فصل من رواية حي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

السفر

مالي وللناس كم يلْحونني سفها ... ديني لنفسي ودين الناس للناس

   ضاعت خارطة القاهرة من عقل نصر الدين فقد كان مشوشًا وغائبًا فوق الجبل عن كل ما يحدث. منذ قليل، أو منذ كثير، كانوا في سوق الجمال بإمبابة لشراءِ الجمال والزاد والماء والخيام. اشترى دليلهم جعفر البدوي سبعة جمال بعدما اختبر قوائمها وعدْوها وشراهتها، كان يستبعد الجمال سيئة الطبع، المدللة والأكولة. وكان يقوم بشيء غريب، يتحدث مع كل جمل على حدة، يتمتم بكلمات غريبة غير مفهومة فيرغو الجمل إما بالإيجاب أو الرفض، كان جعفر يخيرهم بين المجيء في رحلة سفر طويلة مجهولة والبقاء آمنين. والأغرب أن الكثير من الجمال كانت تريد السفر، وبالذات الجمال العليلة التي لا تقوى على الحركة. بعدها أمر جعفر الحمالين الخمس، بما فيهم نصر الدين ويحيى، بشراء زادهم؛ فتحركوا في ظلام السوق وهمهمات الناس. كان الجميع يتحدثون عن قافلتهم، وبالتحديد عن رحّالتهم الملثم الواقف هناك في الظلام.

تنامى إلى مسامعهم أشياء عديدة عن ذلك الرحالة الغامض، أشياء من قبيل: ” هو مدان بجريمة قتل ولهذا أحب السفر”، أو: ” هو مريض بالجرب ولهذا يتجنب الحديث مع الناس”، أما أغرب ما سمعوه فهو أن رحالتهم “امرأة”. كان جعفر قد تعرف على الرجال الخمس قبل شراء الجمال، الجميع أتوا عن طريق الشيوخ، ثلاثة رجال أقوياء جاؤوا عن طريق شيخ السيدة زينب، واثنان أفنديان أتيا عن طريق شيخ الحسين. رحب جعفر بهم جميعًا من دون تفريق. كان الثلاثة الأقوياء قد سافروا من قبل، غير أنهم لم ينجحوا في مسعاهم لذا أعادوا الرحلة من جديد، أما نصر الدين ويحيى فقد عرف أنهما طالبا حقوق. سأل يحيى الرجال الثلاثة عن ذلك الرحالة الغريب، أيّ القصص أصدق يا ترى مما يقال؟ لكنهم قالوا بأن الطريق وحده سيجيب على كل ما يريد. أما جعفر فقد أخبرهم بقاعدة السفر الوحيدة، أطع دليلك حتى الوصول. تساءل يحيى عن غايتهم؛ فضحك جعفر وهو يقول: ” تسأل عن طريقنا يا زول؟ حسنًا سنزور قبور الأولياء”. ولم يكن يكذب.

   أشرقت الشمس فوقهم بقرصها الذهبي، وسارت القافلة نحو الجنوب. كانت الشمس تسبح للخالق وهي تشرق، وكان لتسبيحها نغم صوفي جميل. وكانت القاهرة تغيب تدريجيًّا عنهم، تصغر وتتضاءل، تغوص بناياتها وقلاعها ومساجدها وكنائسها في مربع صغير ثم يتلاشى؛ فيلوح شبح العاصمة من بعيد كمدينة خرافية لم توجد بعد. كانوا يقتربون فوق جمالهم من بداية الأشياء، والشمس تعلو بهم في رحلتها للسماء. يرتدون جلابيب بيضاء وأغطية رأس بيضاء كذلك أو منقطة بالأبيض والأسود، ما عدا رحالتهم، لم يكن يرتدي سوى اللون الأسود.

   لم يمض سوى القليل من الوقت حتى عرف يحيى حقيقة الرحالة، أخبره أحد الحمالين أنها امرأة حقًّا. وأخبره آخر بأنها بريطانية، تعاديها السلطات، وأخبره الثالث – بتشاؤم- أن الصحراء لم تخلق للنساء وأن هذا يجلب لهم القدر السيئ. وعندما أخبر نصر الدين بذلك لم يرد. ظل شاردًا فوق الجمال مثلما هو، ينصت إلى همس الصحراء الصامت. لم يخبر الحمالون يحيى أكثر من ذلك، قالوا بأن الحكاية ملك لجعفر وحده. هو يعرف كل أسرارها، بدايتها ونهايتها، ويحكيها للناس كلما توانت الفرصة، كلما دخلوا مدينة جديدة أو قرية أو استراحوا حول النيران أو في الخيام. يخبرهم جعفر بالأسرار: كيف نادتها القاهرة، وكيف أسلمت واعتنقت الصوفية، ولم ستحاربها بريطانيا العظمى، ولم سيحاول العربي الأسمر اغتيالها، وكيف ستموت صغيرة وجميلة. أسرار لا يعرفها سوى جعفر ولا يمل من حكيها كل رحلة للدراويش الجدد.

   استيقظت حواس نصر الدين فجأة عندما بدأت تلك الحقول تلوح من بعيد وتتسع، حقول جميلة وناعمة كأنها بداخل أرواح الرجال، حقول طماطم وخيار وبطاطس وخس. يوجد الكثير من البقر والحمير في كل حقل، ويوجد مئات الفلاحين الذين يحرثون الأرض بنشاط وهمة؛ فيتساقط العرق من جباههم ويسقي الأرض العطشة. لكن لم يكن هذا هو ما جذب حواس نصر الدين، بل كانت تلك الرائحة. كان يشم رائحة وردة بالمكان كأن الحقول تجلّ لعينيها الخضراوين. لم ينس وردة من بداية الرحلة. وكيف يفعل؟ وهي سبب الرحلة وغايتها. كيف غابت وردة فجأة؟ هل سافر حقًّا؟ هل سافرت هي؟ لم لا تكون هذه الرحلة وهمًا أيضًا؟ ما الذي يجعلنا نتحمل عناء السفر والمجهول. يأمل في العثور عليها في النهاية. الحقول في الأمام تحمل رائحتها وأنفاسها، يستنشق الهواء النقي، هي وردة. يراها هناك في الحقول تجري فيبتعد بالجمل عن القافلة. ينادي جعفر ” يا ولد .. يا زول. ارجع”. لكن نصر الدين لا يسمع شيئًا. هي وردة، ها هي هناك في الحقول؛ يعدو بالجمل أكثر ناحيتها، لماذا تبتعد وردة كلما اقترب منها؟ ولماذا تدور الدنيا والأشجار والحقول؟ الشمس شاحبة زرقاء بالأعلى والسماء لا لون لها. هل يسقط؟ سقط بالفعل من فوق الجمل لكن يدا جعفر التقطتاه بعينين قلقتين. ازداد القلق فيهما أكثر عندما غاب المسكين عن الوعي وهو يهذي بعبير اسمها.

   لله أسرار عديدة وغريبة في الكون. أسرار تدفع امرأة بريطانية للقدوم من أجل عشيقها بالمراسلة الجندي بقوات الاحتلال، وبعدها يتقابلان فينفران من بعضهما، وبعدها ترى عين الله في الشرق فتعشق من جديد، تقرأ كليلة ودمنة فتعشق الحيوانات الثائرة، تقرأ ألف ليلة وليلة فتعشق شهرزاد والسندباد. تقرر الترحال في البلاد وزيارة المساجد ومقامات الأولياء، وتسلم على يد شيخ صوفي، لكنها تتردد قبل دخول الإسلام عندما تعرف أن المسلمين يمقتون شهرزاد؛ يفتنهم جسدها العاري الجميل. وكادت ألا تعتنق الإسلام لأنها كانت تظن بأن عليها أن تكرهها كي تصير مسلمة مثلهم، لكن الشيخ أخبرها بأن لا قيد عليها، وقال:” العري يا بنتي ليس في الأجساد وإنما في القلوب الخالية من محبة الله” وقال أيضًا ” بأن الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق كلهم”. وبعدها فقط أسلمت، واشترط الشيخ عليها ألا تتبع الناس وألا تتقيد سوى بالحرية. لماذا يغضب الناس من شهرزاد وجسدها الفاتن؟ لماذا لا يفهمون سر الجسد العاري؟ لكن بريطانيا العظمى قد فهمت فعادتْها بكل قوتها، بريطانيا العظمى تعادي امرأة وحيدة في الشرق. فلم؟ ما سرك يا شهرزاد؟

   كانت رحالتهم إيزابيلا قد ذهبت لزيارة مسجد أثر النبي الموجود في قرية دير الطين، وهناك شمت رائحة النبي الطاهرة وهي ترى آثاره مثل:الوعاء الفخاري والمكحلة والدرفش، ومصحف الإمام علي المخطوط بيده. كانت هذه الأشياء التي تراها ليست موجودة أصلا. سرقها العثماني سليم الأول إلى إسطانبول بعد هزيمة طومان باي، ومع ذلك كانت تراها ولا تعرف شيئًا عن غيابها. وكان جعفر- كالمعتاد،- قد استغل فرصة غيابها وجلس حول الرجال في الحقل- والحمالون جالسون على شكل دائرة- يخبرهم عن شهرزاد والسياف “مسرور” الذي يريد تمزيق جسدها. أما نصر الدين فلم يكن معهم، كان جالسًا هناك أسفل شجرة عييًّا وشاردًا في الحقول والعصافير: السماء زرقاء عميقة كأنها بحر والسحاب زبد. ووردة؟ أين هي؟ رحلتْ يا نصر الدين. لماذا لا تصدق. كيف تنسى؟ لا، لم ترحل؛ هو يراها، ها هي وردة. تمشي، تهرول، تجري، تحلق، تحلق، تحلق في السماءِ مثل الشمس.

   عادت إيزابيلا بصحبة شيخ هزيل نحيل يرتدي عمة رثة وجلبابا قذرة. كان الشيخ يسير أمامها متعكزًا على عصا خشبية هشة وهو يرتل: “ولاَ تمْش في الأَرْض مرحًا إِنك لن تخْرق الأَرْض ولن تبْلغ الجبال طولا”، ويضحك كطفل صغير وهو يقول: “صدق الله مولاي العظيم”، ثم يسقط فجأة على الأرض دون سبب وينهض وحده وهو يضحك ببراءة أكثر. نهض الحمالون وجعفر وتقدموا ناحية إيزابيلا التي كانت قد خلعت لثامها فبدا شعرها الأشقر وعيناها الزرقاوان الجميلتان. نظروا إليها بعينين دهشتين فأجابتهم بنظرة طفولية من عينيها. قابلها الشيخ في مسجد أثر النبي، طلب منها بعض النقود فأعطته بعضها. وبعدها طلب المزيد فالمزيد حتى أخذ كل ما لديها، ومع ذلك ظل يطلب. فقالت:” اتبعني”؛ فسار وراءها وهو يردد: “مسكين قارون”، وبعدها قرأ ما قرأ من القرآن. لم تتحدث إيزابيلا حين أمرهم الشيخ جميعًا أن يعطوه كل ما يملكون من مال، كان يأمرهم بعصبية وكانوا يستجيبون كأن للشيخ عليهم سلطانًا. أخذ منهم كل شيء، المال، والزاد، ولم يترك سوى زاد نصر الدين وقال حين رآه: “مسكين مريض”، ثم أمرهم بعدها بالرحيل: “ارحلوا ارحلوا، الخير كثير في الطريق”. وكادت القافلة أن تتحرك لولا أن الشيخ أوقفها فجأة وقال لإيزابيلا – التي وضعت لثامها فوق وجهها مرة- أخرى :”بلغوا مني السلام، أنا العبد الفقير لابن مارية القبطية، وقولوا: هنيئًا لك الشهادة يا شيخ”.أومأت إيزابيلا برأسها، وكادت القافلة أن تتحرك لولا أن الشيخ صاح وأوقفها مرة أخرى وقال لـيحيى:” تطهر يا ولدي بالزهد مما تأخر من ذنبك”.وأخيرًا، صاحَ جعفر في الجمال فتحركت القافلة؛ فجلس الشيخ في الحقل وحيدًا وهو يراقب القافلة وهي تبتعد، ثم قال – وهو ينظر للسماء- : “حسنًا سأفعل”. وبعدها نادى على الفقراءِ والجياع والفلاحين بصوت ضعيف مبحوح لا يُسمع، فلبى الجميع النداء وانسلوا أفواجًا من الحقول والطرقات.

   اختفت الحقول تماما، لم يعد هنالك سوى صحراء تمتد حتى الأفق. السماء مدفونة أسفل الرمال، والشمس متربة. يوجد القليل من الصبار هنا وهناك والكثير من الكثبان الرملية التي ألقتها الرياح بدقة متناهية، كل شيء في الصحراءِ كامل، كل التفاصيل صغيرة ودقيقة كحبات الرمال الصغيرة الذهبية. الصحراء لا ينقصها أو يحدها شيء،أرض واحدة قديمة وأزلية وممتدة حتى الأفق، لا يحدها سماء ولا غاية، كأن الرحلة لا نهاية لها. الجمال تتقدم بإعياء وجوع إلى الأمام. تهمس، ترغو، تصيح، تستغيث بصاحبها، لكن جعفر يجيبها بحزن : “الصبر يا بنيتي، خيرتك منذ البداية؛ الصبر”. والرجال لم يكونوا أفضل حالا منها، كانوا جياعًا، وجوهم شاحبة بلا دماء ومتربة بعناءِ السفر، وأجسادهم بدت كأنها تلتصق بروح الصحراء. أما نصر الدين فلم يكن أفضل حالا من الجميع، كان متوهًا وكانت الصحراء تليق بشروده.

   تمنى الرجال أن تلوح بحيرة من بعيد أو بئر. لا، لن تلوحَ. كان جعفر يدرك ذلك وإيزابيلا التي فقدت خرائطها، أما بوصلتها فكانت تشير إليهم. لا يدرك جعفر كيف تاهوا في الصحراءِ فجأة، وهو الدليل الخبير الذي يعرف عدد رمال الصحراء وطرق القوافل والعيون. لا يوجد بئر هنا أو بحيرة. ومن يدري؟ ربما لم يعبر بشري هنا من قبل، وربما يسقطون في فخاخ الرمال المتحركة فتلتهمهم الصحراء الجائعة للأبد. لم يكن أمامهم سوى المضي للأمام على أية حال، فقد تساوت الجهات الأربع. والأفضل- لمن ارتضى السفر- ألا يعود إلى الوراءِ، لكن العطش والجوع قد ازداد بالرجال حتى بدأوا يهلوسون. لم ينظروا مع هذا نحو زاد نصر الدين؛ كانوا بحكم تجربة سابقة يعرفون عاقبة النظر إلى ما لست تملك. لكنهم شعروا في أعماقهم أن سبب ضياعهم في تلك الصحراء هو تلك الرحالة، امرأة تقود قافلة في الصحراءِ؛ فيا للشؤم!. أما يحيى فقد هلوس كثيرًا، كان يرى نصر الدين مقتولا ويرى الخنجر في يده.

   دعا الرجال الرحمن الرحيم أن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، وفجأة ظهر أمام قافلتهم قطيع غزلان يجري شاردًا في الصحراءِ. هلل الرجال، وأناخوا جمالهم، وطاردوها لكنها كانت سريعة للغاية فسقط الرجال، الواحد تلو الآخر، فوق وجوههم في الرمال الساخنة. لم يمسكوا بغزال واحد فقط، فما أسوأهم! حتى الغزلان الضعيفة والمريضة والهزيلة والصغيرة والعرجاء تركوها تهرب بعيدًا عنهم. وعندما تحركت القافلة مرة أخرى لم يعرف الرجال إن كان ذلك القطيع قد مر بالفعل من أمامهم وهرب بعيدًا أم أن ذلك محض حلم أو خاطر أو رؤيا راودتهم جميعًا فوق الجمال.

   الطريق واحد والمشهد لم يتبدل: صحراء وفقط. كأنهم غادروا دائرة الزمان أو ظلوا يدورون فيها للأبد.أو كأن الصحراء قد سجنتهم في جوفها بالفعل. لكن الرجال لم يستطيعوا صبرًا أكثر من ذلك، أكلهم الجوع؛ فذهبوا إلى دليلهم جعفر كي يتوسلوا إليه أن يسمحَ لهم بجرعة ماء واحدة من قربة نصر الدين. يحيى لم يذهبْ معهم، كان شاردًا حائرًا فوق الجمل فيما يحدث. يفكر المسكين، لماذا لا يقتلون نصر الدين ويسرقون زاده فينتهي الأمر؟. الهلاوس على أشدها. هل ذهب الرجال واستأذنوا جعفر أم أنهم لم يتحركوا من فوق جمالهم؟ وجعفر لم يوافق أليس كذلك؟ فلماذا هللوا إذن وجروْا إلى نصر الدين؟ ماذا؟ هل وافق نصر الدين حقًّا؟ أعطاهم كل ما يريدون فشربوا وأكلوا حتى كاد الشبع أن يقتلهم. ومضت القافلة مرة أخرى في طريقها وظل الرجال يأكلون ويشربون طوال الرحلة من زاد نصر الدين، المدهش هو أن زاد نصر الدين لم ينقص أبدًا.

   وأخيرًا لاحَ للقافلة من بعيد بعض البيوت والنخيل والناس، ألقى جعفر نظرة خاطفة على الصحراءِ بالخلف متنهدًا، بينما بدت السعادة على وجوه الرجال وهم يتمتمون صلوات الشكر. هل نجوا حقًّا من جوف الصحراء؟ ما هذه القرية التي تقع على طرف لسان الصحراء؟ الناس ماذا يفعلون؟ يتمرغون في الحصى. لقد عرف جعفر القرية على الفور حين رأى ذلك. ولكن يبقى السؤال، كيف عبروا كل هذه المسافة الطويلة إليها؟ هل اكتشفوا طريقًا سحريًّا في الصحراءِ؟ أم كانوا مع الله طوال تلك الصحراء حيث لا زمان ولا مكان؟.

القرية تدعى البهنسة بالمنيا.الناس هنا يتمرغون في الحصى المختلط بدم الشهداء، هنا استشهد أكثر من أربعة آلاف من صحابة الرسول والبدريين منهم، عندما أرسل عمرو بن العاص جيشًا لفتح الصعيد. لكن البهنسة المتمردة صمدت وأغلقت أبوابها الحصينة في وجوه المسلمين، وقاومت الحامية الرومانية الشرسة بشدة حتى سالت دماء الآلاف الطاهرة المباركة. واليوم يتبرك بهذه الدماء الطاهرة أبناء المدينة التي قتلتهم!

   كان هناك بقايا معبد روماني يبدو كيد مستغيثة أسفل الرمال، لكن الرجال لم يبالوا بالنظر إليها مثلما لم يفكروا بطلب الزاد. وإنما جروا- بعدما أناخوا الجمال- ناحية الرمال وقفزوا مع القافزين فيها وظلوا يتدحرجون فوق الحصى وهم يسبحون الله العظيم. ومن حولهم كان أهل القرية يتمرغون أيضًا وهم يدعون الله أن يرزقهم بالولد أو المال أو الشفاء. وكانت إيزابيلا تتأمل ذلك بعينين مندهشتين، كعادتها كلما رأت ما يدهشها في الشرق، لكنها لم تتوقفْ كثيرًا أمام مجرى الحصى وإنما تحركت ناحية الجامع البعيد بالغرب للتحدث مع مريم البتول والتعرف على السبع بنات. أما نصر الدين الشارد فقد كان يجري أمامها وهو يتعثر في الرمال مطاردًا وردة الجميلة التي تجري بدورها ناحية قبب الشهداء وأضرحة الأولياء والصالحين.

   وداخل مسجد سيدي علي الجمام ، قاضي القضاة التقي الورع، وقفت إيزابيلا، بينما كانت ترى بالأسفل نصر الدين لا يزال يطارد وردة. كان المسجد كبيرًا ويحتوي على واجهة أثرية جميلة وأعمدة كثيرة وأبواب منقوشة بنقش عربي إسلامي عريق. لم تدخل إيزابيلا المسجد وإنما سارت في فنائه الواسع وهي تقترب من شجرة مريم العذراء، تلك الشجرة التي جلست مريم تحتها مع كلمة الله عيسى؛ فانحنت الشجرة كي تظلهما؛ ومن ساعتها ظلت هكذا حتى اليوم. بجوار الشجرة من الجهة اليمنى يوجد أيضًا بئر مريم. أسفل الشجرة جلست إيزابيلا وبجوارها الحمام حتى جاءت إليها مريم العذراء بابتسامتها الطيبة الوديعة ووجهها الحزين.

   لله أسرار عديدة وغريبة في الكون، أسرار دفعت امرأة بيضاء أن تتعرى وتترك جسدها لشمس الشرق السمراء، وحين تحررت عاداها كل بني جلدتها؛ فقط لأنها أحبت الشمس. عادتْها بريطانيا العظمى فقط لأنها وقفت مع الشعوب والأوطان، كان الشرق في عينيها هو شعلة النار الباقية، هنا رأت الله بعينيها الزرقاوين للمرة الأولى، هنا شعرت بالسلام النفسي العميق، ولم يكن لها أن تترك الغرب يطمس جسدها وحضارتها. في البداية تجاهلتها بريطانيا كما يجب أن تفعل أية دول استعمارية، لكن إيزابيلا كتبت في الجرائد والصحف فوصل صوتها إلى العالم بأسره؛ وهنا اختلف الأمر، حاولوا اغتيالها مرة بعد مرة لكن الله كان معها فأنجدها. الوحيد الذي سينجح بالاقتراب منها وطعنها هو رجل عربي أسمر. سيقابلها في أسوان، وسيراها تتعمد عارية في النيل فيغضب بشدة، النيل هو الحياة والمرأة بيضاء وغربية، لن يتركها تلوث مياههم التي يشربونها، سيطعنها وسيتركها تنزف حتى الموت. وحين طعنها وتركها تنزف حتى آخر قطرة وجدها تهلوس بترانيم ممتزجة بآيات قرآنية جميلة. وهنا بكى، سمع الله يتحدث من خلالها بشتى اللهجات، وهنا عشقها. وداواها. وبعدها، حين تشفى سيتزوجها، وبعدها سيخلدان معًا لأنهما سيقْتلان غرقًا عند الفجر في النيل الأزرق الحزين.

   هكذا كان يحكي جعفر وهو جالس القرفصاء في منتصف الدائرة وهم- الحمالين وأهل القرية الطيبين- كانوا ينصتون بأعين مندهشة باكية. ثم لم يلبث أن تساءل أهل القرية عن مكانها، أين تلك المرأة الآن؟ يريدون رؤيتها والتبرك بها، لكن جعفر اكتفى بإجابتهم بـ : “الله أعلم”. وفي الحقيقة، هو – بفضل الله- كان يعلم أيضًا. كان يراها في الطريق إلى مقام السبع بنات بصحبة مريم العذراء، وكان يرى الشيخ المناوي- ابن مارية القبطية- في الطريق إليها من شارع أبو ذر الغفاري، وفي الجبانة، عند قبب الشهداء كان يرى نصر الدين لا يزال يطارد طيف وردة. وكان جعفر يرى هذه المشاهد بشكل خاطف وسريع.

   كانت وردة قد ألقت عن رأسها طرحتها السوداء فوق الرمال وهي تجري نحو قبب الشهداء، فأمسكها نصر الدين وشمها. كان لها ملمس حريري ورائحة عطرة طيبة. ضحكت وردة ضحكتها الندية الجميلة فطاردها نصر الدين في الصحراءِ حتى وصلا هنا، حولهما قبب الشهداء والأضرحة، والموتى والشهداء. وردة تضحك ببراءة طفولية رائعة كأنها لا تدري شيئًا عن الموت، هل ماتت وردة أم لم تمت بعد؟ جرى نصر الدين ودخل وراءها أحد القبور ولكنه لم يجدها بالداخل، خرج مندهشًا فوجدها تضحك أمام قبر جديد. وهكذا ظل يدخل وراءها كل قبر فلا يمسكها، حتى بدا كأنهما طفلان صغيران يلعبان الاِسْتغماية في أرض الموتى. وفي النهاية كان نصر الدين زار كل شهداء النبي مثل: مقام محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، مقام سيدي الحسن الصالح بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومقام محمد بن أبي ذر الغفاري، ومقام محمد بن عقبة بن نافع، وآخرين، فوق ما يزيد على أربعة آلاف قبر. وها هو قد شعر بالتعب أخيرًا ومع ذلك لم يستسلم، طاردها مرة أخرى ولكن بخطوات بطيئة تعبة وهي تدلف إلى المقام الأخير. للمقام مئذنة جميلة ملونة تطل من الجبل، تنادي الناس، هلموا إليّ، لكن الناس لا يلبون النداء. المقام بعيد ومنعزل في الجبل ومحاط بتلك الصخور الكبيرة التي تسكن أسفلها الثعابين والعقارب. دخل نصر الدين المقام فلم يجد وردة وإنما وجد رجلًا غريبًا يرتدي معطفًا أبيض وشم رائحة بخور طيبة. لم يعرفْ أن الرجل هو صاحب المقام والكرامات، سيدي الطبيب المغربي أبو سمرة. غير أن الرجل قال بلهجة مغربية وابتسامة طيبة ودودة :”كيفاش؟ ، سنعالجك”.ابتسم نصر الدين سعيدًا واقترب. وضع الطبيب يده على صدر نصر الدين وقرأ بصوت جميل: “أَلمْ نشْرحْ لك صدْرك..“، فرأى نصر الدين حقولًا خضراء شاسعة لا نهاية لها.وظل ينادي على وردة فلم يجدها ولم يعرف أين هو وأين هي سوى عندما أغمضت جفونها فحَلّ الليل.

   كانت إيزابيلا تقف أمام مقام السبع بنات ولا ترى نصر الدين الهائم وهو يطارد طيف وردة بالمقابر. كانت تنصت لمريم العذراء وهي تحكي لها قصة السبع البنات اللاتي لا يعلم عددهن إلا الله وحده. تحررت هذه البنات القبطيات من خوفهن، حملن سيوفهن ولثمن وجوههن، وخرجن للحرب مع المسلمين ضد بطش الرومان حتى سقطن شهيدات جميعًا؛ فتحررت بعدها المدينة. وبعدها، اكتشف المسلمون أمرهن فبكوا موتهن كما لم يبكوا من قبل، ما كان لهم أن ينتصروا في الحرب لولا وجودهن وشجاعتهن؛ لذا شعرت إيزابيلا بالسعادة وهي تصافحهن جميعًا، ولم تفكر بأن تعدهن، هن كما يعرفهن الناس، حوريات المسيح السبعة الجميلات.

   ألقى الشيخ المناوي السلام على إيزابيلا ومريم العذراء فالتفتت إيزابيلا مندهشة. لم يكن سر دهشتها هو معرفة الشيخ بصحبة مريم لها- فالشيوخ يعرفون وهذا أمر عادي- ولكن سر دهشتها هو الثراء الفاحش البادي على الشيخ وقد عهدت الزهد من شيوخ الطرق. كان الشيخ يرتدي عمة كبيرة لم تر بحجمها وجلالها عمة أخرى من قبل، وعباءة زرقاء طويلة، وخاتمًا فضيًّا في اليد اليمنى. سألها الشيخ إن كانت تحمل رسالة له فأبلغتها كاملة، ولكن بلهجة عربية ركيكة فبدا على الشيخ عدم الفهم، ليس بسبب لهجتها وإنما بسبب فحوى الرسالة. سيُقتل؟ كيف؟ يا لها من بشرى عظيمة. ثم فكر بحزن، ولكن من القاتل البائس التعيس يا ترى؟ من؟ ابتسم وهو ينصت إلى همس الملائكة. يا لها من بشرى أخرى عظيمة. من يكون ذلك التلميذ؟ سيعرف بعد لحظات. هذا أمر رائع حقًّا.

   خلع الشيخ العمامة والعباءة الزرقاء والخاتم الفضي ووضعها فوق مقام السبع بنات؛ فبدت الدهشة في عيني إيزابيلا فأجاب دهشتها: “الموت اقترب يا بنيتي والزهد بوابتي الأخيرة للسماء”. وبعدها سارا معًا في الطريق إلى القافلة. وفي الطريق، ناداه طفل صغير قائلا: ” جدي يا جدي نسيت حاجتك”. حاول الشيخ إقناع الصغير أن يأخذها لكن الصغير خاف ووضعها فوق الرمال وهرب. تركها الشيخ بدوره وأكمل الطريق. لكن طفلًا جديدا ظهر ونادي الشيخ: ” جدي.. حاجتك يا جدي”. ووضعها على الرمال وجرى، وهكذا طوال الطريق. لم يأخذ أي طفل شيئًا، كانوا يعيدون العمامة والعباءة والخاتم الفضي ويجرون هاربين. ولاحظت إيزابيلا شيئًا آخر، كان الأطفال يتبعون الشيخ ويجمعون أثره فوق الرمال في جوالق، وعندما دققت النظر في الرمال وجدتها ذهبًا. ولم تعرف إيزابيلا أن الأطفال كانوا يعيدون الجوالق الممتلئة بالذهب أمام دار الشيخ الذي يستيقظ كل نهار ويجاهد للخلاص من الذهب القديم فيجمعون ذهبًا جديدًا، وهكذا دواليك.

   استعدت القافلة للتحرك مرة أخرى بعدما زودها الشيخ المناوي بالكثير من المال والزاد. وقف أهل القرية لتوديع القافلة وتوديع صديقهم جعفر وهم يبكون. تسلق بعضهم النخيل حتى يروا القافلة لأطول مدة قبل أن تختفي من أعينهم، لكن القافلة لم تتحركْ؛عطلها غياب كل من نصر الدين ويحيى. كان الأول قد نام في مقام سيدي أبو سمرة واستيقظ فجأة مشفيًا مبروءًا من شروده القديم وتذكر أمر القافلة فجرى عائدًا متعثرًا في الرمال، وأما الثاني فقد كان منشغلا لاهيًا عن السفر في جمع ذلك الذهب الملقى في الصحراء داخل تلك العباءة الزرقاء وقد ارتدى عمامة كبيرة وخاتما جميلا، وبعدما جمع أكبر قدر مستطاع قرر العودة أخيرًا إلى القافلة بخطوات حذرة بطيئة خشية أن يفقد حصوة ذهب واحدة. وهناك رآه الشيخ مرتديًا عباءته الزرقاء فسعد ونظر إلى السماء سعيدًا وممتنًّا. لكن الناس لم يسعدوا، بل غضبوا بشدة وهجموا على ذلك اللص وكادوا أن يقتلوه لولا أن أنقذه الشيخ من أيديهم وأمرهم بالابتعاد فانصاعوا. اقتر ب الشيخ من جمل إيزابيلا وأخبرها بأن رحلة ذلك الشاب قد انتهت؛ فابتسمت بسعادة، لكن يحيى لم يبتسمْ ولم يفرحْ بل اعترض؛ فقال الشيخ مندهشًا متصنعًا الخوف: “ماذا أسفل أقدامك؟” فنظر يحيى إلى الأسفل وتراجع للوراء قليلا فوجد ذهبًا وراء كل خطوة يخطوها فوق الرمال؛ فسعد بشدة وقرر البقاء.

   عاد نصر الدين أيضًا وحزن قليلا عندما علم بعزم يحيى على البقاءِ، ثم قال:” هو اختيارك”. ابتسم يحيى وسار مختالا أمام نصر الدين حتى يرى هذه المعجزة الجديدة فاندهش نصر الدين، وإن شعر بالشفقة في سره. ثم تصافح الاثنان وودعا بعضهما. ركب نصر الدين الجمل وعلت صرخة جعفر القوية فنهضت الجمال. وعلت فجأة أصوات أهل القرية وهم يودعون، حتى علت فوق أصوات رغو الجمال وهي تودع هذه الأرض الطاهرة. لاحظ نصر الدين أن هناك شخصًا جديدا قد انضم إليهم، ما كان للشيخ أن يأخذ أحدًا منهم دون أن يعطيهم البديل، وكان البديل فتاة تجل فوق جمل يحيى. ترتدي بردة سوداء مطرزة بخيوط زرقاء رفيعة، وتلثم وجهها بشال أسود. لم يظهر من الفتاة سوى عينيها. كان لها عينان خضراوان ساحرتان ومألوفتان.

***

   هذه المرة طال الطريق بنصر الدين وحده. كانت القافلة قد عبرت الكثير من الصحاري والحقول والبلدان، وزاروا الكنائس والمساجد ومقامات الصالحين مثل: دير العذراء الجنادة أبو تيج، ودير السيدة العذراء المحرق بأسيوط، ومسجد سيدي جلال الدين المحلي بسوهاج، ومسجد سيدي عبد الرحيم القناوي. لكن نصر الدين لم ير شيئًا من تلك الأماكن، كان شاردًا فيها ولا يرى أحدًا سواها، هي الفتاة الجديدة التي انضمت إليهم. هل هي وردة حقًّا؟ هل نسيت عينيها الخضراوين؟ تبدو هي ولكن كيف وقد داواه الشيخ المغربي في المقام؟ تبدو هي، وردة، محبوبتك وغايتك من السفر.

   طال الطريق بنصر الدين وحده، ظل ينتظر الفرصة المناسبة للاقتراب منها لكنها بدت بعيدة كالأفق؛ لأن جعفر لم يسمحْ بذلك. كان ظلها وملاكها الحارس، يسير حولها من كل الجهات، عن يمينها ويسارها وأمامها وخلفها، يحميها من حماقة ذلك الشاب العاشق. قال لنصر الدين: ” لا تقترب من البنية يا زول”، وقال أيضًا “هي دواؤك وأنت داؤها”، وأكملت إيزابيلا: ” حتى حين!”. لكن نصر الدين لم ينصت إليهم ولم يطعْ. وانتظر حتى توقفت القافلة بالقرب من النيل وشجر الصفصاف، وهنا وجد الفرصة التي ظل ينتظرها كثيرًا. ذهبت إيزابيلا لاستكشاف تلك القرية الجديدة، وجلس جعفر مع الرجال الثلاثة أمام النيل يقص عليهم بقية الحكاية، بينما بقيت الفتاة وحيدة في خيمتها. وتسلل نصر الدين إليها من ظهور الرجال ودخل خيمتها فرآها تتحول إلى مسخ، فأل سيئ أن ترى العروس قبل العرس. صرخت الفتاة وصرخ معها نصر الدين وهرع جعفر والرجال لنجدتها. أمسكوا بالشاب ودفعوه خارج الخيمة فوقع أرضًا ولم ير بعدها سوى الظلام؛ لقد عمي. وبالرغم من ذلك ظل يصرخ مع الفتاة بجنون، حتى هدأت حين عادت إيزابيلا ونامت فوق حجرها؛ فهدأ نصر الدين قليلا. وسأل جعفر عما حدث، ما قصة تلك الفتاة؟ هل هي وردة؟ لماذا مسخت ملامحها حين رآها؟ فأجا ب جعفر بحزن :” لن تراها قبل المقدر، ليس اليوم”. وبعدها ماذا حدث؟

   بعدهاَ. تركك أصدقاؤك يا نصر الدين وحيدا وأعمى في هذه القرية، ومضت القافلة بدونك إلى أسوان. لم يظلموك لكنك من اخترق الحجب. قالوا إن رحلتلك قد انتهت على أية حال، فقد كانت تلك هي الإشارة. حذرك جعفر مرة بعد مرة لكنك لم تطع. القاعدة الأولى في السفر هي: أطع دليلك، فلماذا لم تطع؟ لماذا اخترت أن تنهي رحلتك بيديك؟ قالوا إنك لن ترى شيئًا حتى مطلع الشمس، وقالوا أيضًا لا تبرح مكانك حتى ترى الطريق. وقالوا أشياء أخرى كثيرة هامة عن شيخك والشمس، لكنك لا تتذكرها. جاهد يا نصر الدين كي تتذكرها. جاهد يا نصر الدين. جاهد.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون