فصلٌ من رواية “مون تـايجر” لـ بينلوبي لايفلي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 6
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لا أستطيع أن أكتب عن مصر بتسلسل زمني. مصر القديمة. مصر القديمة المزعومة. في تاريخ العالم الذي أكتبه – هذا التاريخ الواقعي بمنظور المشكال – سوف تكون لمصر مكانتها الصحيحة بوصفها قوة واثقة، لا يمكن تدميرها، خلَّدت ذاتها على شكل كميات من الأحجار المنحوتة، والجبس المرسوم، وورق البردي، والجرانيت، والورق المذهب، واللازورد، وقطع من الفخار، وشظايا من الخشب تكفي لملء متاحف العالم. لم تكن مصر مؤثرة آنذاك فقط، ولكن الآن أيضًا، تؤثر في الطريقة التي ننظر بها إلى الأشياء. صورة أبي الهول معروفة حتى لأولئك الذين لم يسمعوا من قبل عن الفراعنة وعن الأُسَر؛ وعمارة الكرنك الوحشية مألوفة لكل من نشأ مع عمارة فترة الثلاثينيات.

كنت أعرف مصر مثل أي شخص آخر، حتى من قبل أن أذهب إلى هناك. وحينما أفكر فيها الآن – إذ أفكر في الطريقة التي سأذكر بها مصر في قصة العالم – يجب عليَّ أن أفكر فيها بوصفها ظاهرة لها استمرارية، سكان مصر الفرعونية الذين يرتدون المآزر يتدفقون إلى وادي النيل في القرن العشرين، العربات الحربية، وزهور اللوتس، حورس ورع وإيزيس جنبًا إلى جنب مع المساجد المملوكية، شوارع القاهرة بضجيجها، ناصر وسده العالي، القوافل العسكرية باللون الكاكي عام 1942، القصور التركية التي لها ترف العصر الإدواردي. الماضي والحاضر لا يتعايشان في وادي النيل بقدر ما يفقدان معنييهما كلية. ما هو مدفون تحت الرمال منعكس فوقها، ليس فقط في التذكارات التي يبيعها أحفاد سارقي المقابر، لكن في دورة الطبيعة الأبدية المتمهلة – شروق الشمس من الصحراء في الشرق لتغوص في الصحراء في الغرب، تدفق النهر في الربيع، تكاثر الكائنات – في البلشون الأبيض، ومالك الحزين، والإوز البري، الحيوانات التي تحمل على ظهورها أثقالًا، والفلاحين الباقين على مر الزمن.

قابلت في فندق رمسيس هيلتون، منذ سنوات عدة، رجلًا كان أكبر موزع على مستوى العالم لصهاريج الصرف الصحي. أو هكذا كان يدَّعي. كان من ولايات الغرب الأوسط الأمريكي، وعلى وشك التقاعد، وكان واحدًا من تلك المجموعة من الأمريكيين الذين بلغوا سن الشيخوخة ويسافرون بحرية، بلا قيود أو مسؤوليات، ويتدفقون في الفنادق من دبلن حتى سنغافورة. لم يكن الرجل مرتبطًا، وتعرَّف إليَّ في البار بعد أن ظن أنني على شاكلته. قال وهو يريح مقعدته التي اكتست بالبوليستر على المقعد المجاور لي: “ما يحيرني في أمر أولئك الأشخاص هو الإصرار. دعيني أشتري لك شرابًا. دعك من الإنجاز الهندسي، وصدقيني هذا أمر بالغ الأهمية في حد ذاته. لكن ما يثير إعجابي هو الإصرار. كل ذلك، حتى تجهز لنفسك مكانًا كي تدفن فيه.” تركته يشتري لي كأسا من الويسكي، وسألته ما إذا كان يهاب الموت. “بالتأكيد أهاب الموت. الكل يهاب الموت، أليس كذلك؟” “المصريون لم يكونوا يهابونه. كان يهمهم بقاء الروح. أو الخلود – سمِّه ما شئت. ليس هذا ما يجعلهم متفردين، ومع ذلك فهو أمر فقدنا اهتمامنا به كثيرًا هذه الأيام.” نظر إليَّ بشك – نادمًا على الويسكي الذي اشتراه لي؛ كان بلا شك يتساءل عما جلبه على نفسه. “هل أنت أستاذة من نوع ما؟” “لا، أنا سائحة مثلك. ما الذي تعمله أنت؟” لذا أخبرني بأمر صهاريج الصرف الصحي، وأقمنا علاقة لا يمكن إطلاق لقب صداقة عليها بقدر ما كانت نوعا من التحالف الغريب؛ لأنه كان رجلًا نشيطًا أمينًا، ولا ينقصه الفضول، ويحب أن يجد من يحادثه، وأنا كنت – لست وحيدة، فلم أكن أشعر بالوحدة قط – كنت وحدي. وهكذا ذهبت للمرة الثانية بعد أربعين عامًا بصحبته المتنافرة مع المكان إلى الأقصر، إلى وادي الملوك، إلى إسنا وإدفو. إلى الأهرامات، والقلعة، وإلى شاطئ النيل بجوار كوبري قصر النيل؛ حيث لم يعد هناك وجود لكاتدرائية سانت جورج التي صليتُ فيها يومًا ما، وحل محلها شبكة كباري علوية صاخبة لمرور القاهرة الذي لا ينتهي. لا أهمية له الآن، الأمريكي – لم أعد حتى أتذكر اسمه – مثل ضابط المدفعية على شرفة فندق شيبرد، لكنه مثله أيضًا مرتبط للأبد بمكان معين، وزمان معين. حكايته – أيًّا ما كانت تلك الحكاية – ارتبطت بحكايتي لفترة قصيرة من الزمن. في حكايتينا هناك جدار معبد نقف أمامه، وقد ضيَّقنا أعيننا من شدة وهج السماء فوقنا، بينما تتوالى المَشاهد المعقدة المنقوشة نقشًا بارزًا في الصخر لتحكي حكايتها – سِجِل للدماء المسفوكة. هناك جنود نصف عراة تُقطَّع رؤوسهم، ويُطعنون بالرماح، ويُدهسون بالعربات الحربية. تتكرر هذه المشاهد على الجدران الثلاثة الأخرى بارتفاع عشرين قدمًا أو ثلاثين. يشرح المرشد أن هذا تسجيل لانتصارات الفرعون العديدة على أعدائه واحتفال بها في آن واحد. وبالفعل، هناك صورة الفرعون متكررة، أكبر من كل الآخرين، يقود عربته الحربية بيسر، يمسك اللجام بيد، والسلاح باليد الأخرى. الجثث تملأ المكان. يعلِّق رفيقي: “يا له من رجل قاس! كنت أعتقد أنه كان من المفترض أن يكون الإله بالإضافة لكونه الملك؟ إذًا، كيف كان مسموحًا له بالمضيِّ في إبادة الناس هكذا؟” أسأل: “وهل هناك تناقض بين الأمرين؟” يشرح المرشد كيف أن الهيئات ذات الرؤوس المقطوعة التي نشاهدها غالبًا ما تُمثِّل وحدات – آلافًا أو عشرات الآلاف – وأنه نظام لتسجيل عدد الأعداء الذين ذُبِحوا. يقول الأمريكي: “يا إلهي! يا لها من مذبحة مروعة. أعتقد أن الظروف كانت قاسية عليهم بما يغنيهم عن أن يضيفوا للأمر ذبح بعضهم بعضًا.” نقف ونتأمل المذبحة الصامتة. يقول الأمريكي: “كنت في فرنسا عام 1944. لم أر القتال، لكنني رأيت ما يخلفه. إنه ليس مشهدًا جميلًا، دعيني أخبرك ذلك.” لا أهتم بأن أخبره بأنه لا حاجة به إلى ذلك.

كان مقلب قمامة رمليًّا لامتناهيًا، وكأن يدًا مهملة ضخمة أمطرت فوقه حطام ألف ساحة خردة – هياكل المركبات المحترقة، أكوامًا من الإطارات القديمة، صفائح الوقود الفارغة، الصفائح الصدئة، ألواحًا من الحديد المموج، أسلاكًا شائكة متشابكة، وفوارغ الطلقات. كل هذه النفايات ترقد وسط فوضى الصحراء الطبيعية، الشجيرات الهزيلة التي تبدو خالية من كل أثر للحياة، وتتناثر بلا حدود من الأفق إلى الأفق. المساحات الوحيدة الخالية هي الطرق التي تسير فوقها من وقت إلى آخر صفوف الشاحنات أو الدبابات، وقد حُدِّدت جوانبها بصفائح الوقود الفارغة.

كانوا يتبعون طريقًا من هذه الطرق لمدة ساعتين الآن. لكن بالرغم من ذلك، كان من السهل فقدان الطريق وسط فوضى آثار الإطارات وعلامات الإرشاد غير المنتظمة. وحينما كان ذلك يحدث، كان السائق، وهو رجل من لندن ضيئل الحجم ونحيل لكنه قوي، وقد اسمرَّ لونه حتى صار مثل الكسترد المحترق، يقود معتمدًا على مزيج من قراءة الخرائط والتخمين. اتضح أنه كان يقود سيارة أجرة قبل الحرب، وكان يعامل الصحراء بألفة يشوبها احتقار، وكأنها صورة منعكسة في قصة خيالية لخريطة لندن. وحينما كانوا يلتقون مع مركبات أخرى، كان يصيح في وجه الريح بأسئلة ومعلومات. كان الجميع يبحث عن شخص آخر أو عن مكان آخر. كانت هذه المنطقة في مركز العملية الأخيرة التي تبعثرت خلالها الوحدات؛ كانت الطبيعة مليئة بالآلاف من الرجال الذين كانوا يحاولون إعادة تنظيم أنفسهم.

تجلس كلوديا بجوار السائق. كان جيم تشيمبرز من صحيفة “أسوشيتد نيوز” يجلس في الخلف مع مراسل من نيوزيلندا. عند الحديث، كان يجب عليهم الصياح بصوت يعلو فوق ضجيج محرك الشاحنة. تشعر كلوديا أن كل عظام جسدها قد تخلخلت، وعيناها حمراوان، وبهما ألم حارق من الأتربة. يحذرها السائق، الذي يشعر بالرغبة في حمايتها ويجد أمر هذه الراكبة الاستثنائية مسليًا، ويطلب منها أن تربط وشاحًا بين رقبتها وفتحة ملابسها، وإلا فسوف تصاب بقرح الصحراء مثل الجميع.

كانوا يتجهون نحو مقر قيادة الفرقة السابعة من سلاح المدرعات، وكان السائق يشعر بالقلق ويرغب في الوصول قبل الغروب. كانوا قد سلكوا الطريق الخاطئ مرة، وانغرست سيارتهم في الرمال الناعمة ثلاث مرات وقد خرجوا عن حدود الطريق تمامًا. حينما كان يحدث ذلك، كان السائق يُطلق السباب، ويقفز خارجًا، ويُخرج الأشولة، وكان الجميع يشتركون في العملية الشاقة، ويتعرقون وهم يحفرون.

يشير إلى دبابة. “واحدة من دبابات الألمان. احترقت في عملية التقدم الأولى. أتريدين إلقاء نظرة، آنسة؟”

يخرجان من الشاحنة ويسيران تجاه الدبابة. كانت هيكلًا أسود كريه الرائحة. ترقد مائلة على أحد جانبيها، وقد انغرست في كثيب رملي. ترامى حولها المزيد من الحطام، بقايا صغيرة لها طابع شخصي – علبة طعام، خطاب ممزق يتطاير مع الريح، عبوة بسكويت يخرج منها صف أسود منتظم من النمل، ويسير تجاه صخرة. يلتقط جيم تشامبرز بعض الصور.

كان هناك ضجيج مستمر. وحينما تمر الطائرات فوق رؤوسهم – طائرات نقل ومقاتلات – تزأر السماء بأكملها. من وراء الأفق تأتي أصوات ضربات غير واضحة، وبين حين وآخر تتصاعد لمعة فضية لطلقات من حافة الأفق، أو انفجار مسدس استغاثة نارية. ويتصاعد الدخان من الطبيعة بأكملها. المركبات المحترقة يتصاعد منها الدخان الرمادي مع الريح، وتندلع من خط الأفق نفثات بيضاء، ويرتفع عمود من الدخان الأسود إلى يمينهم حيث تم تفجير ذخيرة العدو التي استولوا عليها. يتصاعد الدخان والتراب إلى الأعلى معًا، وكل شاحنة، أو سيارة، أو دراجة نارية تخلف وراءها أثرها الخاص من التراب البرتقالي. على البعد، يظهر صف من الشاحنات، يخفيها الغبار لدرجة أنه لا يظهر منها سوى هيئاتها تزحف عبر المخلفات، وتستحضر برية أخرى وزمنًا آخر – عربات مغطاة تجرها الخيول عبر البراري. وحينما تقترب سحابة أخرى من الغبار بدرجة كافية لتكشف عن خطوط دبابات، فإنها تبدو أيضًا وكأنها شيء آخر – أبراج سفن معقدة عالية الارتفاع وسط المحيط، تكمل هيئتها الرايات الزاهية.

يصيح السائق: “سنتوقف لتناول الشاي. أريد أن ألقي نظرة سريعة على الخريطة.” يصعدون تلًّا قليل الارتفاع، يقع على قمته خندق به مكمن للمدفعية مغطى بشباك للتمويه وأكياس متناثرة تتسرب منها الرمال. يشكِّل هذا ملجأ مفيدًا للهرب من الرياح التي أخذت تشتد. يشعلون النار داخل صفيحة مليئة بالرمال المشبعة بالبنزين، ويغلون الشاي في علبة طعام معدنية. “أتريدين الشاي يا آنسة؟” تجلس كلوديا وهي تشرب الشاي وتحملق من أعلى أكياس الرمل إلى الوادي الضحل في الأسفل من حيث أتوا؛ تتساءل مَن كان يرقد هنا قبل بضعة أيام وهو يحاول قتل شخص آخر. كانوا قد مروا قبل قليل بثلاثة صلبان انتصبت في صف بجوار هيكل شاحنة محترق. كان بجوار واحد منهم خوذة معدنية، وقد كُتبت عبارة على لوح الخشب الخشن: “العريف جون ويلسون، قُتِل في الحرب.”

يعتقد السائق أنهم مقدمون على عاصفة رملية لعينة – “عذرًا لألفاظي، آنسة”. يصعدون إلى الشاحنة مرة أخرى، وينزلون إلى الجانب الآخر من التل؛ حيث تكرِّر الطبيعة التي مروا عليها في الساعة الماضية، وفي الساعة التي قبلها أيضًا، نفسها. معالم الطريق غير واضحة، لكن السائق يتجه نحو هيئة سوداء ملطخة بعيدة لمركبات أخرى تتضح صورتها عندما يقتربون منها، وتظهر على أنها شاحنتان للصليب الأحمر، تقفان بجوار هيكل دبابة. ترقد لفافة بالقرب على نقالة. يتسلق الرجال الدبابة. يتوقف السائق ويقفز خارجًا، وكذلك يفعل جيم تشامبرز والنيوزيلندي. يقول جيم تشامبرز لكلوديا، التي تتجاهله: “سأبقى حيث أنا يا فتاة، لو كنت مكانك.” يسيرون نحو الدبابة، وترى الآن أن الهيئات التي اعتلت الدبابة تسحب منها ما يبدو أنه كان رجلًا، شيئًا أسود، بجمجمة محطمة، وشظايا عظمة بيضاء لامعة مكان الذراع. تفوح رائحة احتراق وعفونة. ترقد لفافتان أخريان على نقالتين في شاحنة الإسعاف من الخلف؛ حيث يصف سائقها الطريق لسائقهم. يبدو أنهم جميعًا قد خرجوا عن حدود الطريق. كان هذا المكان مسرحًا لإحدى معارك الدبابات في الأسبوع الماضي، وكانت الأرض مليئة بالعلامات المتقاطعة لمساراتها التي تشبه المحراث، وتمتد بعيدًا إلى كل الجوانب، فوضى صامتة تشهد على ما حدث هناك.

يصعدون إلى الشاحنة مرة أخرى. كانت الريح تهب محملة بالرمال بشدة حينئذ؛ زالت حدة وضوح الرؤيا، ولم يعد بإمكانهم رؤية الأفق. يضع السائق نظارات واقية، ويجد زوجًا منها لكلوديا. يستمرون في التقدم وسط الظلمة، ويتوقف السائق بين حين وآخر ليقفز خارجًا ويتفحص علامة من علامات الطريق، لكن مع الوقت تختفي صفائح الوقود الفارغة والعلامات الإرشادية تمامًا، ويتقدمون في الفراغ مع بعض علامات الإطارات التي تتفرق في كل اتجاه بين حين وآخر. تتطاير الرمال على شكل سحب. يصطبغ العالم بأكمله بلون وردي برتقالي متوهج؛ تستحيل الرؤية لأكثر من عشر ياردات أو خمس عشرة ياردة للأمام.

يستمرون في التقدم زحفًا وسط العاصفة الرملية. تتحول الأرض الصلبة إلى رمال أكثر نعومة، تبرز من بينها صخور غادرة تحتك بالشاحنة من الأسفل. يتخبطون، ويضطرون إلى التوقف مرتين للحفر وإخراج السيارة. وبعد المرة الثانية، لم يكادوا يواصلون المسير، حتى صدر صرير ارتطام من أسفل الشاحنة ارتجَّت على إثره وتوقفت. يقفز السائق خارجًا ويختفي أسفل الشاحنة. يعاود الظهور ليعلن أن محور العجلة الخلفي اللعين قد تحطم تمامًا.

الجميع، الآن، يطلقون السباب. النيوزيلندي لديه مقابلة رتب أمرها، ويرى أنها سوف تضيع إن لم يصلوا إلى مقر القيادة قبل حلول الظلام. السائق، الذي يبدو بوضوح أنه يعتبر كلوديا مسؤوليته الخاصة، يقول: “لا تقلقي، آنسة، سوف نوصلك إلى هناك.” تقول كلوديا التي لا تشعر بالقلق بالفعل: “لست قلقة.” ترفع الغطاء عن آلتها الكاتبة، وتجلس في مقصورة الشاحنة، تكتب، بينما تزأر الصحراء من حولها، بيضاء حينًا، صفراء حينًا، وردية حينًا آخر. يُخرج جيم تشامبرز قنينة ويسكي. يقول السائق إن هذا المكان قد لا يكون شارع بيكاديلي اللعين، لكن حتمًا سيمر أحدهم عاجلًا أم آجلًا، وإنهم غير بعيدين عن الطريق اللعين، وحينما تهدأ العاصفة الرملية سيمكنهم تحديد مكانهم مرة أخرى. تسأل كلوديا: “كيف تكتب كلمة متلألئ؟” يقول جيم: “لا تتباهي، كلوديا.” يعرض عليها السائق، وقد سلبته عقله تمامًا الآن، سيجارة.

تكتب كلوديا. يجب عليها أن تتوقف من وقت إلى آخر حتى تنفض الرمال عن الآلة الكاتبة. تكتب لأن الأمر ملائم لها من جهة، ومن جهة أخرى كي تتخلص مما انطبع الآن على مقلتيها. تحاول أن تضع في كلمات ما شاهدته وفكرت فيه. تكتب أيضًا لأنها منهكة للغاية، وعطشى، وجسدها يؤلمها، ومزاجها معتل، ولو لم تشغل نفسها بشيء فلربما يظهر عليها أثر كل ذلك، وسوف تشعر حينئذ بالخجل.

والآن، في الخارج، وسط عواء العاصفة الرملية، يعلو صوت آخر، ويتحرك شيء صلب في الظلام حتى يظهر على أنه سيارة جيب فيها شخصان. يتبادلان النداءات. تقترب السيارة الجيب. يقفز الشخصان خارجًا. كان ضابط مدفعية يدعى توم سوذرن، مع ضابط آخر. رد فعلهما لوجود كلوديا هو القلق المشوب بالتسلية. كانا في طريقهما إلى مقر القيادة، وبإمكانهما اصطحاب شخصين. سيبقى السائق مع الشاحنة حتى يمكن الاتصال بعمال الصيانة. يتطوع جيم تشيمبرز بالبقاء هو الآخر. وكذلك يفعل النيوزيلندي بتجهم. لذا، بطبيعة الحال، تفعل كلوديا هي الأخرى. في النهاية يقررون أن جيم سيبقى بينما يمضي الآخرون.

تصعد كلوديا إلى المقعد المجاور للسائق في الجيب. بدأت العاصفة الرملية تهدأ، وصار بالإمكان رؤية معالم الصحراء مرة أخرى وتمييز الطريق. كانت متعبة حتى إنها لم تكن تستطيع الاستجابة لأي شيء مما يقوله الآخرون، وفي إحدى اللحظات ذهبت في إغفاءة وانزلقت بجوار ذراع توم سوذرن فشعرت به يعدل وضعها برقة، لكن بحزم. تجلس هناك نصف مستيقظة، ترى القليل، فقط يده على عجلة القيادة، يد سمراء تناثرت بها شعرات سوداء بين الرسغ والبراجم؛ بعد أربعين عامًا ستظل ترى تلك اليد.

كانت زيارة عودتي إلى مصر مريحة ومرفهة، برعاية شركة فارو تورز للسياحة وفندق هيلتون، وقد تضمنت رحلة قصيرة إلى الصحراء التي شاهدتها هذه المرة من خلف زجاج النوافذ الداكن للسيارة مكيفة الهواء. توقف السائق حتى يتمكن الركاب من الهبوط ليتذوقوا بأنفسهم هواء الصحراء الأصيل؛ كان هناك أيضًا مشهد رائع لأهرامات دهشور. قال صديقي الأمريكي: “ألا ترغبين في النزول؟” هززت رأسي. سأل بقلق: “هل أنت متأكدة أنك بخير؟” “لم تتفوهي بحرف طوال الرحلة.” قلت: “أنا بخير. كنت أفكر، هذا كل ما في الأمر. ولقد سبق لي أن رأيت الصحراء. اخرج أنت وألق نظرة. سأبقى أنا هنا.” سحب نفسه بمشقة. “حسنا، إذًا. لكن كيف زرت الصحراء؟ هل كنت هنا من قبل؟” قلت، بمراوغة: “ليس هنا بالتحديد.” لم يعقب على الأمر؛ كانت فترة انتباهه وجيزة، وكان بعض أصحاب الجِمال الذين يؤجرونها للسياح قد ظهروا من الفراغ، فرصة للتصوير لا يجب تفويتها. خرج، وصرت وحدي مع الزجاج الداكن الذي رأيت من خلاله مشاهدي الخاصة، الأشكال والألوان البعيدة، لكن الواضحة في الوقت ذاته، من زمن آخر، الدبابات المائلة على الرمال، الدوامات والبقع السريالية بدرجات البني للتمويه.

لم أكن أفكر في توم، لكن في ذاتي. كانت ذاتًا لا يبدو أنها “أنا”، بل “هي”. بريئة، تمضي أيامها بلا فاعلية، لا تعلم شيئًا، وقد صرت أراها الآن بحكمة بالغة. هكذا كنت أشعر – وأكيد أن أي شخص كان سيشعر بالمثل – وأنا أتأمل تلك اللحظات المعلقة من الماضي: الليلة السابقة لاقتحام سجن الباستيل، صيف عام 1914 في وادي السوم، الأيام الخريفية في وركشير قبل معركة إيدج هيل. ليس هناك ما يمكن عمله؛ لا يمكن إيقاف المكتوب سلفًا أو تغييره. هذه هي الحكاية؛ هذه هي الأشياء التي يجب أن تحدث.

ركب صديقي القادم من تكساس السيارة مرة أخرى، وهو يخزن معدات تصويره، بعد أن حفظ للأجيال صورة رجل يشبه أعضاء العصابات، يمتطي ظهر جمل وهو يلوح ببندقية تشبه بندقية لورنس العرب في يد، وبعقد من خرز اللازورد البلاستيكي في اليد الأخرى. قال: “يا له من مكان يصعب العيش فيه!” قلت: “هذا الرجل غالبًا ما يعيش في شقة سكنية في القاهرة، ويأتي إلى هنا بالحافلة.” “أتعتقدين ذلك؟” نظر بندم تجاه الرجل الذي كان قد رحل. “أعتقد أنك على حق. أنا أنجذب إلى الطابع المحلي. لا يمكنني أبدًا تمييز ما هو غير حقيقي. لكنك سيدة ذكية للغاية، أليس كذلك، كلوديا؟”

أعتقد أنني استخدمت اسمه هو أيضًا. إد؟ تشاك؟ لا أتذكر، رغم أنني أذكر تلك الصحبة اليسيرة المتناقضة، التحالف المؤقت الخاص لغرباء في ظروف مؤقتة. كنت سعيدة بصحبته بطريقة ما؛ كان وجوده الذي لا يتأثر بشيء أشبه بالدرع. كنت قد ترددت في القيام بهذه الرحلة؛ وأجَّلتها عامًا بعد عام، لكنني كنت دومًا أعرف أنني في النهاية لا بد أن أقوم بها. ولما واجهت ذلك السراب أخيرًا – ذلك الطيف اللامع لذلك الزمن الآخر – فوجئت إذ وجدت أن ذاتي هي التي كان لها وجود مؤثر. ليس هو – ليس توم. كان توم حاضرًا بطرق أخرى.

كنت أتشارك مع فتاة أخرى شقة بالزمالك. كانت كاميلا سكرتيرة لها شخصية سطحية تعمل في السفارة، واحدة من أولئك المدنيين المنعمين العاملين مع المؤسسات العسكرية، الذين يستفيدون من الحروب. ولولا هذه الظروف لقضت كاميلا شبابها في مقاطعات ريف إنجلترا منشغلة بتربية الكلاب، وبالصيد، وزيارة المدينة لحضور بعض العروض من وقت إلى آخر. لكنها بطبيعة الحال كانت تقضي أمتع أوقات حياتها، تكتب قليلًا على الآلة الكاتبة في فترة الصباح لأحد زملاء دراسة والدها، وتختار من يروق لها من ضباط الفرقة الثامنة من سلاح الفُرسان في المساء.

تبدو الآن مدينة القاهرة المزدحمة المتعددة اللغات في أربعينيات القرن العشرين وكأنها تعبير ملائم عن تلك البلاد الغريبة. الطبيعة، والتحام الماضي بالحاضر، كان لهما نظيرهما في حياة المدينة المزدحمة، حيث جميع الأجناس يلتقون، وجميع اللغات يُتَحدَّث بها، حيث اليونانيون والأتراك، والأقباط واليهود، والبريطانيون والفرنسيون، والأثرياء والفقراء، والمستغلِّون والمضطَهدون، يمرون جميعهم بعضهم بجوار بعض على الأرصفة المتربة. لكن الأرصفة كانت هي الشيء الوحيد المشترك بينهم. شاهدتُ ذات مرة عجوزًا تجلس على سلالم أحد المساجد وتموت؛ على الجهة المقابلة من الميدان كان الناس يأكلون المثلجات والحلويات على شرفة أحد المقاهي. نحن الأوروبيين كنا نجوب الشوارع ونحن نركب السيارات أو العربات التي تجرها الخيل؛ إلى جوارنا وفي وسطنا كانت تتحرك العربات التي تجرها الحمير، والدراجات، وألوف الحفاة، والترامات المزدحمة بالبشر لدرجة أنها كانت تبدو كأسراب النحل. بالنسبة إلى البعض منا كانت هناك حرب تدور؛ لكن كان هناك بالتأكيد كثيرون ممن لم تكن لديهم أدنى فكرة عن طبيعة هذه الحرب، وعن أطرافها المتقاتلين أو عن أسبابها. مثل أسد في مسرحية، كانت تزأر بعيدًا عن خشبة المسرح، بينما تشاغل الممثلون بأمور حياتهم. وطوال الوقت كانت الخلفية الرائعة تعكس التناقضات بشكل مخيف – المشاهد التي تنتهي فيها بغتة حدود خضرة النيل الوافرة، بحيث تنتقل من الحقول إلى الصحراء بخطوة واحدة؛ التي يمكن فيها أن يكون أحد الآثار المتهدمة يونانيًّا، أو رومانيًّا، أو فرعونيًّا، أو من القرون الوسطى، قبطيًّا أو إسلاميًّا؛ التي يعيش فيها فلاحون أميون متوسط أعمارهم المتوقع ثلاثون عامًا في أكواخ مبنية بين الأعمدة الشاهقة للمعابد التي نُقِشت فوقها الأساطير المعقدة لثلاثة آلاف عام مضت. لم يكن هناك أي تسلسل زمني للمكان، ولا منطق.

يقول المرشد: “شاهدوا صورة رمسيس الثاني. شاهدوا الملك يقدم القرابين للأرباب والربات. شاهدوا في الأعلى اللوتس. شاهدوا العمود المنقوش الرائع. عمره ثلاثة آلاف ومائتا عام. ارتفاعه ثلاثة وعشرون مترًا. شاهدوا في القمة نقش فيكتوريا.”

يقول الكاهن: “نشاهد ماذا، مصطفى؟”

“أرجو استخدام منظارك المعظِّم، أيها السيد. شاهد فوق، هناك.”

“أوه! لقد فهمت ما الذي تقصده. إنه يقصد الفيكتوريين. كتابة على الجدران كتبها الرحالة الفيكتوريون. أمر استثنائي، أليس كذلك؟”

تسأل واحدة من الفتاتين العاملتين في الفرع النسائي للجيش البريطاني: “كيف وصلوا هناك للأعلى؟” ويضج الباقون بالضحك. “لم يكن المعبد قد حُفر وأُخرِج آنذاك، أيتها الحمقاء. كان مليئًا بالرمال. كانوا يسيرون عند قمم الأعمدة.” يخرجون إلى الشمس التي تُعمي الأعين مرة أخرى، تجاه العربات التي تجرها الأحصنة التي سوف تعود بهم إلى الأقصر، بينما يبقى توم وكلوديا في الظل الحار المظلم، مع رمسيس الثاني والكاهن جون فوسيت من أمرشام بمقاطعة باكنجهام عام 1859.

يقول توم: “دعينا نعود إلى الفندق. لم يتبقَّ سوى ست ساعات على موعد القطار.”

تقول كلوديا، وهي تحدق للأعلى: “ربما لا نعود هنا ثانية أبدًا. فكر في الكاهن جون فوسيت، وهو يمشي فوق رؤوسنا، آنذاك.”

يقول توم: “فليذهب الكاهن جون فوسيت إلى الجحيم. أريد أن أذهب.”

تقول كلوديا دون أن تتحرك: “أحبك.”

“أعرف ذلك. هيا نعد إلى الفندق.”

“في صباح الأربعاء ستكون في الصحراء مرة أخرى.”

“يجب عليك أن لا تفكري في ذلك الأمر.”

“يجب عليَّ ذلك، حتى أستطيع التعامل مع الأمر.”

هناك لحظات، في هذا المكان وفي هذا الوقت، تشعر فيها بأنها لا يربطها أي شيء، لم تعد مرتبطة بالماضي أو المستقبل أو بأي عالم معلوم، لكنها تسبح في الكون. في الليل، تتأمل النجوم الملتهبة التي لا يمكن أن تكون النجوم نفسها التي تلتمع في السماوات الإنجليزية، وتشعر بالخلود، لكن بدلًا من أن يكون هذا الإحساس موحيًا بالسكينة، كان مثل حمَّى بشعة – صورة نفسية من حمَّى الملاريا والتيفود والدوسنتاريا واليرقان التي تصيب الجميع في وقت من الأوقات في هذه القارة.

كان المرء يعيش اليوم بيومه. هذه بالطبع تفاهة، لكن كان للأمر حقيقته المبتذلة آنذاك. لم يكن مسموحًا بذكر سيرة الموت، وكان يُستبعَد باستخدام كلمات رمزية، وبأسلوب الحياة اللامبالي الذي يقلل من أهمية الأشياء. كانت السيدات اللاتي قُتِل أزواجهن في عمليات التقدُّم الأخيرة، يشاهَدن بعدها بأسابيع وهن يتصرفن بشجاعة بالغة بجوار حمام السباحة في نادي الجزيرة الرياضي. أتذكر أنني كنت أضحك بإفراط. أرقص. أشرب. كان الناس يدخلون حياتي ويخرجون منها مرة أخرى، أناس لم أرهم ثانية منذ ذلك الحين، وأناس كنت أعرفهم عن قرب: أصدقاء من مجموعة الصحافيين، رجال في إجازات من الصحراء، ملحقون في السفارة، أصحاب النفوذ في مقر القيادة العامة، والمشردون من أهل القاهرة نفسها، وقاطنوها القدامى، شرق أوسطيون محترفون يديرون البنوك والشركات، يتاجرون بالثقافة مع المركز الثقافي البريطاني أو باللغة الإنجليزية مع المدارس والجامعات. أبطال الساعة – كل عميد وعقيد ورائد شجعان من الجيش الثامن – كانوا يرتحلون مثل بارونات العصور الوسطى بين ميدان القتال والملذات المترفة في المدينة. كانوا يتركون دباباتهم ليعودوا بضعة أيام للعب البولو أو للصيد في الفيوم. كنت أعرف عقيدًا ملتحيًا كانت لديه عشرة خيول بولو، وسائسان مصريان، ضابط فروسية قليل الكلام، كان يحتفظ بقطيع من الكلاب في هليوبوليس ليطارد ابن آوى. كان شكل الحرب نفسها يؤكد التشبيه – عمليات حصار، جيوش تعسكر في خيام، عمليات هجوم ومناوشات، مد وجزر موسميان حسب ما كانت الصحراء نفسها تفرض التقدم أو التحصن بالخنادق. ومع تنامي أسطورة روميل، كان الأمر وكأن “صلاح الدين” نفسه قد بُعث – العدو الماكر الشهم، لا يأخذ أسرى أحياء من العدو، لكنه في الأساس نبيل. كتبت مقالًا عن الصليبيين الجدد، وأرسلته إلى صحيفة يسارية أسبوعية في لندن – وتلقيت ردًّا لاذعًا من محرر لم يتمكن من رؤية وجه الشبه بين الطبقة العاملة البريطانية التي تم تجنيدها في الجيش وبين حاشية الملك من الإقطاعيين. حسنًا، كان محقًّا بالطبع، لكن في الوقت نفسه كان لا بد أن تكون ذا تفكير حَرْفي للغاية إذا لم تتمكن من رؤية أصداء ذلك الهجوم الأوروبي الآخر على الصحراء في هذه الحرب، ذلك التدفق الآخر للرجال والأسلحة إلى أرض غريبة. أرسلت المقال إلى جوردون، على سبيل المزاح، وألقى في وجهي برده بعد بضعة أشهر – “الرومانسية التقليدية لكلوديا.” لم ألحظ أو أهتم؛ كنت أفكر في أشياء أخرى حينئذ.

وسط مجموعة الصحافيين، كانت الحرب هي شغلنا الشاغل بالطبع. كنا نقف في انتظار البيانات الرسمية، والبيانات الصحافية والإشاعات. كنا نطارد أولئك المقرَّبين من كبار المسؤولين في مركز القيادة العامة، ونخطب ود الملحقين الشباب الذين يتميزون بالبرود، ويمكنهم أن يساعدونا في الحصول على لقاء هنا أو تعليقات غير مرتبة مسبقًا هناك. كنا نجلس ونحن نتذمر في مكتب الرقيب، ننتظر دورنا في العمليات المعقدة كالمتاهة حتى نرسل نسختنا إلى لندن، أو نيويورك، أو كانبرا، أو كيب تاون، فقد كنا نشكل حشدًا صغيرًا من جنسيات مختلفة، تمامًا مثل حشود القاهرة. ويجب عليَّ أن أعترف أنني مثل كاميلا الحمقاء التي كنت أتشارك معها الشقة، فقد عشت أيامًا مشهودة من المغامرات الجنسية. كنت واحدة من نساء قليلات للغاية فيما كان يعد بالأساس مجال عمل للرجال، وكنت أكثرهن جمالًا، بالإضافة إلى كوني أكثرهن دهاء وذكاء، وأقلهن انخداعًا.

وأكثرهن غرورًا.

يسأل: “وكيف تمكنت من الاحتيال حتى تحصلي لنفسك على منصب هنا؟”

تجيب كلوديا ببرود: “بموهبتي الطبيعية.” وتتمنى على الفور لو لم تفعل. كانت تلك النبرة الخاطئة لتبنيها للحديث – الحديث الاجتماعي الماكر الذي يدور في المقاهي، ولم يكونوا في القاهرة الآن، بل في مكان ما في برقة، وكانوا يجلسون على صفائح البنزين يتناولون وجبة من البلوبيف، والأرز المعلب، والبودينج، ومربى البرتقال. ينظر إليها توم سوذرن ثم يخفض عينيه لخريطته. يضع أحد الحاضرين بين يديها كوبًا معدنيًّا به شاي. تقول بتواضع: “أشكرك؛” فلقد تعلَّمَتْ في الاثنتي عشرة ساعة القصيرة التي قضتها هنا قيمة مثل هذا العرض.

الوقت حوالي منتصف الليل، والجو بارد للغاية. يجلسان خارج خيمة الصحافيين. في الداخل، يكتب النيوزيلندي على الآلة الكاتبة مقاله عن اللقاء مع القائد العام. حولهم في كل اتجاه، تتحرك هيئات مظلمة على خلفية من الرمال الفضية، يتحركون جيئة وذهابًا بين الهيئات الواضحة بالكاد للمركبات والخيام. السماء قبة سوداء ضخمة تتناثر خلالها نجوم براقة؛ والأصابع البيضاء الطويلة للكشافات الموضعية تتجول عبرها؛ يشتعل الأفق بألسنة برتقالية؛ ترتفع طلقات مسدسات الاستغاثة النارية – حمراء، بيضاء، خضراء. في مكان ما بعدها – لا أحد يريد أن يخبرهم أين وعلى أية مبعدة – تقع الجبهة، ذلك الهدف المراوغ المتغير: مفهوم من المفاهيم أكثر منه مكانًا. يجلس الرجال منحنين وقد ارتدوا معاطف طويلة من الصوف أو فراء خراف رثة. ترتدي كلوديا سروالًا وسترتين صوفيتين ومعطفًا، ومع ذلك ترتجف. جيم تشامبرز – الذي لحق بهما ثانية منذ ساعتين – يتثاءب ويعلن أنه سيخلد إلى النوم الآن. يبقى كل من كلوديا وتوم سوذرن وحدهما.

تقول: “الواقع أنني تمكنت من الوصول إلى هنا بإقناعهم بطريقة ما.”

يطوي خريطته ويعيدها إلى جيبه.

يقول: “هذا هو ما توقعته.” يبتسم. لديه العينان الحمراوان نفساهما ثابتتا النظرة اللتان لديهم جميعًا. قبل بضع ساعات، استمعت كلوديا إلى رجل يتحدث بالنبرة المتأنية والحروف المضغمة نفسيهما اللتين يتحدث بهما، كما فكَّرتْ (وهي لا تكاد تصدق)، شخص سكير. حتى لَحِظت بعدها أن ما تستمع إليه هو صوت الإرهاق. لم ينم كثير من هؤلاء الرجال طوال أيام بأكملها. كانت العملية الأخيرة منذ ثلاثة أيام مضت فقط.

يبدآن في الحديث، لا عن التقدم، ولا عن الضربات، ولا عن العملية القادمة، ولكن عن زمان ومكان آخرَيْن. يقول توم سوذرن: “حينما كنت طفلًا، كنت منبهرًا بفكرة الصحاري. ومن ذا الذي يمكنه أن لا يكون كذلك، وقد نشأ في أعماق ساسكس؟ نشأ الأمر كله من فكرة يوحنا المعمدان وهو يصرخ في البرِّية، والرسوم في إنجيل مدرسة الأحد – كل أولئك الأشخاص الذين يرتدون ملابس غريبة ومعهم الجمال والحمير. أتذكر أننا صنعنا ذات مرة خريطة تضاريس للأرض المقدسة من الطحين والماء، وكان البحر الأحمر مدهونًا بلون أزرق زاهٍ، وسيناء بلون أصفر فاقع. أحيانًا وأنا أنظر إلى الخرائط في مقر القيادة أتذكر ذلك.”

لقد صار له ستة أشهر هنا. كان يتدرب في الدلتا، والآن يقود فرقة دبابات. وشارك في عملية الأسبوع الماضي.

تقول كلوديا: “أقرب احتكاك لي بالصحراء هو شاطئ البحر في تشارموث. أنا وأخي كنا نجمع الحفريات هناك. نتشاجر بسبب الحفريات.”

يقول توم سوذرن: “توجد حفريات هنا. لقد وجدت واحدة بالأمس. أتريدينها؟” يبحث في جيب زيه العسكري.

تقول كلوديا: “شكرًا. إنها نجمة بحر، أليس كذلك؟ يا إلهي! لقد كان كل هذا المكان تحت البحر يومًا ما إذًا.”

“أكيد أنه كان كذلك. وهذا يُشعِر المرء بضآلته بطريقة ما.”

تقول كلوديا: “أجل. إنه كذلك بالفعل.”

يجلسان وأيديهما تحيط بكوبَيِ الشاي. في داخل الخيمة ما زالت آلة النيوزيلندي الكاتبة تصدر ضجيجًا؛ وما زال الأفق يزأر ويتلألأ؛ وظلال الأشخاص تمر جيئة وذهابًا عبر الرمال.

يقول توم: “أحتفظ بمذكرات مشفرة جيدًا، بالطبع، تحسبًا لحالة لو قُتِلت. لكن، يومًا ما قد يرغب المرء في تذكُّر كيف كانت الأمور.”

تسأل كلوديا بعد لحظة: “كيف هي الأمور؟”

يشعل سيجارة. يحملق فيها. وجهه، في ضوء القمر، ليس أسمر، لكن يميل للسواد. “هممم… كيف هي الأمور؟ دعينا نرى…” لكن قبل أن يكمل حديثه يظهر النيوزيلندي وهو يرتب أوراقه المكتوبة على الآلة الكاتبة، ويعرض عليهم قنينة ويسكي. يقررون أن كلوديا (التي تعترض بالطبع) سوف تنام في الخيمة المخصصة للصحافيين، بينما سوف ينام الباقون في الشاحنة. كان مقررًا أن يذهب توم سوذرن ناحية الساحل في الغد ليجلب بعض الدبابات، وعرض عليهم أن يوصلهم.

ترقد كلوديا في كيس النوم داخل الخيمة. لا تتمكن من النوم جيدًا. رفعت فتحة الخيمة مرة، ونظرت للخارج عبر الرمال. هناك خيام أخرى حولها، صغيرة لدرجة أنه يمكنها رؤية أقدام شاغليها التي ترتدي البوت وهي ممددة خارج أطراف الخيام. في أماكن أخرى، ترقد هيئات تدثرت بالأغطية وهي تستند إلى الشاحنات وسيارات الجيب. يصدر دخان هادئ من صفيحة بنزين تُستخدَم موقدًا. تنقلب على جنبها، وتحتك نجمة البحر التي وضعتها في جيبها بوركها. تُخرجها، وترقد وهي تمسكها في كفها، وتتحسس بأصابعها من وقت لآخر الصخر الحبيبي، والأذرع الخمسة المتناظرة.

كلا، لم تعد بحوزتي. كنت أستخدمها ثقالة للورق في شقة القاهرة. كانت ترقد على الطاولة أمام النافذة المغطاة بالسلك التي كنت أكتب قبالتها، والتي كانت تطل على حديقة زاهرة بالزينيا والجهنمية وزنابق القنا الحمراء. كان صبي يعمل في الحديقة، ويكنس الممرات، ببطء شديد، طوال اليوم، أو يتجول بخرطوم بين أحواض الزهور، بينما تنهره صاحبة البيت الفرنسية. حينما رحلتُ، تركتُ لمدام شارلوت الأشياء الصغيرة التي كنت قد جمعتها – الصينية النحاسية من الموسكي، والمقعد الجلدي، وموقد الكيروسين. ربما كانت نجمة البحر في تلك الحديقة، تحدد أحد ممراتها.

كانت مدام شارلوت تشير إلى نفسها باعتبارها فرنسية. والواقع أن والدها كان لبنانيًّا وأن والدتها كانت واحدة من تلك الشخصيات القاهرية ذات الأصول المعقدة مثل المدينة ذاتها – عجوزًا ضئيلة حمراء الشعر كان يبدو أن لغتها الأم هي الفرنسية، لكنها كانت تتحدث العربية والروسية أيضًا وشكلًا غريبًا من الإنجليزية. كانت هي وابنتها تقضيان أيامهما وهما تذبلان في غرفة مزدحمة بالأثاث قليلة التهوية، مليئة بالكراسي ذات الطراز الإمبراطوري والأرائك، وكانتا تخرجان لمضايقة الخدم، أو لإلقاء نظرات فضولية على المستأجرين. كانت عينا مدام شارلوت الحادتان تنظران من وراء البارافان المتقاطع الأخشاب الذي كان يعزل غُرَفهن الخاصة، بينما كان معجبو كاميلا يصعدون وينزلون السلم بصخب. وحينما كنا نستضيف الأصدقاء في شرفة شقتنا في المساء، كانت تتجول في الحديقة، تروي صفوف زهور الزينيا المتوهجة، وتختلس نظرات خفية للأعلى. كانت دائمًا ترتدي أثوابًا سوداء قبيحة، وفوقها سترة صوفية رمادية في الشتاء، وجوارب طويلة في صيف القاهرة الخانق. لم أسمعها أبدًا تشير إلى الحرب أو إلى زوجها الذي لم يره أحد أو يسمع عنه شيئًا. كان الاثنان، على ما أعتقد، مصدر إزعاج لها، تبقيهما بعيدًا بتجاهل وجودهما. حينما عدتُ من تلك الرحلة إلى الصحراء أخبرتُها أين كنت، وواصلتْ هي الإشارة إليها على أنها “إجازتك الصغيرة.” هل فكرت أبدًا بما يمكن أن يحدث لها لو وصل الألمان إلى القاهرة؟ ستذوب هي ووالدتها بكل بساطة في مزيج الجنسيات المختلفة، على ما أعتقد – ستصيران شخصين آخرين، تغيِّران من جلديهما لتلائما الخلفية مثل أولئك القاهريين القدامى الآخرين، الحرابيِّ التي تختبئ في أشجار الحديقة، بعيون منحرفة وذيول حلزونية، تزحف متخفية بين الأشجار بأيديها الثلاثية الأصابع، وتبدو وكأنها ترتدي القفازات.

لما عدتُ كنت مريضة. كنت أكتب على الآلة الكاتبة وحرارتي مرتفعة، ورشوت كاميلا بزجاجة من عطر “المساء في باريس” حتى توصل الأوراق إلى مكتب الرقيب، ثم رقدتُ أرتعش في الفراش أسبوعًا وأنا مصابة بالملاريا، وأتساءل عما إذا كان الأمر كله هلاوس من نسج الحمى.

ينشط المكان قبل الشروق بكثير؛ لكنه لم يكن نائمًا أبدًا في الحقيقة. الوهج البرتقالي لنيران مواقد الطهي ينير ظلمة ما قبل الفجر. تتشارك كلوديا وجيم تشامبرز والنيوزيلندي ربع لتر من الماء للاغتسال. ومع الشروق يظهر توم سوذرن من خيمة القيادة، حاملًا حزمة من الخرائط والأوراق وهو يعلن أنه يجب عليهم أن يتحركوا. يصعدون إلى الشاحنة – يتولى توم القيادة، وكلوديا إلى جواره، والاثنان الآخران في الخلف. يرتدي جيم والنيوزيلندي الزي العسكري – الزي الروتيني المنتشر المتمثل في سراويل من القماش القطني السميك المضلع، وسترات عسكرية، ومعاطف. يطلب توم من كلوديا أن تثبِّت على نحو أوضح شارة المراسل الحربي ذات اللونين الأخضر والذهبي التي تضعها – “وإلا ستثيرين الدهشة أكثر مما تثيرينها بالفعل.” يعتقد أنه قد يتمكَّن من الاحتيال حتى يحصل لهم على بضع دقائق مع الضابط قائد وحدة الدبابات التي قادت عملية الأسبوع الماضي. سينزلهم عند مهبط الطائرات بجوار الطريق الساحلي، حيث سيركبون للعودة إلى القاهرة. يتجادل جيم والنيوزيلندي فيما بينهما حول فرصهما في الحصول على شاحنة من مكان ما، ومحاولة الوصول إلى الجبهة. يقول جيم لكلوديا: “ليس أنت، يا فتاة، أخشى أنه سيجب عليك أن تقنعي بالوصول إلى هذا الحد.” لا تجيب كلوديا، وقد تشتت انتباهها بما تراه الآن – حشد من الرجال أصحاب الهيئات الرثة يرتدون بزات عسكرية ممزقة، لونها أخضر يميل للزرقة، وهم يجلسون القرفصاء فوق الرمال، المئات منهم (تحاول أن تحصي عددهم سريعًا، تقسمهم على مجموعات عشرية)؛ تسير الشاحنة وهي تتخبط وتتخطاهم، تنطلق مسرعة على طريق من الرمال الخشنة كالحصى، وفي مرورها ذاك يرقبها الرجال بلا مبالاة، فيما عدا البعض الذين ميزوا جنس كلوديا ويحملقون في دهشة. ينهض أحدهم واقفًا، وبحركة صامتة متعمدة، يلقي إليها بقبلة. يضحك النيوزيلندي ويقول: “لا يمكنك أبدًا أن تثقي بإيطالي لعين!”

إذًا، فهذا هو العدو، تفكر كلوديا. هذا هو شكل العدو – الكثير من الشباب الإيطاليين الفقراء، متوسط أعمارهم حوالي واحد وعشرين عامًا. تقول: “لا يبدو عليهم التأثر على وجه الخصوص.” يقول توم: “كلا. إنهم سعداء للغاية لأنهم خرجوا من الأمر.”

يتحركون، طوال اليوم، ويعبرون خلال حطام العمليات السابقة الذي يتصاعد منه الدخان. هذه هي المنطقة التي تقدَّم فيها العدو الأسبوع الماضي، ثم تقهقر لاحقًا. هذه المساحة الخالية الممتدة لألف ميل مربع قام من أجلها صراع لمدة خمسة أيام بلياليها؛ وتكلفت حياة بضع مئات من الرجال. وبقيت لم يمسها شيء، تفكر كلوديا. لقد بدأت الرمال بالفعل في امتصاص بقايا المركبات المحطمة، وصفائح البنزين، ولفائف الأسلاك المتشابكة؛ بعد بضع عواصف أخرى سيغوص كل ذلك أسفل الرمال. بعد بضع سنوات سيختفي تمامًا. تراقب توم سوذرن وهو منكب على خرائطه؛ هذه العلامات اعتباطية للغاية – الرمال لا حدود لها، ولا تخوم، ولا محيط.

تتحدث خلال اليوم مع عدد لا حصر له من الرجال. يتوقف توم سوذرن ليدير حديثًا هنا، ويتبادل معلومات هناك؛ يفقدون طريقهم في هذه البقعة من الرمال التي هي خالية ومزدحمة في آن واحد. العشرات من المركبات تتحرك – راكبي دراجات نارية منفردين يتخبطون في طريقهم بإصرار عبر الحطام، شاحنات، عربات مصفحة، شاحنات تحمل عشرات الأطنان في صفوف طويلة مهيبة، دبابات مقصوفة تعاد إلى ورش الإصلاح في القاعدة، سيارات إسعاف، وسيارات جيب. وأولئك الذين لا يتحركون قد استقروا، صاروا كالمنحنيات في الطبيعة، وقد صنعوا لأنفسهم ترتيبات إقامة مؤقتة من أكواخ وملاجئ وحُفَر في الأرض. تجلس كلوديا القرفصاء أعلى خندق، وتتحدث إلى اثنين من الجنود كانا يصنعان الشاي بالأسفل. يناولانها كوبًا. كانا من إحدى فرق المشاة، وقضوا أسبوعين في الجبهة. كانا نحيلين وقويَّين مثل زوجين من كلاب ترير الثعالب، وقد بدا أنهما يشعران بالراحة بالأسفل هناك وسط الرمال (تفكر كلوديا أنه لا بد أن أسلافهما قد تغلبوا هكذا على نوع آخر من الطبيعة القاسية)؛ ينصحان كلوديا، بالرغم من ذلك، أن لا تهبط لتلقي نظرة – “كان الإيطاليون الملاعين هنا، وهم لا يهتمون بدرجة كبيرة بظروف معيشتهم.” وبالفعل، تتصاعد رائحة المرحاض بينما تعيد كلوديا الكوب شاكرة، وتكتب ملحوظات ثم تنضم للآخرين مرة أخرى.

تتحدث إلى ضابط من إحدى فرق المشاة من اسكتلندا، وهو يحلق ذقنه بحرص بجوار خيمته، ويسأل عما إن كانا التقيا من قبل في المدينة، يسأل: “هل هناك أي احتمال أنك تعرفين آل ويلوبي من بروك؟” تتحدث إلى أحد المهندسين العسكريين الذي يحذرهم كي يبتعدوا عما يُشتَبه أنه حقل ألغام في الوادي المجاور – يمكنها أن ترى على مبعدة هيئات لأشخاص يفحصون الأرض بصبر، ياردة ياردة، ويضعون في الرمال علامات معقدة مثل شباك العنكبوت من الأشرطة والأعمدة. تتحدث إلى رجال يتكلمون باللهجات الريفية لجلوسترشير، ووبنج، وكنسينجتون. يقابلها من يبدو عليهم التحفظ، ومن ينسال منهم الكلام: هذا الرجل اجتيح مربض المدفعية الذي كان به وصار هو الناجي الوحيد – يصف ما حدث باللغة الكئيبة المباشرة المميِّزة لتقارير الشرطة؛ وآخر، جسده ملتهب من قروح الصحراء، لديه صديقة في القاهرة – هل يمكن أن تقوم كلوديا بإيصال رسالة إليها؟ تملأ دفتر ملحوظاتها بخربشات عَجلى. كانت الشمس قد أشرقت الآن، ويزحف الذباب بسواده على الأعناق، والأذرع، والوجوه. وتستقر الرمال في الأنوف، والأعين، والآذان.

يتوقفون عند أحد مقرات القيادة. يمسك توم سوذرن بكاميرا كلوديا ويصر على تصويرها بها، وهي تستند إلى الشاحنة، تضحك وتحتج. يتناولون الغداء: بلوبيفًا وأكوابًا من الشاي. المياه في القوارير التي يحملونها صارت الآن حارة حرارة الشاي. تجلس كلوديا في ظل الشاحنة، وتكتب على الآلة الكاتبة بينما يتناقش توم ورائد حاد الطباع له شارب، يلقي نحوها بنظرات حذرة – تسمعه يقول: “مراسلون صحافيون؟ أخبرهم أن لديَّ الكثير من المشاغل الآن. آسف يا فتى.” لكنه يلين أخيرًا، ويأتي ليقف بضع دقائق ليتبادل معهم الحديث وهو محرج – “أخشى أننا نعاني من وضع مقلق بعض الشيء الآن – لقد فقدت الاتصال اللاسلكي مع الضابط المسؤول عن قيادة الوحدة. لولا ذلك لتمكَّنَّا من تبادل الحديث.” ينظر إلى كلوديا بشك. “هل يعتني رجالي بك بشكل لائق؟ لم أكن أعلم أنهم في القاهرة يسمحون للسيدات بالمجيء إلى هنا.” يقول جيم تشامبرز: “إنهم لا يسمحون. الآنسة هامبتون لها طريقتها الخاصة.” تبتسم كلوديا بابتهاج. يهز الرائد نفسه مثل الكلاب، ويستدير ليعود إلى خيمته وهو يهرول.

يتركون هذا المركز الحضاري ويمضون قدمًا. يبتعدون الآن عن مكان التمركز الرئيس وراء الخطوط، وعن الطرق الأكثر وضوحًا. يقل عدد المركبات التي يشاهدونها. يتوقَّف توم سوذرن بمعدل أكبر ليدرس خرائطه، ليستخدم منظاره المعظم، ليتفقد جهاز اللاسلكي. يتوجهون نحو الطريق الساحلي، ويمرون بمستودع إمدادات. يأخذهم الطريق عبر وادٍ ضيق؛ على الجانبين ترتفع الرمال على شكل تلال منحوتة يناهز ارتفاعها ثلاثين قدمًا، وتعوق الرؤية؛ بعض النتوءات الصخرية يمنح خطوطًا من الظلال السوداء، والبعض الآخر بياضًا ساطعًا قاسيًا. تنبت نباتات سميكة الأوراق هنا وهناك؛ ذات مرة، عندما توقفوا ليحرروا الشاحنة من بقعة من الرمال الناعمة، شهدوا آثار أقدام ثعلب صحراوي تتراقص لأعلى المنحدر.

عندما توقف توم في مرة لاحقة كي يدرس الخريطة استأذنت كلوديا، وذهبت تتسلق التل. يقول جيم تشامبرز: “التزمي بالتعليمات، عزيزتي.” تلوح بيدها – لا تبتعد أبدًا عن مرأى مركبتك. عند قمة التل، تنتقي صخرة ملائمة، وتجلس القرفصاء على الرمال خلفها، وتتبول. تنهض، وترفع سروالها، وتستلم للغواية، وتسير بضع ياردات بعد التل إلى حيث يمكنها أن ترى إلى الأسفل الوادي التالي – أوسع، وأعمق، وليس خاليًا. على بعد مئة ياردة تقريبًا يقع حطام عربة مصفحة انقلبت على جانبها، وقد انخلع أحد محورَي عجلاتها. بجوارها كانت ترقد جثة.

تتردد كلوديا. تسير بسرعة للأسفل، نحو الحطام. يرقد الرجل ووجهه للأسفل. شعره أشقر، وخوذته المعدنية ترقد بجواره، جزء من رأسه متهتك، ولونه أسود دموي، والرمال أيضًا اصطبغت بالسواد، وإحدى ساقيه بلا قدم. يزحف الذباب في أسراب لامعة. وبينما هي تنظر إلى كل ذلك، تسمع صوتًا من الجهة الأخرى للعربة المحطمة. تدور حول نفسها لترى، فتجد جسدًا آخر محطمًا، لكن هذا الجسد كان يتحرك. ترتفع يده من على صدره ثم تسقط ثانية. يفتح فمه، ويصدر صوتًا.

تنحني للأسفل. تقول: “سأذهب لأجلب المساعدة. هناك ثلاثة رجال معي – سأعود فورًا. هل بإمكانك أن تسمعني؟ سوف تكون بخير الآن.” لا تعتقد أنه يستطيع أن يسمعها على الإطلاق. إحدى عينيه مثل عجين ممتزج بنفسجي، والرمال تحته لها سواد داكن، تمزَّق نصف سرواله من على جسده، وفي إحدى فخديه ثقب أحمر يمكنك أن تضع قبضتك بداخله. يزحف منه صف من النمل.

تركض إلى قمة التل. تلوِّح وتصيح. يأتي الآخرون. يُخرج توم سوذرن منظاره المعظِّم. “لقد كنت هناك بالأسفل. أنت حمقاء لعينة. لقد اصطدموا بلغم. يمكن أن يكون هناك المزيد.” تقول كلوديا: “أنا آسفة. هناك رجل لم يزل على قيد الحياة.” يرد توم: “ما زلت حمقاء لعينة. انتظري هنا… تشامبرز، أحضر الضمادات من الشاحنة.”

يتجه إلى الأسفل نحو الشاحنة، متتبعًا آثار قدمَي كلوديا، وهو يحملق في الرمال على كلا الجانبين. يتوقف مرة، يفحص شيئًا ما، ثم ينهض ثانية. في نهاية المطاف يصل إلى العربة ويشير إلى جيم تشامبرز. يتفرج كل من كلوديا والنيوزيلندي من على التل.

يسألها النيوزيلندي: “هل أنت بخير؟”

ترد: “أنا بخير.”

يعود الرجلان. يقول توم: “لقد بقي هناك يومًا تقريبًا، الفتى المسكين. لا بد أن دوريات البحث قد غفلت عنهم.” ينظر إلى كلوديا. “من حسن حظه إنكِ اخترتِ تلك المنطقة بالتحديد. سوف أعود للشاحنة كي أستدعي وحدة الإسعاف باللاسلكي، وسننتظر حتى يصلوا. لقد فعلتُ كل ما بوسعي من أجله – إنه لا يستوعب الكثير، الفتى المسكين!”

تقول كلوديا: “آسفة لأني كنت حمقاء لعينة.”

يتأملها. “حسنًا، ما زلتِ كلًّا واحدًا متماسكًا. لا تكرري فعل ذلك إذا كنت ترغبين أن تبقي هكذا.”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل السابع من الرواية ـ نُشرت مؤخرًا عن سلسلة إبداعات عالمية 

صدرت رواية ” مون تايجر” للروائية البريطانية بينيلوبي لايفلي في العام 1987، ونالت عنها جائزة مان بوكر في ذات العام. كما رُشحت الرواية في العام 2018 للقائمة القصيرة لجائزة البوكر الذهبية ، وذلك بمناسبة الاحتفال بمرور خمسين عاماً على إطلاق الجائزة

مقالات من نفس القسم