالقلوع

عواصف والرعود ، منشدين

مطر ، مطر ، مطر …)

إن روح الشعر في متوالياته المتوازنة والواعية هكذا يقال حين نحس أن شاعرا أحسن في بناء نصه . والسباب ظل متقنا في صناعة متواليته لحدث ما يريده أن يقوله ويبث فيه لواعجه لذلك فأنه أحسن في خلط الأزمنة والصور عبر هذا الهطول الأزلي لقطرات الماء . وكأنه مع المطر يشكل رؤيا لوجوده الأزلي مهما بعد عنه الناظر ، وهذا التشكيل لا يمل من رسم الخيال والصورة لما كان ويكون في تلك الأماكن الساحرة رغم الاستلاب وفجيعة ما تتعرض له أشياءها . لقد كانت القصيدة صورة من صور الذكريات وصناعة لدالة الحزن ومسبباته لهذا فأنها مثلت حسا مكتئبا ولكن بأداء عال وهنا تكمن فتنة القول حين تتغير المشاهد ولكن الدالة واحدة ومتمكنة ومستعيدة لكل فصول حياتنا :

( ومنذ كنا صغارا كانت السماء

تغيم في الأشياء

ويهطل المطر

وكل عام ــ حين يعشب الثرى ــ نجوع

مامر عام والعراق ليس فيه جوع

مطر

مطر

مطر )

تمضي القصيدة ، ومعها يمضي الشعر . روحنا تقرأ . وإصغاءنا يستمع . أنشودة المطر هي رؤية لعالم يطل على خليج الروح . سرها إنها تعيش بالمكابدة والحسرات والآمل . مشاهدها ليست متخيلة بل هي مستعادة في لحظة نأي وهجر وتفاقم آلام الداء ولكنها مخيلة خصبة تعلوها غيوم الابتهاج بمتانة النص وتسبر أغوارها عنق الموسيقى الفاتنة والتي تضج بها سيمفونيات القدر والطفولة ونشوة الحب والآمال الكبيرة فيما تشكل الأساطير بخيالها المحمل بروح القرى والمدن ورعشة المواسم الباردة بطانة لرداء القصيدة وهي تتشكل بانتظام متحدثة عن معنى أن نولد ونعيش في عوز ورغم هذا بمقدورنا أن نحلم ونكتب ونتأمل.

لقد كانت أنشودة المطر ، صورة لوقائع وطني يشد خاصرة الحياة إلى أعماق الحلم بحبال من ضوء الشعر وكان التأكيد على جبروت الوقف واستعادة سطوة الوجود يفيض بصدق لوطنية الشاعر ومن عاش معه في تلك الربى التي تستسلم بلذة وخنوع وشدو إلى مطر يتساقط وغيوم تعزف بأبواق البروق لهذا كانت قصيدة بدر قصيدة للحياة قبل كل شيء:

( في كل قطرة من المطر

حمراء أو صفراء من أجنة الزهر

وكل دمعة من الجياع والعراة

وكل قطرة تراق من دم العبيد

فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد

أو حلمة توردت على فم الوليد

في عالم الغد الفتي واهب الحياة

مطر

مطر

مطر )

 

دوسلدورف / فبراير 2014

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم