فصل من رواية “بيتنا القديم”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.رضا صالح

يذكر خالد أحداث طفولته كمن يراجع فيلما سينمائيا،حياة حقيقية، كل شىء محفور فى ذاكرته وله وزن وحميمية، حتى الأحداث السيئة، يذكرها كجزء من طبيعتة التى ربما كانت فى ظاهرها بائسة، ولكن حب الوالدين أضفى عليها جمالا وحلاوة مازال يستشعر مذاقها فى روحه كأنه غذاء يجتره ليبقى على استقراره وتناغمه الروحى عند اللزوم..

 أحداث تتراءى لخالد كالحلم، عمه محمود يصطحبه هو واخوته إلى النادى والحدائق والشاطىء، على قمة الخليج بجوار مصفاة البترول، مصيف به أعداد متناثرة من الكبائن الخشبية ؛ موزعة على ثلاثة أو أربعة صفوف، عندما يمر من أمامها كان يشم روائح البحر مختلطة بروائح الطعام الأثيرة المنبعثة من أبواب ونوافذ الكبائن، كانوا أحيانا يأخذون معهم أطباق الأرز الأحمر الشهى بالجمبرى المدفون مع قطع السوبيا وشوربة السمك الصيادية، والسلاطة والليمون،ينزلون فى الكابينة التى تملكها الشركة، كما كان عمه يقول لهم.

***

بالحجرة التى يقيم بها أيوب و أولاده سرير معدنى مرتفع بصورة ملفتة،له قوائم عالية، لم يدرك خالد أن هذا السرير يحمل تصميما مختلفا إلا بعد أن عبرت به السنون، كان أيوب ينام مع زوجته فوق السرير،وبينهما ليلى؛ بينما ينام خالد مع أخيه على تحت السرير، لم ينس خالد يوما منظر الدماء التى تفجرت من جبهة أخيه الأصغر على ؛ ساعتها نشب خلاف طفولى بين الأخوين ؛ اختبأ خالد تحت السرير؛حاول على اللحاق به ليأخذ بثأره منه ؛ اندفع راكضا تجاه السرير، صرخ فجأة  وقد اصطدمت جبهته بفخذ السرير الذى كان مختفيا بزاويته الحادة تحت الملاءة البيضاء، فى الحال اصطبغت الملاءة بالدماء و تحول لونها على الفور إلى اللون الأحمر القانى.يومها أحضرت جدته – من حجرتها – علبة البن، وكبست به الجرح العريض بجبهته، بعد أن قامت بتجفيفه بقطعة من القماش.

تذّكر أيضا – فى بعض أمسياته بعد ذهابه للنوم – آثار الدماء التى كان يراها فى أصابعه بعد أن يفرك بينها بقة أمسك بها وهى سارحة على قفاه أو قدمه أو باقى أنحاء جسده؛، ؛كان يفرح بالإمساك بها  واصطيادها أثناء امتصاصها لدمه، أحيانا تبدو جافة، وقد التصق بطنها بظهرها، قبل أن ترتوى بالدماء ؛أحيانا أخرى تكون مكتنزة ؛متورمة البطن، عندما يفركها تصبغ أصابعه باللون الأحمر؛كان يشعر بنشوى تسرى فى جسده.

***

كان أيوب يحكى لأبنائه نتفا مما يعرفه عن البيت الجديد ؛منذ حرب 1956 ظل اللون الأزرق لزجاج أبواب النوافذ والشرفات عالقا فى مخيلة خالد ؛عندما تدوى صفارة الغارة يتجمع أهل البيت بسرعة مهرولين أسفل المبنى،فى حجرة كان برناسوس قد بناها للبواب، لم يستمر البواب كثيرا، غادر بعد أن دار موظفو الحكومة على المحلات والبيوت لطلب دفع مبالغ تأمينية كانت عالية فى هذا الوقت ؛اختفى البوابون تدريجيا من أمام العمائر فيما بعد. 

 خالد يفضل أن ينام أسفل السرير؛عند حافته الخارجية، موقعه هذا كان يؤهله لرؤية والده عندما يصحو من نومه قبيل صلاة الفجر، لم يكن أيوب يوقد النور حتى لا يزعج أولاده أو زوجته ويوقظهم، كان فقط يكتفي ببصيص الضوء القادم من مصابيح الطريق، والداخل إلى الحجرة عبر فتحات الشيش؛ يقوم من سريره و يعتدل فى جلسته ؛ يهبط بساقيه، من مكانه كان خالد يرى ساقى والده المشعرتين وقد أنزلهما بهدوء على الأرض، وبحث بقدميه عن فردتى المداس ليضع قدميه فيهما، يتابعه خالد وقد قام أبوه ليفتح باب الحجرة  بهدوء، ويذهب إلى الحمام، مازال بصيص الضوء يتسرب إلى الحجرة من مصباح الطريق ؛ يسعد خالد بمتابعة أبيه وقد انعكست بعض صوره وخيالاته على الحائط، يتابعها بعينيه، يعود والده إلى الحجرة بعد قليل ؛ شعره منكوش إلى الأمام؛تتساقط منه قطرات الماء ؛ تنبعث رائحة الصابون الذكية فواحة بالحجرة؛ يغلق أيوب الباب وراءه، يتناول فوطته الكبيرة المعلقة على الشماعة خلف باب الحجرة، يمسح رأسه ورقبته جيدا، يعيد فوطته إلى مكانها،يرش وجهه ورقبته بماء كولونيا من قارورة مستديرة لها أنبوب طويل ينتهى بانتفاخ مطاطى، يضغط أيوب على الكرة المنتفخة  لتنثر عطرا ؛ يسعد خالد باستنشاق  رائحته العطرة، يقوم أيوب للصلاة، ويدعو بعدها بصوت خفيض : ” اللهم استرنا ولا تفضحنا و أعطنا ولا تحرمنا وعزنا ولا تذلنا و أكرمنا ولا تهنا ؛ اللهم افتح لنا أبواب رحماتك، واغفر لنا ولوالدينا وأصحاب الحقوق علينا،وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين”.

ينهض من على السجادة، يرفعها ويحضر الكنكة والكوب، يأخذهما فى يده، يفتح الباب ويخرج ليغسلهما و ويملأ الكنكة  بالماء ؛،بعد لحظات يعود، يضعهما على الكومودينو، ويشعل السبرتاية ويضع الكنكة عليها، يتجول خالد بعينيه ويتلذذ بمشاهدة الخيالات التى ترتسم على الحائط من ضوء السبرتاية،  يرى رأس أبيه وقد صار هائلا، ذراعه وقد بانت ضخمة وأصابعه طويلة علي الحائط ؛ والكوب فى يده و قد اقترب من حجم البرميل، يضع السكر فى الكوب ؛ يضع الشاى فى الكنكة، ينتظر قليلا حتى ترتفع السنة البخار وتتضوع رائحة الشاى منتشرة فى أنحاء الحجرة، يشمها خالد ؛ تسرى فى أنحاء جسده، يتشبع  بها رأسه وصدره، وهو فى مكانه أسفل السرير، يظن أبوه أنه مازال نائما، يضع  ملعقتين من  اللبن المركز من علبة نسلة بالكوب ويصب عليه الشاى،يسمع صوت الملعقة وهى تدور فى الكوب محدثة رنينا حلوا مميزا، يتغير لون الشاى بالتدريج، الرائحة  مازالت تتضوع فى الحجرة،يظل خالد متمتعا بها وبالنظر إلى تلك الخيالات، التى تخبو فى النهاية بعد أن  يطفئ أبوه الشعلة بوضع غطاءالسبرتاية فوقها.

أخيرا يتحرك أيوب بعد أن يسحب مفاتيح الدراجة من خلف باب الحجرة،ويفتح الباب ويغلقه فى هدوء، يفتر صدر خالد قليلا عندما يغادر أبوه الحجرة ؛ يظل معه بأذنيه وقلبه حتى يسمع صرير باب الشقة وقد أغلقه أيوب أثناء مغادرته.ينام خالد بعد أن يسرح مع خيالاته وأشباحه….

***

لضيق المكان كان أيوب يضع مقتنياته فى درج الكومودينو، من آن لآخر يفتح خالد الدرج ليجد فيه مظروفا منتفخا به صور السفن التى احتفظ  بها والده من أيام الكرانتينا؛ يحدق فى الصورة ويسأل والده:

هل نصنع نحن المراكب الكبيرة يا أبى؟

يجيب الأب:

لا يا بنى

من أين تأتى المراكب الكبيرة يا أبى؟

من بعيد..من أوربا وأمريكا

وهل فى أوربا وأمريكا ناس مثلنا ؟

طبعا يا بنى

ولماذا لا نصنع المراكب الكبيرة مثلهم؟

احتار الأب فى الرد وقال:

قوم.. قوم هات القلة لأشرب..

**

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون