فنجان القهوة

سوسن الشريف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سوسن الشريف

جلس أمامي كعادته دون أن يلحظ وجودي، يدخل إلى مكان لقائنا في نفس موعدنا الذي لم نتفق عليه يومًا ولم نخلفه أبدًا، يسير بخطوات واثقة هادئة، يتجه نحو الطاولة التي اعتاد الجلوس عليها، كاد يكون اسمه محفورًا عليها دون أن يخطه قلم، لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها حتى في غيابه، كأنها تنتظره هو دون سواه، ترفض أن يشاركه فيها أحد، كلانا يستعد للقائه كل يوم.

تلتفت الأنظار إليه بمجرد دخوله، يتهادى عطره المميز حوله، منذرًا بشخصية تتمتع بالغموض والجاذبية، حضوره يملأ المكان دفئًا ورهبة، يأتي له النادل بفنجان تنبعث منه رائحة القهوة الطازجة، تختلط بعطره، بدخان سيجارته، ليصنعا حوله ساترًا ضبابي يُضيف إليه مزيدًا من الغموض. يفتح حقيبته الجلدية سوداء اللون، يُخرج كتابًا، ينهمك في قراءته، يذوب معه، تلوح على وجه علامات عدة انفعالًا مع ما يقرأ. كم من المرات تمنيت أن أصبح إحدى الصفحات التي يقلبها الواحدة تلو الأخرى ليكتشفها، يرتشف بضع قطرات من القهوة، تظهر على وجهها علامات الرضا والاستمتاع بما يرتشف ويقرأ من القهوة والكتاب المستند إلى أنامله القوية.

أراقبه عن بُعد يكاد الفضول يقتلني، ليتني أقترب منه، ليتني اسبر غوره، لم أكن بهذا الفضول من قبل، ما الذي يميزه عن غيره من الرجال، ما الذي يجذبني إليه بهذه القوة؟! ألمح شبح ابتسامة يخشى أن يطلق صراحها ترتسم في عينيه من وراء نظارته الطبية الأنيقة، لكن ما لون عينيه؟! أهي بنية؟! عسلية؟! سوداء؟! لم أتحلى بعد بالجرأة التي تمكنني من النظر إلى عينيه لأعرف لونهما. ااه لقد تذكرت يوم ألقت الشمس بضوئها على وجهه الخمري، فالتمعتا بلونٍ بني فاتح عندما رفع رأسه محاولًا الابتسام للنادل وهو يضع أمامه فنجان القهوة، وما لبث أن تحولتا إلى نظرة نارية صوبها نحوي، تأمرني بالتوقف عن مراقبته والتحديق به. شعرت بوجهي يشتعل خجلًا، تراجعت عيناي على الفور لتنظر في الكتاب الذي أتظاهر بقراءته، بينما أنا منشغلة كعادتي في فك شفرات الهالة التي تحيط به من الرهبة والغموض. كم سببت لي نظرته ارتباكًا لم أعرفه من قبل، قلب حياتي رأسًا على عقب، ارتعشت يداي، خفق قلبي بشدة، وشعرت وكأنه سيقفز من بين ضلوعي منهكًا من تسارع دقاته.

اليوم لا اعرف سببًا لإصراري على الاقتراب منه رغمًا عنه، لم أعد أشعر بتلك الرهبة التي تبعدني عنه، يتملكني إحساس مجهول لا أجد له تفسير، فقط أريد أن أدخل عالمه، اقتحمه كما اقتحم وحدتي وأفسدها عليّ، سوف أسطو على عالمه الصغير دون استئذان. ها أنا ذهبت قبل موعده اليومي بحوالي ربع ساعة، وسوف أجلس في مكانه المعتاد، هذا أقصى ما تسمح به جراءتي، لا أستطيع التكهن بردة فعله عندما يجد شخصًا غريبًا يتحداه ويأخذ مكانه عن عمد، يفسد عليه متعته في عادته اليومية.

من يظن نفسه هو ليفسد علي خطتي الجريئة في اقتحامه!! لقد أتى مبكرًا إلى المكان، وكأنه عرف ما كنت أنويه، توجهت إلى طاولة قريبة منه إلى حد ما شاعرة بخيبة أمل، تظاهرت بقراءة كتاب بينما كنت أراقبه في غضب بينما يرتشف قهوته بهدوء وبرود واضح. تسللت إليّ رغبة عارمة في تذوق القهوة، وكأنني أبحث عن أي شيء يقربني منه، طلبت من النادل أن يأتيني بفنجان قهوة أنا الأخرى، لمحت طيف ابتسامة يرتسم على هذا الوجه الخمري الغامض لا يعرف معناها غير اثنان فقط في هذا المكان الممتلئ بالأشخاص، كيف ينحصر إحساسي بمكان مزدحم في شخص واحد فقط!! حاولت إضفاء تعبير اللامبالاة على ملامحي لأفسد عليه متعة اقتحامي للمرة الألف، رغم انشغالي الدائم به، والتفكير في سبب حضوره مبكرًا اليوم الذي قررت فيه ذلك أنا الأخرى، هل هذا هو الموعد الذي لا نخلفه أبدًا، ولم نتفق عليه يومًا؟!!

تُرى ما عمل هذا الرجل الغامض، يبدو من هيئته وثقته المفرطة بنفسه كرجل أعمال ناجح صارم يسحق شركائه، أو قد يكون محام معروف، تهتز جدران المحاكم بصوته القوي، صوته!! لم أسمع صوته من قبل، فقط همهمة بسيطة وهو يتحدث في الهاتف، أو وهو يتحدث برفق إلى النادل، مظهره وهيئته يفيضان بالعملية المفرطة رغم اهتمامه بقراءة الأدب.

جذبني من شرودي النادل وهو يضع أمامي الفنجان بابتسامة هادئة، تصاعدت رائحة القهوة تُعيدني إلى خضم أفكاري عن هذا الغامض البريء، نعم هو بريء من انشغالي به، ما ذنبه في شخصية تتحلى به قبل أن يتحلى هو بها، ما ذنبه في انشغال الآخرين به دون إرهاق نفسه بالالتفات إليهم. أقصى مجهود يقوم به تجاهلهم، نظرت إلى فنجان القهوة أراقب الدخان يتصاعد منه، سأنتظر حتى تبرد قليلًا، أُحب الأشياء الدافئة، الحار يؤلمني، والبارد يفقد مذاقه.

تهادى إلى سمعي صوتًا قويًا واثقًا يأتي من طاولة يجلس عليها شخصًا يضع أمامه فنجانًا من القهوة وكتاب، صوت يتمتع بجاذبية صاحبه، أخيرًا سمعت صوته بوضوح ودون قصد يتفق على موعد مع شخص ما. ليتني لم أقترب إلى هذا الحد، تُرى ما وقع هذا الصوت العميق وهو يهمس في أذن محبوبته، يحدثها عن الحب والمشاعر، بكل هذا الدفء الذي يشيعه في المكان، وهذه الابتسامة الحنون التي تظهر من حين لأخر رغمًا عنه؟! إنني أشفق عليها، بالتأكيد لا يمكنها المقاومة أو حتى اتخاذ أي موقف سوى الرضوخ لأوامره، هذا ليس عدلًا أبدًا.

هل هذا الرجل يحب؟؟ ااه .. لقد سئمت من نفسي ومن مراقبة صاحب فنجان القهوة، القهوة .. لقد نسيتها وها هي بردت وفقدت مذاقها.

 

لمحته يلملم أغراضه عل عجل، ينظر في ساعته كأنه أدرك تأخره على موعده تاركًا فنجان القهوة الثالث لهذا اليوم بعد أن ارتشف منه رشفتين، راودني شعورًا بالضيق لانصرافه، بل رغبة في السير معه إلى حيث يذهب، شعرت بالوحدة والغربة، أصبح المكان كئيبًا باردًا مظلمًا بدونه.

  

تعلقت عيناي بالطاولة حيث كان يجلس، وهي ترجوه معي أن يعود، وجدتني أتوجه إليها دون وعي أجلس في مكانه، مازال محتفظا بدفئه، وكأن ذراعيه القويتين تحتويني في حنان، تنسمت رائحة عطره،  أغمضت عيني وشعرت أن رأسي يستند إلى صدره. نظرت أمامي لأرى دخان يتصاعد من بقايا سيجارته، فنجان القهوة ممتلئ حتى نصفه، وعلامات ارتشافه مرسومة بعناية عليه كلوحة سريالية غامضة مثل صاحبها، قربت الفنجان إلى شفتاي لأتذوق قهوته من نفس المكان الذي شرب منه. تسللت قطرات القهوة الباردة بداخلي لتتحول إلى مشروب حار يغزوني، ينتشي له قلبي، يمنحني مشاعر مختلطة من السعادة والنشوة والدفء، ومشاعر أخرى لم أعهدها من قبل، أو أجد لها وصف.

الشيء الأكيد، سعادتي بنجاحي في اقتحام عالمه أخيرًا، وبنهم أقضي على تبقى من قهوته إلى أخر قطرة، تراودني رغبة عارمة في الاحتفاظ بهذا الفنجان الذي شربناه سويًا، ذكرى صنعتها معه وبدونه للحظات مرت كأنها سنوات. أتاني النادل بعد أن طلبت الحساب ليخبرني بابتسامته الهادئة المعتادة وإن بدت أكثر إشراقًا، مشيرًا إلى طاولتي التي كنت أجلس عليها من قبل “لقد دفع الأستاذ الحساب”.

رفعت عيناي إلى حيث أشار، وجدت وجهًا مألوفًا، تعلوه ابتسامة لم أرها من قبل، يختلط فيها شغف وتسلية طفولية مع رجولة طاغية، ابتسامة تحمل بين طياتها شفقة ودفء، خالية من الغرور والانتصار.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون