فصل من رواية “صانع المفاتيح”

مفاتيح القديم والجديد في رواية صانع المفاتيح
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد عبد اللطيف

يستيقظ صانع المفاتيح صباحاً فيلعن حواسه التي تجلب له التعاسة، وخاصة سمعه، فبالسمع يعرف ما لا يراه. لذلك، يهرب كل يوم من القرية، يختبيء في أماكن بعيدة ربما يعثر فيها على راحته المفقودة، وأحيانا يصعد إلى سطح بيته المتهالك، ويجلس على الأرضية الممتلئة بالحفر، وسريعاً ما يغوص في عوالم أخرى، عوالمه الخاصة، ويعانق من جديد أسئلته الوجودية. هناك، في هذا المكان المتواضع الذي يقف في المنتصف بين السماء والأرض، تيقن أننا في طفولتنا يعلموننا أن الشجرة شجرة وأن الجبل جبل، وفي شبابنا نسأل أنفسنا هل حقا الشجرة شجرة والجبل جبل؟  وفي شيخوختنا نعلم عن يقين أن الشجرة كانت شجرة وأن الجبل كان جبلاً، وأننا أضعنا سنوات عمرنا الطويل في أسئلة نعرف مسبقاً أجوبتها، فنسخر من أنفسنا. غير أننا في رحلة البحث نطلّع على جانب من حكمة الخالق، يفكّر، جانب خفي لا يراه إلا من تأمل وبحث، فوهبه الله نفحة من علمه وأنار بصيرته.

يعود الرجل العجوز إلى بيته، كعادة يومية لم يتخل عنها منذ سنوات طويلة مضت، بعد أن يغلق الورشة وينهي تجواله في الشوارع الرئيسية الرحبة. وفي أحيان أخرى، عندما يكسر العادة برغبة أكبر من إرادته، يهجر المستطيل الذي يشكّل القرية لينظر إليها من أعلى، من فوق جبل يطل عليها بشموخ، وربما بوجل. في البيت،  يرى زوجته الهادئة تشاهد التلفزيون أو تسمع الراديو، وأحياناً يغلبها النوم فتستسلم له بضمير مستريح. وبمجرد أن تسمع حركاته الصامتة قدر المستطاع، تستيقظ ليتناولا عشاءهما معاً، ويتحدثا قليلاً في أمور قد تحدثا فيها من قبل، وتروي له كيف قضت يومها، وأحاديثها مع زائراتها النادرات. حينها، يشعر صانع المفاتيح في قرارة نفسه أنها امرأة سعيدة، وسر سعادتها، يفكّر، يكمن في عدم علمها بما يحدث حولها، هذا الذي لابد أنه يعكر السعادة ويؤرقها.

ذات صباح ألحت زوجته أنه يسير نائماً، وكانت قد أخبرته بذلك من قبل مراراً. أصرّت هذه المرة على قولها، فتذكّر ما يحدث في القرية، وقال لنفسه إن عدم العلم بشيء لأحد مفاتيح السعادة. مع ذلك تظاهر بالضحك. نظر إلى عينيها بحثاً عن مزاح تمناه، فلم يجده. تعاقبتْ في ذهنه مجموعة صور عن المشاة  أثناء النوم، وخطرت بباله بعض الحكايات القليلة، الساخرة، التي سمعها على طول حياته. تحرّك من مكانه حتى لا تلاحظ توتره. دخل الحمّام، نظر إلى صورته في المرآة. بحث عن شخص كان يعرفه منذ زمن، ثم اختفى. أسير نائماً، ردد ساخراً. وسريعاً ما تخيل نفسه ماداً ذراعيه أمامه، يصطدم بشيء ما دون أن ينتبه، يفتح الباب، يخرج للشارع، أو ربما يمشي على سور شرفة، وقد يقع فيموت نائماً، فتكون لحظة يقظته هي لحظة احتضاره. أصابه الخوف من هذه الصورة. وربما يزور أمكنة، ويجالس أناساً، ويتناول مشروبات، ويطلق نكاتاً، ثم يعود لبيته ليواصل نومه. يا للجنون. وربما لأنه نائم، يخرج بلباس النوم، بشعر أشعث، وخطى متردية، فيوحي منظره للعابرين بأنه مجنون. طيب بمشي بعينين مغمضة؟ سألها وهو يعرف الإجابة، وانتظر منها أن تبتسم، ابتسامتها المعهودة، الطيبة، لتخبره أنها تمزح. غير أنها أجابت بوجه يعتليه القلق. قالت إنها منذ فترة كانت تشعر بقيامه من سريره، فظنت في البداية أنه ذاهب إلى الحمام، أو للثلاجة، ومع مرور الوقت لاحظت تأخره، فتبعته. رأته مرة يفتح باب البيت، ومرة أخرى ينظف حذاءه بالورنيش، ومرة ثالثة يتجول في البيت كما الشبح، وفي كل المرات كانت تسأله ماذا يفعل، فينظر إليها بعينين شاردتين ويجيبها بأنه لا يفعل شيئاً، وحينها كان ينتبه، ويدخلا السرير، وفي الصباح لا ذكرى لما حدث.

حتي تلك اللحظة كانت شكوكها مجرد شكوك، أو ربما اعتبرها هلاوس من جانبها، حتى حدث في الليلة السابقة ما اعتبره خطراً حقيقياً. نهض، فتح الدولاب، أخرج ملابسه، ارتداها، وضع عطره، انتعل حذاءه، أخذ مفاتيحه، خرج، وقبل أن يبدأ رحلته الشاقة، نادته، فالتفت لها، فسألته أين تذهب، فأجابها إلى لا شيء. أعادته للبيت وساعدته في خلع ملابسه والنوم من جديد. وهذا الصباح أخبرته أنه يسير نائماً، بكل يقين لا يشوبه الريب .

كان يعرف طيلة حياته أنه يتحدث نائماً، يتشاجر مع أشباحه، يتفوه بكلام غير متماسك ، وكم عانت منه أمه، لكنها كانت تطمئنه بأن الأمر لا غرابة فيه، فنحن نقول بالليل ما نود قوله بالنهار ولا نستطيع.

حاول أن يقنعها أنها فترة وتمر، ربما إرهاق ليس أكثر من ذلك، فتظاهرتْ بالاقتناع كعادتها، فقبّلها وخرج إلي عمله. قضى هناك يوماً مليئاً بالحكايات، وعاد للبيت حزيناً أكثر من ذي قبل. تحدث معها قليلاً ودخل ليصالح النوم . في تلك الليلة قرر، داخل عقله، أن يراقب نفسه، أن يسير وراءها، أن ينتبه لنفسه حتى في وسط عدم إدراكه. جاءته مكالمة، طال الرنين، فانتبه. وجد نفسه جالساً في محطة الأوتوبيس، مرتدياً ملابسه الداخلية فقط، وأمامه، على الرصيف، تنام زوجته بالجلباب الواسع الذي اعتادت النوم فيه. طال الرنين، فأجاب. سأله جاره أين هو، وأخبره أن باب بيته مفتوح وأن هناك أناساً بالداخل. انتفض من مكانه، اقترب من زوجته، أيقظها مفزوعاً، فأصابها الجنون عندما وجدتْ نفسها على هذه الحال. كانا قد ابتعدا كثيراً عن البيت، فأوقفا عربة أجرة، ركبا، أوصلتهما إلى البيت. كان الباب حقاً مفتوحاً، وبالداخل كان أناس لا يعرفهم، يتحركون بلا وعي كما الأشباح، من غرفة لغرفة، فيصطدم بعضهم ببعض دون أن ينتبه أحد. وقف على باب البيت يراقبهم، كانوا جميعاً بعيون مفتوحة، بعضهم يرتدي ملابسه، بعض آخر يمسح حذاءه، بعض ثالث يعد طعاماً. وقبل أن يطلق صرخة مدوية ليطردهم، وجد زوجته واقفة على باب غرفة النوم، بجلبابها الطويل، وتقول بكل هدوء الدنيا، ألم أخبرك أنك تسير نائماً. انتبه بشدة، نظر حوله، لم يجد أحداً سواها، فركض إلى مرآة الحمّام، نظر لملبسه، لشعره الأشعث، وبحث في وجهه عن شخص كان يعرفه منذ زمن،  فلم يجده.  

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون