فصول من كتاب ” وجوه سكندرية”

موقع الكتابة الثقافي علاء خالد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

علاء خالد

 

جمال الدولى

فى نهاية عقد الثمانينيات انتشرت على حوائط وجدران مدينة الإسكندرية مجموعة من العبارات المكتوبة بخط جميل والممهورة بتوقيع " جمال الدولى". كانت أغلب هذه العبارات لها هذا الجانب السياسى الساخر، بل واليائس أيضاً من الأوضاع التى وصلت إليها مصر. عبارات من قبيل" متر الوطن بكام" و" مهرجان بواقى الوطن"، و" جمال الدولى مرشحاً لرئاسة الجمهورية". أحياناً  كان يخرج جمال الدولى عن هذا السياق الساخر ليكشف عن حبه اليائس أيضاً لليلى علوى عندما يكتب" أنا بحب ليلى علوى". تحول جمال الدولى إلى شبح بالنسبة للكثيرين فهم لايروا إلا آثاره على الجدران، وشكوا أن الاسم ماهو إلا  قناع يتخفى تحته  أشخاص عديدون،خوفاً من العقاب أو الملاحقة. وكلما حاولت أجهزة المحافظة أن تمحو وتزيل هذه العبارات ، وجدنا عبارات أخرى فوق طبقة الطلاء الجديدة وفى نفس المكان، كانه أيضاً يلاحق تلك الأجهزة ويترصدها. كان جمال الدولى  يتجول بشاعرية داخل المدينة، تخيلته يسير ثم تأتى له فكرة، وبدلاً من استخدام الورقة يكتب على الجدران قبل أن تتبخر هذه الفكرة. الكتابة على الجدران تحمل ضمنياً معنى الاحتجاج والسخط، وتدعو الآخرين أن يشهدوا معك على يأسك هذا، وكذلك على حبك. شعارات جمال الدولى كانت تتركز غالباً فى الأحياء القديمة، حول مجمع الكليات ومنطقة الشاطبى وجليم وغيرها من الأحياء التى يتصور أنها جمهوره المنتظر. فى تلك الأحياء كانت هناك نسبة كبيرة من طلبة الجامعات ،وأيضاً يسكن فيها أعضاء الطبقة الجديدة الثرية وصاحبة السلطة، والتى يوجه لها جمال هذه العبارات، وربما هى السبب فى نظره فى بيع الوطن أو عرضه فى مهرجان كبيرللتخفيضات. ذكاء ومرارة وطرافة فى التقاط هذا الحس الذى يربط بين التجارة والوطن، وتحول المواطن إلى سلعة قابلة للبيع والتداول.

فى إعلان حبه لليلى علوى ولمناطحته السلطة هناك تحد بشكل ما، سواء للسلطة أو للحب. الاستحالة هى التى تجمع بين ليلى علوى والوطن، استحالة أن تحبه ليلى علوى، واستحالة أن يكون مواطناً محترماً يتمتع بحب هذا الوطن. حب من طرف واحد، فكم هو يشعر بضآلته أمام الاثنين. ولكن هل فكر جمال الدولى، ولو مرة، أن ليلى علوى ربما تقرأ عبارته، أو حتى تسمع عنها، عندها ربما تغضب أو تفرح بهذا العاشق الجوال؟ فى كلتا الحالتين ستتكون مشاعر فى قلب ليلى علوى تجاهه وعنه، كراهية أو إعجاب أو  سخرية، وربما هذا ماكان يبغيه من وراء كتابته لهذه العبارات، أن يتم تمرير وتبادل مشاعر ما، حتى ولو من بعيد، تحت ظل هذه الشعارات والكلام المكشوف. فلحظة الكتابة على الجدران هى اللحظة التى يتكلم فيها مباشرة  وجه لوجه ، وأمام الناس جميعا ،مع ليلى علوى أومع الوطن، ويمررلهما رسالة بها بعض من مشاعره المكبوتة.

مع مرور السنوات وصولاً لبدايات التسعينيات وتوالى كتابته على الجدران، أصبح جمال الدولى شخصاً له حضور جماعى، ربما لاتأخذ عباراته وشعاراته مأخذ الجد، ولكن تكرارها يجعلك تنتظر جديدها. أصبح شبيها بمجنون القرية الذى يقول كل شىء بدون حساب أو خوف، لأنه يحتمى تحت جناح جنونه. ثم فجأة ظهرت شخصية جمال الدولى، الذى كان معروفاً لدى مشجعى فريق الإتحاد فى الإسكندرية. فى إحدى مباريات كرة السلة ، والمذاعة تليفزيونياً على الهواء، قام جمال الدولى بخلع ملابسه كاملة ونزل إلى أرض الملعب وسط الجماهير والمشاهدين الجالسين خلف التليفزيونات، لقد قدم عرضاً يود أن يشاهده الجميع، فقدرته على أن يكشف ويعرى نفسه والآخرين فاقت قدرته على الصبر والجلوس كمشجع مجهول وسط المدرجات. ربما شعر بمؤامرة تحاك حول فريق الإتحاد،وعادة مايشعر مشجعو فرق الأقاليم بهذا الشعور السياسى الذى يجعلهم يكرهون النظام الذى يدعم ويقف وراء فرق العاصمة. نادى الاتحاد السكندرى له باع فى كراهية النظام منذ سنوات، عندما تولى رئاسته الدكتور محمود القاضى، أحد رموز المعارضة سنوات حكم السادات. وخرج من مجلس الشعب بعد أن حل الرئيس السادات المجلس نظراً للحراك السياسى الذى سببته مجموعة مميزة من المعارضين، وحتى الآن لم يظهر من يضاهيهم فى قوة تأثيرهم وشعبيتهم وسط الناس.

فى مقهى بحى كامب شيزار شاهدت عن قرب كابتن “ريعو”  أهم مشجعى نادى الإتحاد، بعد كابتن” الوحش”، ودائما كان يتواجد بصحبة مجموعة من المشجعين، يتداولون فى أمور النادى وفى أدق التفاصيل التى تحجب وراء الكواليس. رابطة الصداقة التى نشأت بينهم تفوق فى عمقها أى روابط أخرى. هناك انجداب عاطفى للكرة وللنجيل الأخضر وللنادى يفوق برنامج أى حزب سياسى، فهناك رغبة متبادلة، تجعل تشجيع فريق بعينه مثل الإدمان يجرى مجرى الدم فى العروق. جمال الدولى كان واحداً من هؤلاء المشجعين الذين يقودون الجماهير ، ولاتظهر مواهبهم إلا وسط حشود. من قبل كان الزعماء السياسيون، بدرجاتهم، يقومون بهذا الدور الريادى،فلا تظهر مواهبهم ولايتحققون كذوات إلا وسط الحشود.

بتراجع فريق الإتحاد فى كرة السلة والذى عاش أزهى عصوره فى الثمانيتبات والتسعينيات، وكان متفوقا على فرق العاصمة ، وبالإنتكاسات المستمرة لفريق الكرة فى النادى؛ ربما يئس جمال الدولى الذى كتب مرة عن الجمهور وليس عن اللاعبين” جمهور الإتحاد سيد البلد”.إنه يرد الاعتبار لجمهور فقد الأمل فى الفوز، وبرغم هذا مازال يحب فريقه.

اختفت عبارات جمال الدولى من الشوارع والجدران، ثم عادت للظهور على استحياء فى السنوات القليلة الماضية، بجوار شعارات “الإسلام هو الحل، و” الحجاب الحجاب ياأختاه” و” قاطعوا البضائع الأمريكية”،لم يعد لشعاراته تأثيرها القديم، وأصبحت نادرة تبحث عنها بإبرة، ومركزة فى المنطقة حول مركز حبه وهو نادى الإتحاد.مع مرور السنوات فقدت الرغبة فى تتبع أخباره، ربما مازال هناك يلعب دورا جديدا ولكن بدون رغبة فى الإعلان،  كجندى مجهول يجلس وسط جموع المشجعين منادياً بالشعار التقليدى لجماهير الإتحاد ” الانتحاد… الانتحاد” .

 

الكتاب والبحر

 

فى شهر رمضان أهوى السير على شاطىء الإسكندرية. أختار التوقيت المثالى لهذا الشهر،  تلك الساعات مابين العصر والمغرب. فى طريقى أصادف المتريضين بجميع أنواعهم، من دعاه الصيام ليبحث عن وسيلة لقتل الوقت، ومن يتخذ من الرياضة نظاما لحياته سواء فى شهر رمضان أو غيره من الشهور، وهناك من يتخذ من السير وسيلة للسكينة، لعلها تفتح باب الإيمان.

وهناك أيضا جمهور يجلس أمام البحر مباشرة، وظهره للشارع يقرأ فى كتاب الله. تستوقفنى تلك الظاهرة التى لا أراها بهذه الكثرة إلا فى شهر رمضان. الكل يقرأ فى كتاب واحد، باختلاف درجة الثقافة، والسن، والقدرة على الفهم،  باختلاف درجة الذكاء والاستيعاب؛الكل يؤمن بهذا الكتاب. يصبح هذا الكتاب قبلة لخيال الكثيرين ووجدانهم . خيوط شفافة تخرج منه لتربط الخيال الإنسانى بالنص الدينى. إ حساس بالمشاركة تولده القراءة، أنت تقرأ والآخر يشاركك القراءةعن بعد. يصبح النص مفتوحا أمام عيون وقلوب وفهم الآخرين، وبالتأكيد قابلا للتفسير من آخرين. تصبح ثقتك فى الفهم مستمدة من ثقتك فى هؤلاء الآخرين، لأنه كتاب جماعى، بالرغم من أنك تقراه منفردا.

الخيال الذى تسبح فيه وأنت تقرأ كتاب الله، يصبح أيضا قسمة ومشاركة بينك وبين خيال الآخرين. أنه صانع لخيال جماعى. لكل نفس مرجع مقروء خارجها،  تلجأ اليه وتنجذب. ترى فيه صورتها المكتوبة، وتنصت إليه فى لحظات الأزمة، أو تحاوره أو تطلب منه الخلاص، أو تحاول أن تستنطقه للحصول على وعد بالجنة.

أعتقد أن أحد أهداف الأديان، أن تصنع مركزا رمزيا للخيال الجمعى، يفرض احاسيس معينة على جمهور المتلقين والمؤمنين. فبالرغم من الفروق الفردية بين البشر، إلا أن هناك مجالا تصنعه الأديان، وربما تشاركها، وباختلاف التأثير، الفنون والفلسفات والحكايات الكبيرة.مجال للحس والفهم والاستجابة. أنه يسهل التواصل والحوار على مستوى الكلام والمشاعر اليومية، وكذلك على مستوى أعمق من المشاعر والرموز الخفية. لكل أمة كتاب. وكلما زاد عدد المؤمنين به والقراء له، كلما اتسع الفهم وقدرته على أن يكون شاملا ومتعدداومعبرا عنهم. لآنهم جزء أصيل من تكوينه، وبدونهم سيظل الكلام المقدس معلقا بين السماء والأرض.

أمضيت سنوات كنت أجلس فيها على البحر، أقرأ كل شىء، شعر وروايات وفلسفة. بين كل صفحة وأخرى تستوقفنى عبارة،أرد الجملة الجميلة أو الصادمة أو الغامضة  أو المركبة إلى البحر. أردها إلى طبيعتها، ماء وهواء وزرقة وسماء. أى كتاب جزء من عالم لامرئى أشمل. أمام البحر يتحد العالمان،عالم الحروف وعالم المعانى. أى كتاب يحمل معنى أكبر بكثير من الحروف. عالم المعانى والصور والأحكام، وجميعها من طبيعة لامادية ، تتحول لتصبح جزءا من الذاكرة الانسانية. أى كتاب جزء من الكون، وأمام البحر يعود كل كتاب إلى كونيته، إلى الخيال الجمعى الذى نلتقى عنده جميعا.

كانت أمى يرحمها الله، تقول لى دائما عندما أتذمر من طيبتها وتسامحها المفرطين : اعمل المعروف وارميه فى البحر” لماذا اختارت البحر بالذات؟ هل لأننا نسكن فى مدينة بحرية؟ أم لن البحر هو الوحيد الذى سيفهم ويقدر ويختزن هذا المعروف، ولايمحوهأبدا من ذاكرتهن حتى ولو نساه الاخرون. المكافاة هنا ستأتى من البحر، لأنه سيذكر لك دائما معروفك؟

لماذا جاء كل هؤلاء إلى شاطىء البحر ليقرأوا القرآن؟ بالتأكيد هناك شعور ضمنى لديهم بأنه المكان القريب من الله. كل الأماكن قريبة من الله، ولكن أمام البحر نقف أمام أحد أبطال الخلق الأساسيين ؛ الماء. هذه الكمية المهولة من المياه وهذا الاتساع ، تشعر بأنك تعيش لحظة خلق جديدة وقديمة فى آن. وقصة الخلق هى إحدى أعمدة كتاب الله الجوهرية , أمام البحر يرتد القرآن فى يد وخيال القارىء إلى هذا الزمن القديم ، زمن الخلق والبدايات. لذا يسهل  تمثل كتاب الله أكثر. وفى هذا السياق لا أنسى صوت عماد حمدى وهو يقرأ سورة الرحمن أمام البحر ، فى نهاية فيلم ميرامار، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم لكاتبنا الكبير نجيب محفوظ.

 

ميرامار

 

فىرواية ميرامار، والتى تدور أحداثها فى إسكندرية الستينيات،وهى لحظة تحول فى تاريخ المدينة، وصراع بين التنوع فى الجنسيات الذى كانت تعيشه المدينة قبل الثورة، ومرحلة الثورة وماتمثله من رفض لهذا التنوعومايمثله من علاقة بالاستعمار، الذى جاءت الثورة لتقضى عليه وعلى كل رموزه وصوره. وبالتالى أصبحت القاهرة هى المركز السياسىوالثقافى للثورة. أبطال الرواية يهربونمن القاهرة ومدن الأقاليم إلى الإسكندرية ليلتقوا هناك فى بنسيون ميرامار الذى تملكه سيدة يونانية تدعى ماريانا. داخل هذا البنسيون تتصادم أقدارهم،ويتحول البنسيون إلى ملجأ لشىء يهربون منه، سواء كان ماضيهم المضنى أو السلطة التى فقدوها، فالجميع فى لحظة ضعف وتجرد من السلطة ،عدا سرحان البحيرى الشاب الثورى والنجم الصاعد فى سماء الثورة والإتحاد الإشتراكى والنقابات العمالية.

تدور أحداث الرواية فى الشتاء، وهو المكان الشعرى الذى يحب أن  يرى به محفوظ المدينة، فإسكندرية الشتاء هى المكان الأعمق الذى تتفاعل فيه مظاهر الطبيعة مع تاريخ المدينة ليصنعا هذا الشجن الذى يغلف الرواية ولاتعرف من أين أتى، هل من مأساوية أبطاله أم من عنف المدينة الكامن تحت سلطة الطبيعة والرطوبة والتاريخ. وأعتقد أن وجود المدينة الحسى كان حاضرا ضمن هذه العلاقة الصوفية بها، وليس عبر تقصى ماديتها أو تفاصيلها. هى فى عمل محفوظ مدينة مجازية كشخص له سطوة ولكن سطوته غير مرئية وفاعلة فى آن.

يلتقى الأبطال فى نهاية العام وقبل بداية عام جديد، وهى أيضاً لحظة تحول طبيعية فى سياق الأيام، لحظة قلق بين نهاية وبداية. بالإضافة إلى مايمثله البنسيون كمكان قلق وغير مستقر للإقامة.  فالزمان والمكان والطبيعة ، الكل يرشح الوجه القلق من وجوده،حتى أبطل العمل جميعهم ترتبط أقدارهم الظاهرة بالتحول الذى حدث فى مصر بعد ثورة 52. فالجميع يواجهون لحظة تحول كبرى فى مصيرهم ومصير البلد. أمام هذه الأفكار الكبرى التى تدور فى عقل الروائى ستتضاءل مادية المكان وتفاصيله المباشرة. نعم هناك ذكر دائم لبعض الأماكن التى كان يرتادها الأبطال، وجميعها أماكن لها دلالة فى تاريخ المدينة، بداية من موقع البنسيون أمام السلسلة، وتريانون، وأتينيوس، وبهو فندق سيسل ووندسور، ميدان محطة الرمل، نهاية حتى ترعة المحمودية حيث فرع النيل حيث يقع كازينو البجعة ولابالما. هذا هو المكان الأثير الذى يمثل صورة الإسكندرية  الرمزية عند نجيب محفوظ ، الإسكندرية كسؤال ثقافى، وكتاريخ. وفى نفس هذا المكان كانت مكتبة الإسكندرية القديمة والقصور الملكية ، وفى العصر الحديث هى  مكان اختلاط الأجانب مع المصريين.  كأنما المكان المركز عند نجيب محفوظ تحول إلى مكان السلطة  عندما كتب عن الإسكتدرية . بعكس رواياته عن القاهرة التى كانت تنزع إلى اختيار المكان الهامشى البعيد عن المركز، والذى يعبر عن أصالة تاريخية وإنسانية ما. ولكن مايوحد بين المكانين هو أبطاله وسؤالهم الوجودى  الداخلى، وهو الأهم بالقياس بسطوة المكان. والمثير للتأملفى الرواية أن الشخصيتين الأكثر استقراراً داخلها، هما ماريانا صاحبة البنسيون ومحمود بائع الجرائد.

الإسكندرية فى رواية ميرامارتتحول إلى مكان رمزى لصراع سياسى دائر فى مصر كلها فى ذلك الوقت، ولايمكن لمثل هذا الصراع من أن يصنع رواية جميلة بدون وجود مكان هامشى بشكل ما، يسمح بحرية الحركة وانسياب الأشياء المخفية داخل نفوس ومصائر أبطاله. ومن هنا يمكن التأكيد على أن  نجيب محفوظ لم يتخل عن فكرة اختيار المكان الهامشى ليتكلم عنه، فالإسكندرية كلها أصبحت هى هذا المكان الهامشى، أو العقل الباطن لمصر، أو الوجه الآخر لها.

ولكن داخل الرواية يغيب الحب، ولا أعرف السبب فى هذا، فأبطال العمل فى لحظة صراع وتنافر وليسوا فى لحظة بناء ، بعكس رباعيات داريل عن الإسكندرية ، الذى كان الحب هو المحور بشكل ما الذى دارت حوله الرباعيات. ربما كان حبا مؤقتا لم يدم  ،ولكنه شغل زمن الرواية. ربما بدأ نجيب محفوظ من حيث انتهى داريل، بأن مصير الحب داخل هذه المدينة سينتهى حتماً إلى الفرقة والنسيان، فجعل كل بطل من أبطاله أعزل أمام سطوة تاريخه وتاريخ المدينة، ولاعزاء يقدم له من الآخرين، إلا عزاء الالتصاق الصوفى بقوى كبرى تسير الحياة ، كما حدث مع الصحفى صاحب الثمانين عاماً عامر وجدى ، و الذى على مدار الرواية وفى لحظات خلوته فى غرفته بالبنسيون كان يردد سورة الرحمن، والتى كان يلجأ اليها فى كل لحظات “جيشان الصدر”. وهى السورة التى تؤكد عظمة الله وضد كل من يكذب بها، والتى تحمل إيقاعاً ظاهراً لا لبس فيه. هذا التصاعد الملحمى لصوت القرآ ن داخل الرواية، وهذا الصوت الخارجى المهيمن، جعلا الرواية بها هذا الشجن العميق، الذى يسبق النهايات، نهاية حياة ونهاية مرحلة. إذا كانت الرواية كما تسمى رواية تعدد الأصوات، فكل بطل من أبطالها يروى الحكاية بصوتهومن وجهة نظره، فالصوت الوحيد الذى كان يأتى من الخارج هو صوت عامر وجدى وهو يتلو سورة الرحمن. وكذلك صوت أم كلثوم  وحفلتها الشهيرة، التى جمعت الأبطال حولها وأصبحت مشتركا أعظم بينهم. هى التى وحدت مؤقتا بين صراعاتهم واختلافاتهم المذهبية.

 

 

خط النصر وخط باكوس

كما توجد فوارق طبقية، وبالتالى شخصية، بين الناس، والأحياء، والمدن بعضها البعض؛ هناك أيضاً فوارق بين خطوط الترام فى الإسكندرية. يمتد خط الترام  الرئيسى من ميدان محطة الرمل وينتهى عند محطة فيكتوريا.، ويسمى هذا الامتداد”خط ترام الرمل “،وهو الاسم الذى يميزه عن خطوط الترام الأخرى التى تسير داخل أحياء الإسكندرية القديمة. وقد أنشى هذا الخط الحديدى وامتد ليتماشى مع العمران الذى بدأ فى هذا المكان بداية من نهايات القرن التاسع عشر، والذى عاصر نشوء الإسكندرية الحديثة. وينقسم هذا الخط الأم إلى خطين فرعيين، خط ترام باكوس، ويشار له بالرقم 1، وخط ترام النصر ويشار له بالرقم 2. أحيانأً يمران بنفس المحطات، ولاترى أى فارق بينهما، لافى نوع الركاب أو مستوى الأحياء التى يمر كل منهما عليها ، وأحياناً يفترقان ويقطع كل منهما رحلته بمفرده باحثاً عن التمايز، وعما يمنحه شخصيته عن الخط الآخر. هناك أربع محطات رئيسية يلتقى فيها الخطان أو يفترقان، محطة ترام  أسبورتنج، ومحطة مصطفى كامل ،ومحطة بولكلى، وأخيراً محطة سان استيفانو.

عبر محطات التجمع الثلاث الأولى لايوجد أى فارق جوهرى بين الخطين، فوصولاً حتى محطة بولكلى، يعتبر هذا المسار هوالجزء النشط من  الإسكندرية الحديثة، زمن الأجانب والاختلاط والطبقات المتوسطة، وأماكن الفسحة ومقاهى التسلية بعد المعاش. تبدأ الرحلة من محطة الرمل لتمر سريعاًبدون توقف على محطة جامع إبراهيم التى ترى منهاالبحر فى رحلة ذهابك وإيابك، وترى منها أيضا جموع المرضى  أصحاب الجلابيب،الذاهبين للمستشفى الميرى للعلاج أو الزيارة. يهبطون من الترام وينسلون فى هواء الشوارع الضيقة التى تؤدى إلى المستشفى. ثم تتلوها محطة الأزاريطة، وهى المحطة الأقرب للحيين اللآتينى  واليونانى، حيث يقع شارع فؤاد، الشارع الرمز فى حياة الإسكندرية، وحديقة الشلالات وغيرهما من الفيلات والقصور المتناثرة حولهما، وأعتقد  أن هذه المحطة هى الأقرب لهذا العالم الأرستقراطى القديم الذى لايمكن الوصول اليه الأ بالعربات الخاصة أو عربات الأجرة. وتعتبر هذه المحطة نقطة انتقال هامة بين هذين الحيين النائيين وبين أحياء الطبقات المتوسطة  التى تقع بطول شريط الترام. ثم تأتى محطة الشهيد مصطفى زيان والاسم  القديم لها محطة” سوتر” حيث يقع مجمع الكليات النظرية، حقوق وآداب وتجارة،وعلى اليمين هناك النادى اليونانى والقنصلية اليونانية، وتحف بالترام مجموعة من الأبنية والقصور التى تستخدم كملاجىء  لرعاية المسنين من الأجانب. فى هذه المحطة أيضاً تلمح رغبة التداخل بين الإسكندرية القديمة والحديثة. ثم تكمل الترام رحلتها لتمربمحطة الشبان المسلمين، وتبدأ فى الابتعاد عن شارع ابى قير أوشارع فؤاد. ثم تأتى محطة الشاطبى، حيث يقع نادى الاتحاد السكندرى من ناحية ومن الناحية الأخرى كلية سان مارك بمبناها الأحمر العتيق وبمهابة تشعرك بأهمية التعليم والعلم فى هذا الزمن القديم . دائما ماكنت أرى  جماهيرنادى الإتحاد وهى تحوطعلى الدوام ببوابات النادى كأنها فى مظاهرة، فى انتظار أن يتالق هذا النادى ويحقق بطولة ما.

ثم  تأتى محطة “الجامعة” حيث يدخل خط الترام فى نفق تحن الأرض ليسمح بمرور كوبرى الجامعة من فوقه،وهى المحطة الوحيدة التى لايسير فيها الترام فوق الأرض. ثم تأتى محطات “المعسكر” و “الإبراهيمية” ثم” أسبورتنج الصغرى”، ثم “اسبورتنج” والتى يقع عليها أهم ناد رياضى اجتماعى فى الإسكندرية. عند محطة أسبورتنج يحدث أول انفصال للخطين التوأمين، أحدهما يسير بمحاذاة سور نادى أسبورتنج والقريب من شارع ابوقير، شريان الحياة فى الإسكندرية، وهو بالطبع الخط المدلل ” خط النصر ” . أما الآخر وهو “خط باكوس” فيدخل فى منحنيات  وثرثرات أسواق الخضار والباعة عند محطة كليوباترا الصغرى ثم سيدى جابر الشيخ، ولايشفع له قربه  من البحر. بينما “خط النصر” يسير مظفراً موازياًً لشارع أبى قير حتى يصل لمحطة سيدى جابر المحطة، حيث تقع محطة القطار المتجه للقاهرة، ليلتقى وجها لوجه بهذا الشارع الكبير ، شارع أبى قير. تستكمل المسيرة فعند محطة مصطفى كامل يلتقى الخطان بعد غربة لم تدم سوى ثلاث محطات ، ولكنها غير كافية لأن تصنع الفارق الطبقى والشخصى الذى تحدثت عنه فى بداية المقال . يسيران معا مرة أخرى ويعبران بحى مصطفى كامل ثم حى رشدى، وهما حيان متداخلان والمسافة بين المحطتين لاتذكر،لذا  فدائماً ما اعتبرهما محطة واحدة. خلال هذا العبور ستصادف الكثير من أشجار الفيكس على الجانبين، والكثير من العصافير، وستسمع أصواتهاالتى ستمتزج بصوت الترام المزعج . ثم نصل إلى محطة بولكلى، وهنا يفترق الخطان، وهذا الافتراق هو الأهم خلال هذا المسار، لأنه  هو الذى منحهما التسمية، والذى منح الشخصية المتعالية لخط ترام النصر، وساهم فى تكوين الشخصية المستضعفة والمنطوية على نفسها لخط ترام باكوس.

بداية من محطة ترام بولكلى يظهر الفارق جلياً فى الأحياء المحيطة بخطى الترام أثناء عبورهما، بينما يتقدم “خط النصر” ليعبر بأحياء الهدايا وساباباشا وجليم ومظلوم وزيزنيا وصولا حتى محطة سان استيفانو. وهنا يبتعد شارع أبى قيرقليلا عن هذا الخط ولكنه يبتعد بمقدار لايسمح بالغربة. بينما  يدخل خط ترام باكوس فى نفق نفسى مظلم ، بينما يقطع شارع أبى قير، فى بداية رحلة سقوطه الطبقى الحاد، عند محطة الوزارة، حيث يقع مقر الوزارة فى الصيف منذ أيام الملكية وحتى الآن، كأنه يودع الحياة المرفهة التى منحتها له المدينة، ويدخل فى ذلك النفق حتى يصل إلى محطة ترام باكوس، وهو اسم الحى المحيط بها، والذى يسمى فى قاموس السكندريين ب” الصين الشعبية ” نظرا  للكثافة السكانية الرهيبة التى تسم هذا الحى، وارتباطه بأسواق الخضار والسمك والبيع والشراء والضوضاء، وبعدة أحياء أخرى متواضعة و موازية لخط آخر وهو خط قطار أبى قير، وهو قطار الغلابة بلا منازع، فتتحول عربة الترام إلى مايشبه يوم الحشر.  ولايتغير هذا الإحساس ألا عندما تصل الرحلة لمحطة جناكليس الذى يخرج فيها خط باكوس على وجه الدنيا ويتنفس بحرية،  ويسترد بعضا من اعتباره المبعثر عندما يقابل شارع أبى قير. بينما “خط النصر” يتهادى وسط الفيلات وقريباً من البحر، ولاتشم داخل عرباته إلا رائحة البارفانات ولاتشاهد إلا جمال وأناقة الفتيات الخارجات من المدارس المتناثرة حول هذا الخط المحظوظ. هذه المحطات القليلة هى التى منحت “خط النصر” كبرياءه وتعاليه على أخيه التوأم  “خط باكوس “. ثم يعود الاثنان ويلتقيان مرة أخرى عند محطة ترام سان استيفانو ليبدأ رحلة مشتركة وصولا حتى خط النهاية عند محطة ترام فيكتوريا، وتعود اواصر الأخوة بينهما بدون فارق ، سوى كمية المخلفات التى يحملها كل منهما خلال رحلته.

أتحدث عن سنوات السبعينيات وأوائل الثمانينيات، أما الان فقد  أصبح الترام  وسيلة مواصلات للبسطاء، وتغيرت مستويات الأحياء، ولم يعد هناك فارق كبير بين  خط باكوس وخط النصر، ولاتشعر بأى ميزة أو رائحة خاصة وأنت تستقل خط النصر، فهناك أحياء جديدة تناثرت فى كل مكان يخرج منها الألاف يوميا بحثاً عن لقمة العيش . ولكنى رغما عن كل هذا مازلت أشعر بانجذاب لهذا الكبرياء القديم والرفيع لخط النصر.

 

يوسف شاهين

الميلاد .. الموت.. العمل

عاد يوسف شاهين بجثمانه إلى الإسكندرية مسقط رأسه، لتكتمل تلك الدائرة بين الميلاد والموت والعمل. كانت الإسكندرية غائبة أو منسية فى أعماله حتى الثمانينيات، ربما لأن طاقة وعيه كانت موجهة للخارج، ليبتعد عن مكان الميلاد بحنانه وحنينه، ويصنع رحلة حياته وينحت وجوده كرجل وكصانع أفلام، عبر المواجهات والقضايا الوطنية والهزيمة والرفض والصدام والبحث عن المجد والشهرة، وهى العناصر التى تشكل رحلته. ثم عادت الأمومة لتطل من جديد على أعماله وحياته، فعبر أربعة أفلام كانت الإسكندرية هى المركز لحركة وعيه وقلبه ورغباته. أصبحت هى السؤال الحيوى الذى يستمد منه بعض الجدل الغائب عن الثقافة بشكل عام. تحرك العمر من نقطة الأصل، ولاخوف الآن من العودة ، بعد أن تعددت مسارات الوعى واكتسب صلابة المواجهة عبر الفن والسياسة.

بوصفى سكندرياً، فرحت لأن يكون قبر يوسف شاهين موجوداً بإحدى جنباتها، وعلى بعد خطوات من قبر سيد درويش. بالتأكيد سيكون قبر يوسف شاهين إضافة لمعنى الإسكندرية ولرمزيتها، فى لحظة خفوت تعيشها المدينة، وقد تطول. فإسكندرية شاهين فى أفلامه هى إسكندرية الماضى، أما قبره فهو إسكندرية الحاضر والمستقبل. الحجارة وقطع الرخام ستكون أحد الأسباب والمحطات التى ستتوقف عندها الأسئلة حول معنى الإسكندرية وجدواها. ربما ستتغير النظرة للإسكندرية وستتغير رمزيتها مع الزمن، و لكنى أعتقد أن السؤال عنها والاهتمام بها لن يتوقفا.

لقد حدثت تحولات فى العالم وفى مصر، يسرت الانتقال من الخارج إلى الداخل، وكانت المدن هى أهم هذه المراكزالداخلية لرؤية الحياة، والتى تمد الفن بحنين ودفء لاتوفرهما الحياة الحاضرة. كتاب كثيرون وفنانون، من ضمنهم شاهين، كانت الإسكندرية بالنسبة لهمهى المدخل لعمل جدل مع الوعى والحياة، بوصفها مكان التعدد. أعتقد أن “إسكندريتهم” لم تكن كل الحقيقة، ولكنها كانت الحقيقة بالنسبة للظرف الزمنى المعيش ومتطلباته السياسية.

رحلة شاهين من القاهرة للإسكندرية ممدا داخل تابوت خشبى، ربما ترمز لهذا التحول من الخارج إلى الداخل،الانتقال إلى المكان الأمومى الذى لايقبل الجدل. حتى ولو كانت هذه الأم متعصبة. قبر شاهين فى الإسكندرية هو المكان “مابعد السياسى” بالنسبة لرحلة حياته.

لاأعرف من الذى رافق الجثمان فى رحلته الأخيرة من القاهرة للإسكندرية، ولكنها فى رأيى الرحلة الأهم، فهناك قبر فارغ منذ زمن بعيد ينتظر هذا الجثمان ليمتلىء به. أنها رحلة العودة وتثبيت المعنى وسؤال المستقبل. فإن كانت القاهرة هى مكان المواجهات والنضج وتكوين نسيج الوعى، فالإسكندرية هى مكان الخلاص والعودة للتراب. ولكن هذا التراب سيكون له معنى يوماً ما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

2012- دار الشروق

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون