فصل من رواية “كل شيء هادئ في القاهرة” لـ محمد صلاح العزب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 Puzzle

– 1 –

 

أؤمن بأن الله يختارنا لأشياء محددة سلفا، ربما لهذا اختارني لهذه السيارة، وهذه الشقة، وهذا الجسد، ربما أراد لي أن أشاهد هذا المشهد في هذا المسلسل الردئ، وأن تظهر “بسنت” فجأة تمهيدا للعودة، وأن أتشاجر مع جاري أمام العمارة لأنني أغلقت بسيارتي على سيارته، فأتأخر لمدة 10 دقائق، فأسرع في القيادة، حتى أصل إلى ميدان الجيزة، فتمر أمامي “فيروز” وهي تنظر نحو رجل مجنون يجري أمامها، فلا تراني أو أراها إلا في لحظة اصطدام سيارتي بجسدها، عيناها في عينيّ، في لحظة شديدة الطول، قبل أن يطير جسدها، والموبايل، وحقيبتها، بتصوير بطيء، ثم تعود سرعة الصورة إلى طبيعتها، وهي على الأرض غارقة في دمائها، والرجل يواصل جريه منها نحو اللاشيء.

أنزل من السيارة في حالة ذعر، يمر أمام عيني شريط سريع” “دينا”، “كرمة”، أبي، حفل زفافي، المشاجرة الأخيرة مع “بسنت” قبل أن نفترق، مكتبي في الجريدة، أمي التي تنتظرني مساء لأوصلها إلى المطار حتى تسافر للعمرة، حذاء “فيروز” المسطح، حقيبتها الجلدية السوداء، شعرها المصبوغ بالأصفر، ملامحها الأربعينية الجميلة.

المارة يحيطون بي متوقعين مني أن أراوغهم وأهرب، وقد تقمص كل منهم دور رجل شرطة محنك، يعدلون جسد “فيروز” ويسكبون على وجهها مياها من زجاجات قذرة، وفتاة ترش عطرا رخيصا على وجهها، وموبايلي يرن مكتوبا على شاشته “بسنت محمد علي”، والمارة يتجمعون أكثر وأكثر حول المرأة الغارقة في دمائها، وحولي وحول السيارة، يفتشون في حقيبتها ويخرجون بطاقتها: “فيروز سلامة عبد الله”.

صوت سارينة عربة الإسعاف، وأمين شرطة، واتصالات متكررة على هاتفي، زوجتي، ثم أمي، وأمين الشرطة يطلب “الرُّخَص” على نغمات الموبايل، “بسنت”، ثم الجريدة، ثم أمي، ثم “بسنت”، التي رددت عليها فقالت:

  • مرت ساعة.
  • لن أستطيع المجيء يا بسنت.

أمين الشرطة يسحب مني الموبايل.. ويركبني سيارتي في الكرسي المجاور للسائق ويقود هو ويسير خلف عربة الإسعاف التي استعانت على الزحام بصوت سارينتها العالية.

مد أمين الشرطة يده وسحب سيجارة من علبتي، وأشعلها، وشغل الراديو على إذاعة القرآن الكريم:

“والذاريات ذروا.. فالحاملات وقرا.. فالجاريات يسرا.. فالمقسمات أمرا.. إنما توعدون لصادق”.

 

هل نحن مخيرون أم مسيرون؟! هل يختارنا الله لما قدره مسبقا؟!.. ألهذا لم يجعلني حارس سجن فرنسي، لم يعرف في حياته الطويلة سوى حكايات المسجونين، يحفظ المئات منها، عن ظهر قلب، دون أن يعرف ماذا يفعل بها كهذا الحارس الذي كتبت عنه على سبيل الترفيه في الجريدة، وحققت قصته أعلى نسبة قراءة على الموقع الإلكتروني وتقاضيت عنها مكافأة تم تعليق ورقة بشأنها على لوحة المكافآت؟

 

يرسم الله صدفا وتقاطعات في حياتنا تشبه لعبة الـPuzzle ليخلق منها دراما تدفع الحياة إلى الاستمرار دون ملل، ماذا أفعل هنا، في هذه السيارة الغريبة التي علمت حين اشتريتها أن طيارا مصريا اشتراها في تركيا وعاش بها 5 سنوات هناك، ثم شحنها إلى مصر، وظل يفضلها على أسطول سياراته حتى مات مقتولا، وباعها ورثته إلى تاجر سيارات نصب عليهم في أكثر من نصف ثمنها، قضى بها 6 أشهر ثم أرسل أحد صبيانه لعرضها للبيع في سوق سيارات مدينة نصر.

اشتريت الهوندا البريليود، وأحببتها، دون أن أدري أن كل هذا جزء من خطة كبرى لكي أجلس الآن بجوار أمين شرطة صامت نستمع إلى سورة “الذاريات” وأمامنا سيارة إسعاف بها جثة امرأة أربعينية!

 أعطاني “عوني” أمين الشرطة كما أخبرني باسمه فيما بعد موبايلي الذي ظل يرن بانتظام، فرددت على “بسنت” و”دينا” وأمي على التوالي وأخبرتهن بما جرى، محاولا طمأنتهن، ثم حاول “عوني” طمأنتي وهو يركن السيارة أمام المستشفى، بأنه حتى لو ماتت “فيروز”، فـ”ديتها” قضية “قتل خطأ”، ربما آخذ فيها حكما مع إيقاف التنفيذ في حال “صعبت” على القاضي، ثم ختم كلامه وهو يسحب آخر نفس من السيجارة الثانية من علبتي:

  • الله يشفيها إذا كانت حية.. ويرحمها إذا كانت قد قابلت وجه كريم.

– 2-

 

أنا الآن هنا، شاهد على كل ما حدث، ولا يمكنني أن أتنبأ بما سيحدث، أجلس في انتظار موت بطيء لامرأة لا أعرفها ولا تعرفني، وليس بيننا سوى نظرة لحظية، وموت، لا أسباب لمجيئه، ولا أسباب لتأخره.

أجلس في المستشفى محبوسا في غرفة ضيقة بها مكتب وكرسي ورائحة دماء وأدوية نفاذة، تأتيني فكرة أنني لو نجوت من السجن سأسافر إلى باريس وألتقي حارس السجن العجوز وأن أسمع منه كل حكايات المساجين وأدونها في كتاب، ربما أكتبها رواية، قلت لنفسي إنها فكرة جيدة، ثم فكرت في أنني لو دخلت إلى السجن فربما أكتسب خبرة يمكنني كتابتها في سلسلة تحقيقات صحفية عن الحياة خلف القضبان أجمعها في كتاب في النهاية.

اتصلت بالجريدة، وبصديقي “سميح” المحامي المنشغل جدا هذه الأيام بإنشاء صفحات على فيس بوك للدعوة لثورة 25 يناير، أعطيت “عوني” الأمين مائة جنيه وطلبت منه أن يرسل من يشتري لنا سجائر وشاي من بوفيه المستشفى، ففرح ووضع النقود في جيبه، وأغلق علي الباب بالمفتاح من الخارج، ثم طرق بعد قليل ومعه علبة سجائر واحدة جذب منها 10 سجائر فرط وضعها في علبته القديمة، ثم أعطاني العلبة الجديدة وبها السجائر العشرة المتبقية، ثم أتت عاملة بدينة تحمل صينية متسخة بها كوبين بلاستيكيين بهما شاي ساخن، تنطلق منه الأبخرة.

خرج “عوني” يمزح مع العاملة البدينة، شربت الشاي وأنا أفكر أن الحياة ليست سوى رواية لا يمكن لها أن تكون ذات أهمية إلا بتعقيدات درامية مؤلمة.

يطرق الباب ويدخل “عوني” الذي صار واقفا في صفي جدا ضد “فيروز” حين علم أنني صحفي، وظل يمازحني ويقول لي إنني يجب أن أبدو شجاعا، لأن السلطة الرابعة لا تخاف، وطلب مني أن أكتب في الجريدة عن معاناة أمناء الشرطة لأن “أولاد الوسخة”، ويشير إلى كتفه قاصدا الضباط، يفعلون كل الموبقات ولا يعملون ويحصلون على كل المزايا.

دخل “عوني” وغمز لي ثم دخلت خلفه “بسنت”، جميلة كعادتها بشعرها الطويل الأسود المموج الذي يصل حتى مؤخرتها، مرتدية بنطلون جينز ضيق وتي شيرت أبيض عليه كلمات متداخلة بالإنجليزية.

ظل “عوني” شاردا يتفحص “بسنت” بإعجاب، وضبطت نفسي أفعل المثل، فأنا لم أرها منذ أكثر من عام ونصف العام، بعد أن ظللنا نلتقي يوميا تقريبا على مدار عامين.

زعقتُ في “عوني” فانتبه وطلبت منه أن يخرج فغمز لي وسحب الباب وخرج، وانتبهت لـ”بسنت” فوجدت عيناها معلقتان بالدبلة في يدي:

  • مبروك.
  • هل هذا وقته؟ افتقدتك جدا.

قالت بدلالها القديم:

  • غريبة.. لم أفتقدك.
  • المرأة التي صدمتُها بالسيارة في العناية المركزة.
  • هذا هو تفسير الحلم.

نظرت لي “بسنت” بحب، ثم بضيق، ثم ربتت على مؤخرة رأسي بحركة رجالية من حركاتها التي أحبها:

  • لا تقلق سأزورك في السجن.

طرق الباب مرة أخرى، ودخل “عوني” كأنه السكرتير الخاص بي مصطحبا معه “دينا” هذه المرة.

نظرت “دينا” لـ”بسنت” من فوق لتحت، وتفحصتها “بسنت” باستكشاف مدعية اللامبالاة.

حاولت إنقاذ الموقف بتعريفهما لبعضهما البعض بأكبر قدر استطعته من الحيادية.

  • بسنت.. زميلتي في الجرنال، في الحوادث.. دينا زوجتي.

هذه اللحظة المتوترة، في هذه الغرفة الكئيبة، في هذا المستشفى الحكومي البائس ستكون نقطة فاصلة، ما بعدها لن يعود أبدا كما كان قبلها. ثلاثة أعوام كاملة ستمر قبل أن تعرف “دينا” طبيعة علاقتي بـ”بسنت”، وأنني كذبت عليها، وأن “بسنت” لم تعمل في الصحافة على الإطلاق، ثلاثة أعوام ستهتز فيها مصر كلها، ولن يعود أي منا أبدا كما كان لا “دينا”، ولا “بسنت”، ولا أنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تصدر قريبًا عن الدار المصريّة اللبنانية ـ معرض القاهرة الدولي الكتاب 2019

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون