فصلٌ من “قانون البقـاء” .. لـ عمرو عاشور

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عمرو عاشور

من (السيرة الذاتية للسيد "ز")

 

(4)

أيام الإجازة نحمل التليفزيون الصغير ونصعد به إلى فيلا عثمانة… الفيلا في الأصل حجرة واحدة، تقع في الدور الثاني بين شقتين، شقة إصلاح وشقة عمرو الشبح. كنّا في عهدنا الأول نسكن بتلك الغرفة، أنا وناجي والراوي وأمي، أمي شافت فيها الويل. وكانت الحجرة بلا حمام فنضطر إلى التبول والتبرز على خط السكك الحديدية، وكانت أمي تحممنا في الطشت، وتحمله فوق رأسها لتدلقه على السكة وهي ترفع رأسها لأعلي وتدعو: “شقتي عندك يا رب”.

وكدنا أن نتعفن بتلك الحجرة لولا أنها دبرت قرشين واقنعت جدتي أن تترك لنا شقة الدور الأرضي، فوافقت بعد توسل مهين. واتخذ عثمانة من تلك الحجرة مكانًا لتحقيق أحلامه العجيبة، هو في الأصل طالب جامعي بكلية فنون جميلة غير أن طموحه تجاوز الفن. وقد حول الحجرة إلى متحف حقيقي، علق لوحه على بابها “فيلا محمود عثمانة” وبالداخل فرش فيلته المزعومة بالموكيت، ورصع الحوائط بأسلحة بيضاء وأخرى مزيفة كان قد اشتراها من سوق الجمعة، ولم ينسَ أن يثبت ذئبا محنطا على الباب، وصقرا عند النافذة الصغيرة. وكان شديد الاهتمام بالفيلا، بأناقتها ونظافتها، وكان يجبرنا على خلع الأحذية، وغسل القدمين قبل أن يسمح لنا بالدخول، أما الجلوس على السرير الوحيد فهو أمر ممنوع قطعيًا… في الحقيقة كانت هناك قائمة طويلة من الممنوعات والمحظورات كأي متحف محترم: ممنوع اللمس، ممنوع الجلوس إلا على الأرض، ممنوع الأكل، ممنوع الكلام بصوت عالٍ.
كنّا ننفذ تعليماته حرفيًا في مقابل أن يتيح لنا أن نأتي بالتليفزيون ويأتي الشبح بالفيديو ونتشارك في تأجير شرائط الفيديو. وكانت الأفلام في معظمها أفلام رعب كما يحب الراوي ويهوى، وأكشن كما يفضل عثمانة، وكوميدية كما أرغب أنا وناجي.

يضع ناجي التليفزيون على الترابيزة بحرص، يوصل الأسلاك ويتأكد من كل وصلة… ويبدأ العرض، نتكوم جميعًا أمام الشاشة الصغيرة، في حين ينفرد الراوي بالسرير رغم أنف عثمانة، ونتابع ما يدور بسعادة وشغف.

يدق الباب، يفتح عثمانة، يظهر عبده ابن عمتي، يخلع حذاءه ويدخل. نفسح له مكانًا، فيجلس ويشاهد بفتور، بعد دقائق يقوم، ويقول:

– أنا هنزل أجيب لكم حاجة أحسن من كدا.

ويخرج… نستكمل نحن الفيلم، يتلذذ الراوي برؤية الموتى الأحياء وهم يتحلقون حول فتاة، ينهشون في لحمها، الفتاة تصرخ وتستغيث، والراوي يضحك، كأنه يشاهد فيلمًا كوميديًا، المشاهد الدموية تسعده وتريح أعصابه وتفتح شهيته للحياة! مرة أخرى يدق الباب ويدخل عبده من جديد، يرفع طرف الفانلة فنلمح الشريط الأحمر محشورا بين البطن والحزام، ينتشله ويقول:

– فيلم سكس.

لم يكن أحد منا قد شاهد فيلم بورنو من قبل. حتى الراوي نفسه. كنّا نعتبر أفلام نادية الجندي وشمس الباردوي أفلامًا إباحية، وكان فيلم “المغتصبون” لـ ليلى علوي هو أكثر الأفلام إثارة بالنسبة لنا. على الفور نستبدل الشريط، لم يعترض أحد، حتى الراوي لم يمانع، نرجع لجلستنا القديمة وننتظر العرض: تنزل التترات على حديقة فيلا، فيلا حقيقية هذه المرة، الوقت ليلا، يتحرك شبح بين الأشجار، يتسلق شجرة، يقفز من عليها بمهارة ويقبض على سور البلكونة، يقف، رجل في بدلة أشبه ببدلة الغطس، طبقة رقيقة سوداء تغطي جسده كله، ووجهه أيضًا، يكسر زجاج البلكونة ويدخل، في حجرة النوم تتقلب امرأة تجاوزت الثلاثين في قميص نوم قصير “بيبي دول”.. اللص أمام خزينة يحاول فتحها، جرس إنذار يضرب في غرفة المرأة، تنتبه من نومها، تفتح الدرج، تلتقط مسدسا ضخما، وتخرج. اللص لا يزال يحاول ويبدو أنه يواجه أمرا معقدا، تنغزه بفوهة المسدس في ظهره، يرفع ذراعيه، تطلب منه أن يستدير، يلف ببطء وحذر، تتكلم معه -الفيلم غير مترجم- قبل أن نخمن المحادثة تكون هي قد مررت فوهة المسدس على صدره ثم نزلت بها على بطنه ثم وصلت لبتاعه! وبتاعه بدا منتفخًا وبارزًا تحت الملابس الغريبة. تنحبس الأنفاس، وتكاد أعيننا تنخلع من فرط التحديق. تسقط على ركبتيها، تطلع بتاعه! هنا لم نتمالك أنفسنا من الدهشة والسعادة، صيحة جماعية تخرج منا، وشغف لرؤية المزيد. بحركة واحدة تنزع عنها قميص النوم فتصبح عارية تمامًا، يفور الدم في أدمغتنا، ويقوم ناجي ويقترب من الشاشة حتى يكاد أن يلتصق بها، ويمد أصابعه في محاولة يائسة للمس النهد النافر غير أن شخطة من الراوي.

– اقعد يا ابن القحبة مش عارفين نشوف.

يعود إلى مكانه. ونشوف الفيلم في طقس عائلي لمرة وثانية وثالثة. ويغط الراوي في نوم عميق. ويصنع كل واحد منا قرطاسًا ويعصر بتاعه، أوجه السيد “ز” ناحية الدعك، وأقول له: شوف يا أعور واتعلم.
كنّا قد بلغنا الحلم من عدة أعوام، وقد احترفنا جميعًا ضرب العشاري حتى أدمنّاها وتفننا فيها، أما عبده فقد كان أصغرنا، طفلًا لا يزال أو هذا هو المفترض. ينتفض عبده مرة واحدة ويصيح:
– هاتولي قرطاس.. أنا حاسس إني هبلغ دلوقتي حالًا.

نضحك على عضوه الصغير، بتاعه في حجم عقلة الإصبع أو أصغر قليلًا. يشرع في دعكه ويرتعش.
– مش قادر.. مش قادر.. حاسس إني هجيبهم.

نترقب جمعيًا الحدث إلا عثمانة، بسرعة البرق يصنع له قرطاسًا ويمده نحو عقلة الإصبع.
– نشن هنا.

وعبده يصرخ ولا يتوقف عن الدعك.

– مش قادر.. مش قادر..

وينشن على القرطاس فيخرج خطا طويلا من البول يغرق عثمانة والموكيت ويطرطش علينا. نغرق في ضحك جماعي، ويستشيط عثمانة غضبًا ويثور.

– يا ابن ديك الكلب.. ينعل ميتين أبوك.

وينتبه الراوي من غفلته مذعورًا..

– فيه إيه؟

نسكت، ونكتم الضحكات. يلقي نظرة على الفيلم الدائر.

– اطفوا القرف دا بقي وناموا..

ونغلق الأجهزة، وندعي النوم، وكل واحد مشغول ببتاعه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري، والرواية تصدر قريبًا عن دار العين

مقالات من نفس القسم