في المسألة الإنسانية

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يحكى أن رجلا حمل أمه القعيدة مسافرا بها من حيث يعيشان، إلى مكة لكي تؤدي فريضة الحج، وهنالك ظل يحملها على كتفيه وهي تؤدي المناسك يوما بعد يوم، ثم تساءل إن كان بهذا قد برّ بأمه وأوفاها حقها عليه، فقيل له إنه ما بر بها ولا أوفاها حقها.

والسبب هو أنه كان يحملها وهو ينتظر موتها، في حين أنها بدأت بحمله وهو جنين ثم وهو طفل، ولكنها كانت ترجو له الحياة وطول العمر. لا يعني ذلك أن بر الولد بأبويه مستحيل، وأن من غير الممكن لولد أن يعوض لوالديه ويكافئهما في شيخوختهما على شبابهما الذي ضيعاه. ولكن ما يجعل الحياة كلها صعبة بحق، هو تحويل العلاقات الإنسانية إلى “شراكات” يقدم كل طرف فيها نصيبا من رأس المال، وينتظر ما يوازيه من نصيب في الأرباح.

فلو أن الأم كانت تحمل ولدها جنينا وطفلا كنوع من الاستثمار، لكان حمله لها في هرمها جزاء عدلا. ولكنها لم تكن تفعل ذلك لتحقيق هذا الغرض.

وأيضا مما يجعل الحياة تزداد صعوبة، اختزال الأشخاص في بعض أدوارهم. فالعقوق، تلك الكلمة المذمومة التي لا تكاد تستخدم إلا في وصف الأبناء، هي مجرد نتاج لاختزال البشر لبعضهم البعض. فلنفرض على سبيل المثال أن شابا أبى أن يلتحق بالجامعة، وقرر أن يبدأ حياته العملية، متجاهلا رغبة والديه. هذا بموجب التعريف “ابن عاق”، ولكنه “عاق” من وجهة نظر والديه وحسب، فهو من وجهة نظر بعض أصحابه “متهور”، ومن وجهة نظر البعض الآخر “حاسم” يعرف ما يريد وما لا يريد.

ماذا لو أن أبوي ذلك الشاب تعاملا معه باعتباره إنسانا، ولم يختزلاه في صفته كابن لهما؟ ربما كانا في هذه الحالة سينظران إليه في إعجاب، ويثمّنان قدرته على اتخاذ قراراته بنفسه ويدعوانه من ثم إلى تحمل مسئولياته في الحياة. تعالوا نفترض أنهما فعلا ذلك، أنهما اعتبراه إنسانا مستقلا وأنهما عاملاه كما يليق بإنسان مستقل. ولنفترض أنه فشل في حياته العملية وبعد سنوات اكتشف أن الفتاة التي قرر أن يعمل لكي يدخر ما يكفي للزواج بها ترفض الزواج منه لأنه لم يعد مكافئا لها خاصة بعد أن عادت من الخارج وقد حصلت مثلا على ماجستير في التدبير المنزلي. أغلب الظن أن هذا الشاب سيلوم والديه، فقد كان من حقه كـ “ابن” لهما أن ينصحاه، بل أن يجبراه كـ “أبوين” على سلوك الطريق الصواب في الحياة. ولكن لماذا يفترض الشاب أن أبويه كانا يعرفان الصواب وضنا عليه بهذه المعرفة؟ لأنهما أب وأم. لأن الأب والأم بالضرورة يعرفان الصواب. هذا اختزال ثان لشخصين في دوريهما كأبوين. لو أن الشاب يتعامل مع والديه باعتبارهما إنسانين زميلين له في الإنسانية، فسيعترف لهما بنسبية معرفتهما. ومن ثم فلن يلومهما على عدم قهره.

بوسعكم أنتم أن تتلمسوا مشكلة اختزال البشر في أدوارهم أينما تنظرون حولكم، فلن تجدوا امرأة من حقها أن تسأم، ولكنكم ستجدون زوجة عليها أن تتحلى بالصبر  لأربع وعشرين ساعة في اليوم، ولو نظرتن فلن تجدن رجلا من حقه أن يخلو قليلا إلى نفسه أو أصحابه، وإنما زوجا عليه أن يكون مُسلِّيا طوال الوقت، كأنه قناة إضافية في التليفزيون. ولو نظرنا جميعا لما رأينا إنسانا يضحك، وإنما رئيسا في العمل يكشف عن أنيابه

ولد الشاعر الأمريكي توماس لَكْس في عام 1946. أصدر أكثر من اثني عشر ديوانا نال عنها عددا من الجوائز والمنح. وهو أيضا مترجم وأستاذ للكتابة الإبداعية تنقل للتدريس بين عدد من الكليات الأمريكية. وهذه قصيدة له:

سِنَّة صغيرة

تنمو لابنتنا سِنّة، ثم ثانية

فرابعة فخامسة

فإذا بها تريد قطعة لحم من العظم مباشرة.

 

انتهى الأمر:

ستتعلم بعض الكلمات،

ستقع في غرام الأبله والأحمق

ومعسول الكلام وهو في طريقه الى السجن.

 

بينما أنت

وزوجتك تشيخان

تبليان

غير نادمين على شيء.

فقد عملتما، وأحببتما، وتقيّحت أقدامكما.

وها هو الغروب.

وابنتكما طويلة.

هذه القصيدة دليل آخر على التقدمة الطويلة التي بدأت بها، فبدلا من أن ينظر الأب إلى معجزة الخلق، وبدلا من أن ينظر بحب إلى ابنته وهي تشق بأسنانها طريقها في الحياة، إذا به يرى مأساته الخاصة. ولكن هذه القصيدة ليست دليلا على تنميط الأب لنفسه بوصفه أبا، وإنما هي دليل عكسي على حقيقة نغفل كلنا عنها، وهي أن الأب لا يعتبر نفسه أبا طوال الوقت، هو ينظر إلى نفسه أحيانا باعتباره رجلا عاديا، ولكنه في اللحظة التي ينظر فيها إلى نفسه بهذه الطريقة، لا يستطيع أن ينظر إلى طفلته الصغيرة نفس النظرة، فهو لا يغفل عن تنميطها كابنة له، ولا يستطيع إلا أن يعتبر نمو سنتها الأولى، نوعا مبكرا وقسريا من العقوق: إنها تنمو، إنها تدخل تغييرا جذريا على اللعبة التي يستمتع بها الأب والأم، إنها تنتقل من دور الدبدوب الحي، وهذا في ما يبدو، ما لا يستطيع كثير من البشر أن يغفروه لبعضهم البعض.

مقالات من نفس القسم