فصل من رواية “الواحدة بتوقيت العاصفة”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 34
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد صفوت

صعدتُ إلى المبنى العتيق الذي يوجد المرسم في الطابق الثاني منه، تسحبت للداخل، بهدوء اتخذتُ خطواتي عبر الصالة الواسعة التي تتخذ شكل حرف L، جدران المرسم خالية تماما من اللوحات الفنية سواء التي اقتنتها سلمى من عيون الفن العالمي أو التي سبق أن ابتكرتها خلال مسيرتها الفنية والتي ظلت تزين جدران وأركان المرسم.

على أحد المقاعد كانت “كيتي” ترقد  جامدة ككلب أهل الكهف، لم تهرول ناحيتي، ولم تخرمش أظافرها حذائي، على منضدة مجاورة وجدتُ بعض الكـُتيبات الدينية، تصفحتها سريعا، لفتْ انتباهي عنوان إحداها “آداب النكاح في الإسلام”.

على مقعد سلمى الهزاز وجدتُ إسدالا أسود اللون. يبدو أن الأمور قد سارت بعيداً بالبجعة الثائرة دوما، والمنكسرة أخيراً.

بهدوء أخذتُ طريقي إلى الغرفة، وضعتُ أذني على الباب المغلق، يأتيني صمت الغرفة بارداً كصدفة توشوش في اذنيك بسر غامض، بحذر وببطء أفتح الباب المغلق، بالتأكيد أعرف ما يحويه الداخل، لأنني أحد صـُناع الحدث، رغم ذلك هالني المشهد، كأنني لم أكن متورطاً فيه منذ البداية، شادي منفرج الساقين، يقبض على طبنجة حازم الميري بيد متكلسة، يبسط ذراعه على امتداده، يحدق بعين واحدة ذاهلة، العين الأخرى مغلقة، يتخذ وضع التصويب، يضغط على شفتيه بمقدمة أسنانه، رغم خرسه أسمعه يزوم، غضب يتقلى بداخله على جمر، لكنه ليس كافياً ليدير الماكينة الباردة، ليشعل الحركة بالتمثال العاجز. 

ما أقسى اللحظة ساعتها يا شادي!

أنا عشتها معك، تسمرتُ عند الباب كما تسمرتَ حين رأيتَ، صعقني تيار الصدمة وأنا الذي كنتُ أعرف ما لا تعرفه، كدتُ أتقيأ حينما بدأنا معاً نستوعب تفاصيل المشهد، سلمى كانت تحت، وحازم يجاهد ليبقى راكبا، أنا لم أشاهد القلم في المحبرة، رأيت القلم منتفخاً في العازل، والمحبرة مغرورقة بالدموع.

 هناك مفاجأة لك يا شادي لن أفصح عنها الأن ، ربما سأفعل حين تطلق النار.

  توقفتُ اليوم يا “يوسف ” عند مقالك الأخير في الصفحة الأخيرة بالصحيفة التي ترأس تحريرها، مقالك يدشن للعصر الجديد، ويبشر بالفجر المشرق، وبالخير الموعود الذي ينتظر هذا البلد الذي عانى طويلا دون أن يجد من يحنو عليه.

أعتقد أنني قرأتُ هذا المقال لك قبل عامين أو ما يزيد، ربما لم يتغير فيه سوى بعض الاسماء وبعض التفاصيل القليلة، هنا مثلا تستعين ببعض أقوال ناصر الخالدة عن الكفاح وإعادة البناء، مـُستلهما في الوقت ذاته روح القومية العربية، وما تعانيه المنطقة من مؤامرات عالمية كبرى، في مقالات سابقة كنت تستلهم التجربة الإسلامية ومشروعها القائم على العدل والمساواة مـُبشرا بمشروعها الضخم من أجل النهضة.

لم أعد مندهشا من قدرتك العجيبة والغير محدودة على تغيير مساحيق ومكياجات وجهك وسرعة إزالتها والتخلص من أثارها ورتوشها تمهيدا للشروع في عمل فول ميك اب جديد بما يتناسب مع الموضة الرائجة، دهشتي نابعة فقط من قدرة الناس على النسيان، ربما هم متورطون معك بشكل يسمح لهم تمرير ذلك في هدوء.

أعتقد يا نزار أن مأساتك تجسيد حي للربيع العربي أو ما يسميه سيادة العقيد “الخراء “

 أنت حتى الأن لا تعرف أين تكون أسرتك، ولا إن كانتْ حية ترزق أم سوتها الغارات بالأرض؟، لكن صدقني ماذا يمكن أن ينتج عن أنانيتك ونذالتك سوى أن تظل هكذا إلى الأبد حائرا قلقاً؟

سيادة العقيد بعريه وشحمه، مجرداً من برستيج المهنة، دون النسر والنجوم والكاب والطبنجة التي ليستْ في حوزته الآن، والأهم أنه هنا في غرفة سلمى، وليس في مبنى الجهاز، يفترش الأرض لأن ذائقته الجنسية تفضل هذا الوضع الذي يتيح له أن يلتهم فريسته على رقعة أوسع من مجرد سرير.

ما رأيك يا سيادة العقيد في هذا النوع المبتكر من التعذيب؟

قضيب مـُشرع في الهواء كملعقة، ينظر بعينه الواحدة إلى طبق مجوف بجواره لطالما تمنى أن يغترف منه، أن يلحس قعره، لكن الملعقة لا تطول الطبق، يسيل اللعاب ويبقى الجوع. تحترق الأحشاء ويظل النهم، قضيب مثل مسلة شامخة، ترتكز في وقفتها الأبدية على قاعدتها دون أن تستطيع الحبو لتسرح على هذا الجسد العاري الذي يستفز خيالها.

 ربما هذا أشد تنكيلا من ربط الضحية في مروحة السقف، وأكثر وجعاً من وضع قضيب الحديد في المؤخرة.

أعترف تماما يا سلمى أنني لم أكن في البداية أتوقع أن يحدث ذلك، بل لم يكن خيالي يجرؤ أن يتصور أن هذا قد يحدث في النهاية، أنا لا أقصد الخطيئة، الخطيئة فعل إنساني مـُحتمل في كل لحظة، أقصد هنا الخيال الفاجر، السياق حين يصبح فجاً، فيدفع أجسادنا المـُلتهبة بالقروح في بحر من الكحل، هنا لا يتولد الألم فقط، تنفجر أيضا الإثارة، وليس هناك ما هو أشد إثارة وألما في ذات اللحظة من أن تفتح سلمى ساقيها للعقيد حازم الشناوي على وجه الخصوص.

صدقيني أنا الآن أشعر بكل تلك الإثارة وبكل هذا الألم كأني مغموس في بحر الكحل.

شىء ما تغير في نظرة عينيكِ، شىء ما لا أستطيع تحديده، هي ليستْ هذه العين الشقية، ليست هذه النظرة الخاطفة التي أفقدت شادي توازنه حينما شاهدك لأول مرة في برلين.

كيف يبدو جسد فراشة محترقة ؟

أطوف حول جسد سلمى في رقدته المتجمدة، الجسد الرشيق في قميص مفتوح الأزرار يكشف عن كل تلك المنطقة الشاسعة الناعمة ما بين جيدها إلى ما فوق عانتها، وهي المنطقة التي يمرح بها نهدان مدببان صغيران بين مفرقيهما تتأرجح سلسلة من الفضة ورثتها سلمى عن أمها، وكانت تحرص أثناء علاقتها الحميمة مع شادي أن تلفها حول رأسها أو تضغط عليها بفكيها.

لم أكن أعلم قبل ذلك أن جسد الفراشة المحترق يزداد بهجة ووهجاً.

  لا أعرف كيف أقنعتِ جسدك الحر بأن يقبع تحت القماش والنقاب؟

وكيف تخلصتِ من شغفكِ القديم بالتخفف من ملابسكِ؟

أنا أعرف أنكِ كنتِ تفضلين أن تتعري تماما عندما تكونين وحيدة، كنتِ تشعرين بحريتك أكثر، تاريخ الثورات يحفل دائما بامرأة تتعرى، بنساء يكشفن صدورهن للهواء الطلق، بنهود تتمرد على قيود “البرا” وأغلال حمالات الصدر.

لكن التاريخ لم يذكر لنا ماذا حدث لتلك الأجساد الحرة حين ارتدتْ الثورات على أعقابها.

في طوافي حول جسد سلمى أتابع من الخلف ما يبدو مثل نصف قبة واضحة، النصف الآخر مطمور بفعل جلستها، مؤخرة سلمى مـُستديرة كطبق، ملفوفة مثل إسطوانة، تشب لأعلى، مكسوة في غير امتلاء ملحوظ وهو ما يختلف كلية عما جاء في وصفي الأول المغلوط.

“لها ردفان ممتلئان، مما يجعل هيئة مؤخرتها المكتنزة تأخذ شكل الانحناء إلى الأسفل تحت ضغط امتلائها، وهو ما يؤدي إلى عدم اتساق هذه المؤخرة مع رشاقة باقي أجزاء جسدها “

يبدو أن الجمود يتيح لك أن ترى الأشياء بنظرة أعمق، الإستاتيكا دائما مدهشة.

“أنا لا أعرف هل أنت هنا أيها المناضل العظيم، قطب اليسار والناقد الكبير د. شاكر عودة من أجل التنظير كالعادة لهذا المشهد الفج الذي تبدو عليه تلميذتك التي أوشيتْ بها؟

أنا لا ألومك يا سيدي، وأقدر تماما معاناتك، لكن هذه اللحظة لا تحتمل التنظير، وأنا لستْ هنا من أجل اجترار ذكريات موجعة، أنا هنا في محاولة أخيرة لأنقاذ العالم من الجمود.

لن ينقذ العالم سوى خيال عميق يطرح نهاية جديدة لحكايتنا هذه.

أنت لن تطلق النار على أحد يا شادي، عليك أن تفكر في هذه اللحظة التي تقبض فيها على الطبنجة بعمق  ليس في مصيرنا هنا  فقط بل في مصير الإنسانية كلها إن استسلمت كعادتها للخيال البائس الذي يفرضه عليها دوما سياقها.

 أنت لا ينقصك الخيال ولا برود عالم الفيزياء.

إليكم هذا التتابع الذي يمكن أن يخرجنا من ورطتنا، ويعيد للعالم تدفقه ثانية.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون