في جنح الليل

في جنح الليل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد صالح رجب

يأبى الليل إلا أن يستر أناته .. يخرج من بيته في أقصى القرية يرتدي معطفا عتيقا ويلتف بعمامة من الصوف تغطي رأسه وأذنيه، يحمل دراجته المتهالكة متجنبا برك الماء المتجمعة في حفر الطريق ، يقف لحظة يلتقط أنفاسه .. كم من المرات حمل دراجته في ليالي الشتاء الماطرة في طريقه إلى عمله دون أن يتوقف للحظة ؟ لم يعد يتذكر ..

عاود السير من جديد ، عبر الكوبري إلى الضفة الأخرى من النهر حتى وصل إلى الإسفلت ، كانت أضواء أعمدة الكهرباء على قلتها تنعكس على صفحة النهر كما تنعكس على ماء المطر الذي يغطي الأرض .. استقل دراجته التي تفنن في تزينها ، سار بمحاذاة النهر المتدفق .. حبات المطر وحفيف الإطارات بالإسفلت يزيدان من هواجس المكان ، رعد وبرق يستكملان تفاصيل الصورة .. يعانق الصمت وصفير الرياح ..تنفلت شفتاه عن بعض الترانيم الحزينة .. يتنقل ببصره ، يستكشف مدى الرؤيا ، تخالجه نفسه أن يبحث عن مأوى يقيه المطر الذي لا زال يتساقط بغزارة ، غير أن راتبه الهزيل لم يعد يتحمل خصومات تأخير جديدة .. تمر سيارة مسرعة إلى جواره فتنثر الماء الموحل عليه .. يمسح زجاج نظارته العتيقة .. تهذي نفسه بهموم ناء بحملها .. جسد خار تحت وطأة الشقاء ومرارة السنين ..فقر ومرض يلازمانه .. يطلق آهة يرتد صداها عبر سنوات عمره الذي تخطى الخمسين .. تدور عيناه من جديد ، يرهف السمع ، لم يعد يسمع نفس الصوت الذي كان يسمعه من ذي قبل.. لم تعد دراجته طائعة تحت قدميه .. انحرف إلى الطريق الترابي بمحاذاة الرصيف .. تفحص الدراجة .. لقد أصابها العطب ، يا الله ..إنه ليس بسيطا ..حاول جاهدا ، وعيناه ما فتئت تنظران إلى ساعة يده .. الوقت يمر سريعا .. أوشك الليل أن ينتصف ، عليه أن يصل إلى عمله بحلول الثانية عشر ليلا .. صور عديدة تتراءى أمام ناظريه .. سجل الغياب.. المدير .. آه .. بالتأكيد لن يقبل المدير عذره هذه المرة أيضا، ، وكيف يقبله وهو لم يعاني مثله !!

فكر أن يستقل سيارة .. لكن لن تتحمل ميزانية الأسرة مثل هذا الترف .. الأمر لم يعد ترفا ـ هكذا حدثته نفسه ـ تنبه إلى سيارة تقترب ، تردد قليلا ، نظر إلى دراجته .. المطر .. الغياب .. الخصم ..وجد نفسه يسعي لإيقافها ، غير أنها لم تتوقف ..
يجر دراجته ، تزيد ألثوان والدقائق من شقائه ، لكن يبقى الأمل مادام في العمر بقية .. سيارة أخرى تقترب رويدا .. يستغيث بكتلي يديه كالملهوف ، توقفت ، وكأنما رق سائقها لحاله .. لكن .. لا مكان للدراجة ..

واصل السير ، شاحب الوجه ، منهك القوى .. بصيص أمل لازال يراوده ،.. لم يعد يطالع ساعته ، ولم يعد يهتم كم مضى من الوقت ، أو كم قطع ؟ ، يريد أن يصل حتى ولو وصل متأخرا ، علت أناته وخارت قواه ، بصره المنهك لم يعد يميز معالم الطريق ، واصل السير ومشى طويلا حتى تلاشى و غاب في جنح الليل.

ــــــــــــــــــــــــــــ

قاص مصري

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون