فصل من رواية “ونسة”

فصل من رواية "ونسة"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

في أمسيات مقمرة كانت ونسة تتركنا و تتسلل إلى حجرة نوم والديها وهي تتلفت حولها، و كأن أحدهما قد يفاجئها متلبسة بدخول الحجرة ، تسمع من بعيد صوت أمها تؤنبها بعد أن كسرت زجاجة عطر، أو استخدمت الملقاط فأزالت نصف شعر جاجبها الأيمن .

تنظر إلى السجادة وقد غاصت أقدامهما فيها، وتركت آثاراً لآلاف الخطوات مابين الباب والسرير ومابين السرير والتسريحة أو الدولاب .

حين تفتح الدولاب لتلقي نظرة بداخله يهتز مفرش ذهبي صغير مطرز على الكومود كانت أمها قد اشترته في أحد الأعياد وتمنت لو كان في حجرتها مثله، تتحسس المفرش ثم تشم رائحة يدها ؛هل هذه رائحة أمها أم أبيها؟ أم أن مرور الزمن وطول المعاشرة جعل لهما نفس الرائحة ؟

ملابسهما مازالت كماهي في الدولاب ، ترفض حتى إعطائها لفقير يحتاجها .

تقول لم يبق من رائحتهما غيرها.

تقف أمام مرآة التسريحة الكبيرة ، وقفوا هنا آلاف المرات حتى أن المرآة قد تكون اختزنت صوراً لهما في حالات شتى.

تخجل من نفسها حين تباغتها صورتهما وقد اشتبك جسديهما أإمام المرآة المثبتة في مواجهة سريرهما بزاوية محسوبة تماماً.

الآن تستطيع أن تخزن صورأ خاصة بها لتستحضرها وحدها كل مساء، ولا يطلع عليها غيرها.

الفكرة تتسحب إلى رأسها في البداية بنعومة ، وكلما قاومتها كلما ازدادت قوة وشراسة وتشبثاً بالحياة وبالقفز من رأسها الى حيز الوجود .

تخلع ملابسها قطعة قطعة،  تستعرض تفاصيل جسدها أمام المرآة الكبيرة المذهبة ذات المهابة الغابرة.

تتلمس نهديها متأملة جمالهما، تتعجب للون الحلمتين ، لماذا البني بالذات ؟

تتخيلهما بلون وردي يروق لها كثيرا .

تراقب فخذيها ومابهما من شعيرات دقيقة لم يحن بعد اقتطافها بالحلاوة

وعلام التعجل ؟

تستدير قليلا وتلتوي لتتمكن من رؤية ردفيها ثم تهمس لنفسها:”جامدة ياونسة والله اللي بيعاكسوا معذورين برضو”

تنهش الفكرة في دماغها لكي تستكمل خطة تنفيذها ، فتمد يديها إلى الرف الخاص بملابس نوم امها ، تستخرج قميصاً من الساتان باللون الاحمرالقاني.

كانت امها قدهجرت هذه القمصان من قبل وفاتها بما يزيد على عشرة سنين.. رائحة العرق القديمة مع العطر تصنع مزيجا من كمكمة التخزين.

ترتدي ونسة القميص الذي طالما داعب خيالها، وتمنت أن ترتديه وهي طفلة.

من جهازها المحمول تنطلق  أغانيها المفضلة ، تبدأ في الرقص على صوت عدوية ثم شيرين واليسا كل حسب كلماته ولحنه ثم تنهي بأنت عمري لأم كلثوم.

الرغبة تقلق الروح، وليس الجسد فقط حتى لو كانت رغبة مجردة غير مرتبطة بشخص بذاته .

يبدأ الجسد دائما بالطلب الحثيث ، ثم تسانده الروح القلقة المتوحدة بخجل ودون أن تتورط في تشجيعه يكفي أن تصمت إزاء مطالبه.

صلاة العشاء ؟ مش هاتفوتنا حمام سخن بعدها ونصلي .

– مش كده حرام؟

– وإيه الحرام في كده؟

لاتترك ونسة لروحها فرصة التراجع فهي تعلم أن تلك اللذة التي سيحظى بها جسدها قد تسكنها قليلاً.

تخلع القميص وتحدق طويلاً في  تضاريسها الشابة ونهديها البارزين و النهر المحفوربينهما،

تضغط على حلمتيها برفق، فيجن جنونها ثم تجري  لتختبئ تحت البطانية، رغم دفء الجو.

 حين تنتهي من العادة السرية تكون قواها قد خارت، يلتف ذراعاها حول روحها المنهكة الصامتة ونهديها المتعرقين ، فيما ترفع فخذيها لتلامس بطنها

ركبتيها ، وتستسلم للنوم حتى الصباح.

********

ذات مرة زارتنا نعمة صديقة ونسة التي لم تتوقف عن البكاء والنهنهة والزن طوال جلستها معها.

كانت نعمة تتوسل لونسة أن تساعدها، وتستر عليها.

ردت ونسة بخشونتها المعهودة عليها سائلة أياها:كان فين عقلك يابايظة؟

يبدومن سياق الحديث أن نعمة صديقة مقربة لونسة، فهي تكاد تلطم لفرط صدمتها وفقدان البنت لشرفها، ثم ما تلبث أن تحنو عليها محاولة إيجاد مخرج لها من تلك المصيبة.

حاولت ونسة أن تعرف من السبب في ضياع شرف نعمة وحملها سفاحًا لكنها فشلت فقالت لها والدموع تغلبها طيب هاتعملي إيه في المصيبة دي؟

ردت نعمة:تعالي نروح لدكتور نسا وولادة واحدة صاحبتي قالت لي على عنوانه، ساعديني ياونسة.أنا ممكن أتقتل فيها.

ونسة طبطبت على البنت واحتضنتها، لا أقول أنها وضعت نفسها مكانها فونسة وإن كانت طيبة وساذجة بعض الشئ لكن “كله إلا الشرف “.

إنما ونستنا كانت ضعيفة ياناس أمام أية صديقة، لذا كانت تختارهن بعناية فائقة لأنها تعلم جيدًا أنها وقت الشدة لن تتخلى عن فتاة أو امرأة تقاسمت معها العيش والملح، ولو كلفها ذلك مشقة كلام الناس الذي يسم البدن أو تلقيحهن في الجيئة والرواح.

ورغم صديقاتها القليلات كانت أمها تنصحها دائما قائلة: ياعبيطة بصي لي أنا لامصاحبة ولا متصاحبة، واما يفيض بي الكيل من اخواتي أشكي لأبوكي وأما “يتملعن”أبوكي أشكي لاخواتي.

كان يحق ذلك لأمها، أما هي فبمن تستعيض عن الصديقات؟ لازوج ولا حبيب ولا أخ حنون ينصفها، ولا أخت تستمع لها، فلتكن وسطا لا تكثر من الصديقات ولاتقطع صلاتها بهن تماما، ولتكن نعمة وهدى بنت أم شريف وإيمان زميلتها القديمة في المدرسة الثانوي هن صديقاتها وموضع أسرارها، لكن إيمان تزوجت وسافرت السعودية، وهدى أيضا تزوجت وألبسها زوجها النقاب، ومنعها من زيارة الصديقات، والأقارب، ولم يبق سوى نعمة حبة أخيرة من عنقود الصديقات القصير.

ألحت ونسة في معرفة تفاصيل اغتصاب نعمة، وتسمعت أنا الحكاية من تحت كنبة الأنتريه.

حكت نعمة ورأسها في الارض قائلة انها نامت حزينة في تلك الليلة، تفكر في ابنة عمها التي تزوجت من شاب وسيم رغم أنها تصغرها بخمسة أعوام ، شعرت أن قطار الزواج فاتها ، نامت بكمدها وغلّها وإذا بها تفاجأ بشخص ضخم الجثة ذي شارب عريض يزورها في الحلم، ويغازلها برقة ونعومة حاولت الهرب منه لأنه لايشبه البشر لكنه كان يحيط بها من كل جانب ويجدها بسهولة كلما حاولت أن تهرب، وفي النهاية تكورت في مكانها فيما اقترب منها لينزع عنها ملابسها قطعة قطعة ، لم تشعر بأية لذة وهو يرقدها تحته ويدخل فيها شيئا يشبه آلة حفر أو شنيور كبير، وعندما استيقظت من نومها كانت ملابسها الداخلية مبلولة بسائل أبيض لزج ، بعدها انقطعت الدورة الشهرية وأجرت تحليلًا عرفت منه بمصيبتها السوداء.

ثم انطلقت تتوسل وتبكي:ساعديني ياونسة أنا بريئة والله أنا مغتصبة، ومحدش هايصدق حكايتي

تسألها ونسة:

والجني دا ماظهرش ثاني طفش يعني؟

تشردالفتاة قليلا قبل أن تجيب مؤكدة لونسة انها حلمت به بعدها وقد احترق في فرن كبير، واختفى أثره بعد أن تحول إلى رماد أسود انتثر في الجو ولم تعد تراه في الاحلام بعدها.

راحت الفتاتان لطبيب أمراض نساء تخصص في هذا النوع من العمليات .

جلستا قبالته ونظراته تتفحصهما ، العملية تتكلف 2500 جنية تخرج نعمة 1500 وتكمل ونسة الباقي.

بعد أن يتم تخذير نعمة تتوسل ونسة للطبيب: خللي بالك منها يادكتور البنت ممسوسة وحامل من جني مش بني آدم ، أوعى تفتكرإنها لامؤاخذة بنت كده والاكده.

يبتسم الطبيب ساخرًا :جني؟ ماجني إلابني آدم.

تبتلع ونسة تلميحه وتروح تنتظر صديقتها بالخارج ، تمر عليها الدقائق كشهور طويلة، تبكي ، تبتهل إلى الله أن يمر الموضوع على خير، وأن يستر الله على صاحبتها وعليها من الفضيحة.

تهمهم بقلق وخوف:سواء جني أوبني آدم أستر ياستار، اشملنا برحمتك ياعليم بحالنا، احمينا يارب من ذنوبنا ، خليك ستر وغطًاء على ضعفنا وخيبتنا و خطايانا.

تعلم هي أن نعمة بنت جدعة وطيبة وعلى نياتها ، تعلم أن روايتها قد تكون كاذبة، لكنها قد تكون صادقة أيضا، ألم يذكر الله الجن في القران ؟

ألم يحذرنا منهم ومن أفعالهم ؟ وإلا لماذا ينصحنا الشيوخ بالاستعاذة من الخبث والخبائث لدى دخول الحمام؟ ولماذا تنهى المرأة عن التعري والوقوف أمام المرآة معجبة بجسدها أو فاحصة إياه؟أليس لأن الجن يتربص بها ؟وقديقع في هواها ويجرى ماجرى لنعمة؟

في كل الأحوال عليها أن تتحمل الموقف حتى نهايته.

خرجت نعمة من التخدير وقد تخلصت من الجنين، واستدعي الطبيب ونسة قائلا: خلاص وهو يشير إلى سلة القمامة ، حيث يقبع هناك بجوار القطن والشاش وأمبولات الحقن المستعملة ماأخرجه من بطن نعمة ، الدماء في السلة ورائحة التخدير المنبعثة من فم نعمة أثارا قرف ونسة، فجرت إلى الحمام لتفرغ ما بمعدتها.

تماسكت لتصطحب نعمة في تاكسي إلى البيت.

ضائعتين ، حزينتين دخلتا شقة ونسة لتستريح نعمة قليلًا، وبعد أن أفاقت أعطتها ونسة الفوط الصحية التي وضعتها منفذة نصيحة الطبيب :قولي لأمك أن الدورة نزلت أخيرا، الدم هاينزل لمدة ثلاثة أو أربعة أيام.

خرجت نعمة وهي تقبل ونسة وتشكرها فيما تشعر ونسة بمرارة في حلقها وهي تربت على كتفها :بس خدي بالك من نفسك بقى.

عادت ونسة بعد هذه الحادثة إلينا أكثر حبًا ورغبة في تعويضنا عن أيام غيابها وانشغالها بمشكلة نعمة.

أكثر من مرة كانت تحدث كبسة؛ حين يأتي لزيارتها بعض الأقارب فتخبئنا تحت السرير، أو في بلكونة حجرة النوم، حيث كنا نتسمع مايقال بالخارج.

في إحدى المرات اقترحت زوجة أخيها الاكبرأن تباع الشقة لكي يحل كل منهم مشاكله المادية.

ردت ونسة بخشونة: وأنا أروح فين؟

هي دي هي وصية أبويا وأمي؟

حتى عضم التربة نسيتوه؟

 كانت أمها قد اوصت ببقاء الشقة ، حتى لوتزوجت ونسة ، لكي يجتمعوا بها في الأعياد كما اعتادوا اثناء حياتها.

تسائلت ونسة عن تلك المشاكل المادية التي تصيب فجاة أسر طبيب ومهندس وتاجر.

 ليلتها عادت ونسة لتخبرنا  في حزن أن لاأحد يفكر في ونسة ، لا أحد يسأل ماذا يوجعك يابنت

اااه بنت 32 سنة ولسه بنت!

 نساء شارعهم في الحي الشعبي قراشانات؛ طالما ثرثرن حولها وكانت الحكاوي تصلنا، كن يقلن أنها “عانس فاتها قطار الزواج”

والحق أن البنت كانت لها طباع صارمة بعض الشئ مع الناس من حولها، كانت لا تجيد الضحك في الوش والمحلسة والنميمة، كانت بوجه واحد تقول رأيها دون مواربة وكما حكت لنا وهي فخورة بنفسها: “أقول للأعور في عينه ياأعور”

ربما اكتسبت هذه الصفة من جدتها لوالدها التي كانت تسير في الدنيا كالقطار، لاتعرف طريقا للمجاملات الاجتماعية، أو الكلام المذوق، فلاحة مائة بالمائة تشققت بشرتها في شمس الغيطان، فكستها سمرة محببة،  وهبتها الحياة مظهراً أنثوياً مع صوت رجولي خشن، حتى أنهم أطلقوا عليها “وفدية الدكر” لكن جدها زوج الست “وفدية” كان موالًا آخر، وحكاية مختلفة تماما. ونسة كانت تحب جدها “الحاج علي” كثيرا، تسترجع معنا ذكرياتها معه قبل أن يتوفى عن عمر يناهز التسعين فيما كانت هي في الثالثة عشر، الجد كان متصوفا كبيرا هكذا تؤمن ونسة ككل العائلة، ألايكفي أنك حين توقظه فجأة ينتفض ويصرخ:”حيّ” ا؟

أليس معنى ذلك انشغاله الدائم بذكر الله نائمًا وصاحيًا؟

كان الجد أيضا يقرأ لابن عربي وجلال الدين الرومي ويطرب لإنشاد الشيخ ياسين التهامي حين يقول:

أكاد من فرط الجمال أذوبُ

هل يا حبيب فى رضاك نصيبُ

 كان جدها يحضر حلقات الذكر في القرية، ويصاحب دروايش السيدة زينب والحسين.

ذات مرة غاب جميع من بالبيت إلا الجد وونسة التي جاءته باكية معتذرة لأنها أكلت نصف كمية الجبن القريش خالي الملح المخصص للجد صاحب الضغط العالي، ضحك الجد كثيرا ومازحها بأن من يأكل جبن المرضى يدخل النار وفي فمه طبق جبن لا يخرج منها حتى يطعم إبليس وزبانية النار منه.

تبكي ونسة لأن عملتها ستعرضها لخدمة إبليس، ويضحك الجد ويفهمها أنه يمزح، يأخذها في حضنه يباركها ويقرأآية الكرسي على رأسها، يقول لها أنت فتاة مباركة، ضميرك صاحي والخير يجري في دمك.

هالة من النور والرضا كان يراها الجد وحده فوق رأس ونسة أينما راحت، أما الأم وبقية العائلة فلم يكونوا يلقون لكلام الجد بالا، تسميها الأم هلوسات، ويسميها الأب دروشة.

يروح الجد في تسبيحاته وتهويماته من بعد عودته من صلاة الفجر متعكزًا على ونسة التي تجلس تتساءل امها ساخرة:هالة مين ؟ وضميرأيه؟
البنت كانت خايفة أن حد يكتشف أكلها جبنة جدها المريض فنوبخها فاعترفت بنفسها آدي كل الحكاية

وتراقبه وهو يردد اسماء الله الحسنى، ويسبح، ويحوقل ثم يحكي لها عن كلمات مولانا جلال الدين الرومي: المؤمن الذي غذاؤه التقوى المتقدة يستلهم بدموعه معرفة لم تدرسها المدارس قط

ربما فهمت نصف الكلام وربما حفظته لجرسه الجميل ولطريقة الإلقاء المنغمة التي كان يقوله بها الجد، لكنها مازالت تحفظه وتردده حتى اليوم.

معنا كانت ونسة تحكي وتحكي وهي تطعمنا وتحممنا، نسمع الأغاني ونرقص سويا أمامها، ننثر أوراق الورد على وجهها، نعد لها الشبشب لكي ترتديه في الصباح ونحمل لها الروب الحريري ونساعدها في تنظيف المنزل والطبيخ.

وفي المساء تفتح قنوات الأفلام الأجنبية؛ فتزورنا “جوليا روبرتس”، و”انجلينا جولي”، ونرى ونسة تتحدث مع “توم هانكس”، وتبكي على صدر “ريتشارد جير”، وتراقص “ال باتشينو”.

لم تعدم ونسة لحظات من الفرح زارتها ونحن معها كان مايفرحها غير مايفرح بقية البنات لا الذهب ولا الملابس ولا الفلوس.

مرة رأت عصفورًا وحيدا يقف على سور بلكونتها، يلتقط حبوبًا وقعت سهوًا منها وهي تنقي الأرز.تعمدت بعد ذلك أن تترك طبقا مليئًا بالحبوب المنوعة، واعتاد العصفور أن يرتاد بلكونتنا يوميا ليلتقط الحبوب، ويومًا بعديوم زاد وزن العصفور، وصار غير كل العصافير.

رأى العصفور ونسة مرة تبكي وحدتها واحتياجها لحضن دافئ، فبكى حتى أغرقت دموعه أرضية البلكونة، وسرحت على الصالة الكبيرة حيث تجلس ونسة التي لامست قدماها بركة المياة الساخنة، انتفضت مندهشة وتوقفت عن البكاء كان الوقت صيفا وهذه ليست أمطار.

خرجت إلى بلكونتها لتجد العصفور يذرف الدمع لأجلها، اقتربت منه وقبلته في فمه، وسط ذهولنا انقلب العصفور إلى شاب وسيم طويل ذي عينين عسليتين واسعتين، كان يشبه الممثل عمرالشريف فتى أحلام ونسة  الذي حفظت أفلامه عن ظهر قلب.

فؤاد ونسة الذي انخلع لم يكن على قدر المفاجأة، أغشي عليها، فجرينا إليها لننقلها إلى سريرها، وبينما قام بعضنا بإسعافها وإفاقتها، كان آخرون يبحثون في البلكونة عن العصفور وبركة المياة لكنهم لم يجدوا شيئا سوى قلوب ورقية صفراء ووردية ملقاة على كرسي البلكونة البلاستيكي، وبعض الحبوب التي كانت تقدمها للعصفور.

في أمسيات أخرى كنا نستمع إلى أم كلثوم تشدو بأغانيها على قناة روتانا كلاسيك أو الإذاعة، تسرح طويلا في معاني قصائدها وأغانيها، تتذكر جدها المتصوف حين كان يؤكد لها أن أم كلثوم لاتغني لمحبوب رجل فان، يأكل الطعام ويدخل الحمام مثلنا، إنها تشدو وتهيم في حب الله ورسوله.

أليست القائلة:دعاني لبيته لحد باب بيته؟سيدة محترمة في مقامها أتزور رجلا في بيته؟طبعا تقصد زيارة بيت الله الحرام، وهكذا في بقية أغانيها وقصائدها إنما تناجي الله وتتغنى بعشقه، ويحسبها العامة والجهال تغني لمشاعر فانية كأجسادهم البشرية.

ذات مغربية عاد الولد الوسيم الذي كان عصفورًا مرة أخرى وهي تسمع أم كلثوم في أغنية أغدا القاك، اقتربت منه ونسة وقبلته في فمه، عاد لطبيعته عصفورًا، ربتت ونسة على ظهره وأطلقته يطير في الهواء مخلفا ورائه رائحة زكية وبعض القلوب الورقية الوردية.

تبتسم ولايحزنها فراقه، وتروح تطبخ لنا ألذ الاطعمة، فقد انفتحت شهيتها بعد عشرتها معنا، وصارت تعد لنفسها أطباق الخضار واللحوم والأرز، ونأكل نحن الجبن الرومي واللانشون، وأحيانا الفراخ والسمك الذي نعشقه

أخوة ونسة الرجال مختلفون عنها تماما، ونسة كانت حبة كريز سمراء ملتهبة بالمشاعر حانية القلب، فيما كان إخوتها يشبهون الخيار أو القرع “يمدون لبرا” كما كان الجد يردد دائماً
كنت أسمعها تشكو لصديقتها نعمة جفاء اخوتها، وقسوتهم، وانكفاء كل منهم على بيته وزوجته تماما كما كانت تقول أمها متندرة بالمثل الريفي:اللي أحطها تحت فخدي أحسن من أمي وأختي.

الواحد منهم لايستمع لشورى أو رأي إلا من زوجته الخبيثة ذات الرغبة الدائمة في السيطرة على ونسة وعلى الشقة ومحتوياتها.

تستكثر عليها زوجات الأخوة ماتركه لها الأب والأم من أثاث وأجهزة كهربائية ومعاش شهري، رغم أنهن يعشن عيشة مستريحة ولاينقصهن شئ، إلا أن فلوس ونسة، والبيت الكبير المطل على ميدان السيدة زينب العريق يحلو دائما في عيونهن.

الشقة تساوي الكثير فلماذا لاتنتقل ونسة للإقامة مع أسرة أحدهما؟ وتؤجر الشقة ليحصل كل أخ على نصيب من الإيجار أويتم استغلالها في أي مشروع تجاري؟

تلك الأفكار كانت تدور دائما في رأس ونسة، ربما كانوا فعلا يفكرون هكذا، وربما لم يكن أحد يأبه بكل ذلك، ربما كانت مجرد مخاوف وأوهام، من يعرف؟

معارف ونسة قليلون لكنهم مميزون من أهمهم الكونتيسة أم عزة؛ صاحبة محل لمستلزمات بدل الرقص ودلالة وبائعة ملابس.

والكونتيسة ليس اسمها في دفاتر الحكومة وكمبيوتراتها، ولا حتى لديها ابنة اسمها عزة فاسمها الحقيقي أمورة.

و”أمورة” حكايتها طويلة؛على أنغام أم كلثوم وهي تغني، والبخار يتصاعد من أكواب الشاي باللبن الساخن كانت دردشتها الصاخبة المرحة مع ونسة كل يوم خميس.

 كانت كل بيوت الحي تتعامل معها بتحفظ من بعيد لبعيد، تجلب لهم قمصان النوم والملاءات لجهاز العروس ، ولايخلو الامر من بدلة رقص أحيانا تطلبها الفتاة المدندشة سرًا من خلف ظهر أمها وتتيحها لها أم عزة بسعر متهاود، وقد تكتشف أم الفتاة وجود البدلة في جهاز ابنتها فتلقي بها في وجه الدلالة إذ أن البيت محترم، والبنت لايجب أن تخرج منه ببدلة رقص ، ألا يكفي قمصان النوم والملابس العارية للبيت ؟
فليشتري العريس بدلة رقص إذا كان له مزاج، وإذا لم يكن فلتوفر الأسرة ثمنها المرتفع ، وما قد تجلبه من مصمصة شفاه أم العريس التي ولابد سوف تتفقد جهاز العروس وملابسها قطعة قطعة ليلا بعد أن تفرش العروس وأهلها وأصحابها الشقة .
في تلك الليلة وكما هومتعارف عليه في الاحياء الشعبية تروح أم العريس وبعض قريباته وبعض سيدات الحي من الجيران إلى شقة الزوجية،
يبدأن أولا بفحص طريقة فرش الجهاز ، ورائحة المكان، ثم يتجهن إلى المطبخ للفرجة على أجهزته من ثلاجة وخلاط ومفرمة، ويفحصن الملاعق والاطباق، والحلل ، وأطقم الصيني والجيلي، والأكواب والكاسات ، ثم يأتي دور الدولاب فيفتحنه ليشاهدن ملابس العروس وقمصان نومها قطعة قطعة
وياويل العروس وأهلها من السنتهن الحادة لو لم ترق الرفائع للحماة

تستمع ونسة إلى حكايات الكونتيسة مبهورة، فلولاها ماعرفت الكثير من دقائق أسرار البيوت، بل ونفوس أصحابها تلك الدروب المتعرجة المستعصية على الفهم والمثيرة للشفقة أحيانا، وللإحباط أحيانًا أخرى وللسخرية ثالثة.

أم جويا كانت حكايتها دائما هي الأكثر إثارة وهي تلك الجارة التي تسكن العمارة المجاورة مباشرة لعمارة ونسة.

 تزوجت أم جويا” أو “كريستين” من عماد صاحب محل الذهب بالصاغة وعاشا حياة هادئة أنجبا خلالها “جويا وأليس”إلى أن تعرف عماد على فتاة لعوب بدأت تنصب شباكها حوله، لم تكن ترغب في الزواج منه لاختلاف الأديان كانت فقط تريد أمواله، ولان عماد كان قليل الخبرة تصرف كزوج في منتصف الثلاثينات انشغلت زوجته الشابة بعملها في مكتبة الكنيسة صباحا وبابنتيها بقية النهار، وبالنوم ليلاً مرهقة ومتعبة.
تصوم أم جويا وتصلي كثيرًا وتتصدق، وتقول أن الجسد فان ، تكره أن تستجيب ليلا لما يلذ للنساء، لاتحب العطر، والقمصان الوردية والسلاسل وخلافه كما تحكي الكونتيسة وهي تشفط رشفات الشاي ابو لبن الساخن، ثم تتكرع وهي تحكي لونسة الغارقة في الدهشة لاذنيها

البنت اللعوب ظلت تخايل الجدع في محل عمله، تدوخه بعطرها تارة وأخرى بتثني أجزائها السفلى المحشورة في جيب أسود قصير ضيق يكشف عن ساقين بلوريتيين، تتمايص في الكلام وتصوب نظراتها اللعوب إلى عينيه.

العجيب أن أم جويا لم تكن وحشة أومنفرة أبدًا، على العكس كانت بيضاء ناعمة البشرة، متواضعة، حلوة الروح، لكنها كانت مشغولة لشوستها في العمل والبيت، والرجل من هؤلاء يريد من تناغشه، وتهتم برجولته وتدلـله خاصة في السنة السابعة من الزواج كما أكدت خبيرة العلاقات الزوجية الخاصة أم عزة التي تضحك وتداري سنتها الذهبية وهي تقول لونسة أنها لاتريد أن تفتح عينها على هذا الكلام، ثم تواصل، مع الأيام دبت مشكلة كبيرة بين عماد وزوجته بسبب البنت اللعوب، فقد ظلت كريستين تتجاهل كلام الناس الذي وصلها عن خروج عماد مع الفتاة واصطحابه لها في سيارته وأحيانا في شقق أصدقائه المهاجرين إلى كندا والتي أستأمنوه على مفاتيحها، أو شقته الخاصة في الشيخ زايد، لم تعد تصبر على كل ذلك وبعد أن كانت تداوي قلبها بالصلاة والصيام انفتحت عيناها رغما عنها على الجحيم حين رأت دليل الخيانة، فقد بلغ به الاستهتار أن يشيل ملابس نسائية داخلية تخص غيرها في جيوبه.

انفجرت في وجهه وهوعائد يتطوح في الثانية صباحا، والحق أن صوتها لم يعلو ليسمع الجيران، لكنها أنذرته بالفضيحة لو لم يعد إليها وإلى بيته مستقيمًا تائبًا

بعد أن أفاق من سكره بكى عماد كثيرًا بين يديها، استعطفها ألا تفضحه وألاتتركه، قال إنه لايستطيع أن يقطع علاقته بالبنت، ولا يستطيع أن يترك زوجته وأم أولاده، اعتذر ومرمغ أنفه تحت قدميها ذات الكعبين المتشققين.

قالت له أنها مصدومة في حبيب عاشت له وأب وزوج كانت تراه مثالا للرجل المحترم العاقل.

قال لها إنها السبب وأن ماتحرمه منه وجده لدى أخرى.

كبرياؤها كان يقع قطعة قطعة متناثرًا على أرضية الحجرة، ثم قامت لتنام في حجرة البنتين وتركته وهو استلم السرير ليفرد جثته عليه.بعدها خرجت إلى الحمام أكثر من مرة لتتبول حتى أنها شكت أن يكون أصابها السكر على أثر الزعل، كما حكت لي المقدسة تريز والدتها، مرت على حجرة النوم ونظرت إليه فوجدته وقد راح في نوم عميق، بدا وجهه كطفل مطمئن عرفت أمه بعملته فلم يعد يخشى افتضاح أمره. ينام عماد قرير العين، لايخشى أن تأتيه ضربة أذى أو حتى قرصة أذن من كريستين، فهو يعلم كم تحبه، ويعلم كم هي طيبة ومسالمة، قد تؤذي نفسها ولاتؤذيه، وربما كان هذا هو مادفعه لخيانتها بكل تلك الجرأة والاستهتار والطيش. قال يافرعون مين فرعنك؟ قال مالقيتش حد يلمني.ويعود بعدها عماد لينغمس في الخيانة مرات ومرات، بلا أية محاولة لإصلاح حاله أو إصغاء لنصائح الأهل والاصدقاء، أصبح يفعلها عيني عينك لا خوف ولا مدارة.

ليالي طويلة من الوحدة والأسى قضتها كريستين قبل أن تقرر اللجوء إلى الطلاق، سنوات طويلة ضاعت من عمرها بين طرقات المحاكم ومكاتب المحامين، لكن الأمر شبه مستحيل؛ الكنيسة تصعب الأمر والطلاق أسهل منه الموت، وهي لن تلجأ الى اتهامه بالزنا.

ماحدث ذات يوم أن الجميع صحا على خبر وفاة كريستين، لا أحد يعلم إذا كانت ماتت مقهورة بعد أن هددها عماد باستعادتها عنوة إلى بيته

 أم ماتت لانها كرهت الحياة وزهدتها ، فصعدت إلى الله علها تجد العدل في مكان آخر، المهم أنها ماتت ياولداه وارتاحت ، لكن الذي لم يرتح ، ولن يرتاح بقية عمره هو الموكوس عماد كما تسميه أم عزة ، لايعلم أحد من أين طلع له الضمير على كبر ، فيقولون أن ضميره يعذبه ويؤنبه ليل نهار بذنب كرسيتين، ويقولون أنه زهد النساء جميعًا، وأنه يزور قبرها يوميا .
ترى أم عزة أن كريستين كانت أولى بكل هذه الدموع في حياتها ، كانت أحوج لكلمة حنونة ، وحضن زوج مخلص ووردة واحدة من تلك الباقات التي يطلع بها القرافة عليها
تسرح ونسة في كلام أم عزة ، تفكر في زوج حنون مخلص ، تخشى أن تتزوج من رجل وتنجب منه ثم يخونها او يطلقها
تشرد في اهمية حضن رجل دافئ في ليلة شتاء كتلك تقول لنفسها :ربما كان هناك رجال أوفى واكثر اخلاصا ومودة من عماد جارهم
تطمئنها أم عزة :لا؛ صوابعك مش زي بعضها .
تعرفي ياونسة؟
نعم يا أم عزة
– فيه ر جالة مايملاش عينهم غير التراب
وتنسج أم عزة خيوط حكاية جديدة مع كوب شاي جديد سادة تصبه لها ونسة،
وتنصت ونسة لحكاياها  حتى تتثاءب وهي تسألها :
هيه وبعدين ؟

ولاقبلين، أسيبك بقى دلوقت أنا قربت أنام على روحي.

ـــــــــــــــــــــ

*فصل من رواية “ونسة” صدرت أخيراً عن دار “روافد” بالقاهرة

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون