فؤاد الحلو يحاور السمندل

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 15
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

فؤاد محمد إبراهيم الشهير بفؤاد الحلو من مواليد الإسكندرية، واحد  من الذين يكتبون فى صمت، قليل الإنتاج إذا ماقورن بمن يكتبون كل عام نصا ، لكنها القلة لصالح الجودة والعمق، فمادام الكاتب ليس باحثا عن شهرة ولا منشغلا بالأضواء فإنه يجتهد فى تشكيل مشروعه وفق ما يريد هو لا ما تريده الأضواء، ووفق ما يريده الفنان فى داخله لا ما تريده الأضواء ومقتضياتها أو الشهرة وعواملها، وهو ما يراهن عليه كثير من كتاب المدن خارج القاهرة وقليل  ممن يعيشون داخلها ( هناك البعض ممن اعتبروا وجودهم فى القاهرة بديلا عن القراءة والمتابعة والتجويد ومازالت الحياة الأدبية تعانى من هؤلاء الذين يعدون معرفة الطريق إلى مقاهى العاصمة بديلا عن معرفة الطريق إلى الأفكار الجيدة وأن مقاهى القاهرة وشللها البوابة الملكية لعبور الأضواء ) .

 صدر لفؤاد الحلو  من قبل:

  • عناقيد المستحيل رواية 1989.
  • إلا الليل ( مجموعة قصصية ) 2004.
  • شيطان كريستال (رواية ) .
  • الظلال فتات زجاج ( مجموعة قصصية ) .

تأتى رواية السمندل لتضع نفسها تاريخيا فى سياق خط روائى يقارب الأندلس بوصفها المساحة العربية المفتقدة أو حلم الأندلس المفقود، ذلك الخط الذى يمتد من جرجي زيدان (1861- 1914) في روايتيه ” فتح الأندلس 1904″ و”عبد الرحمن الناصر 1909″  ويتوالى عبر أعمال روائية من بينها: الشيخ علي الطنطاوي في “محمد الصغير1939 “،معروف الأرناؤوط (1892- 1948) في روايته  “طارق بن زياد” في العام 1941، عبد الهادي بوطالب ( 1923-2009)في روايته  “وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب 1960 “، و بهاء الدين الطود في رواية “البعيدون1990” واسيني الأعرج في رواية “فاجعة الليلة السابعة بعد الألف 1993” و رضوى عاشور في ثلاثية غرناطة: “غرناطة 1994″ و ” مريمة 1995″ و” الرحيل 1995″،و سلام عبود في رواية “اليمامة، الألفية والآلاف والندامة1999″، علي الشوك في “رواية الأوبرا والكلب1999″، غسان أبو زيد في رواية “المبروكة2001″، ربيع جابر في رواية “رحلة الغرناطي2002”  عبد الجبار عدوان في رواية “راوي قرطبة2006” ،، بن سالم حميش في رواية “هذا الأندلسي2007” ولتقف فنيا فى مصاف الروايات القادرة على جذب الانتباه لا لموضوعها وإنما لطرائق تقديم عالمها .

السمندل حيوان برمائى يشبه الحرباء، ليس تلونه لمجرد الشبه بحيوان نعرف سمته وإنما لقدرته على الحياة فى وسيطين مختلفين: الماء واليابسة، لك أن تسحب هذه الصفات على السمندل التى ستجدها شخصية لها طبيعتها الخاصة حتى على مستوى البعد الجسمانى  مما يوحى باختلاف لك أن تراه تشوها يحتمل التأويل،  تأويل يقوم على أساس أن السمندل رمز للمرأة فى إقامتها الجبرية الطويلة لا من حيث هى نموذج للمرأة ابنة الحضارة الأندلسية والدليل عليها وإنما من حيث هى نموذج للمرأة العربية فى إقامتها الجبرية الطويلة، كما أن السمندل فى تصدرها عنوان الفصل الأول للرواية تجعلك تحتفظ بها بوصفها عنصرا ينضاف إلى بقية العناصر التى تتعدد زوايا رؤيتها فلك أن تراها من زاوية أنثوية بحتة رابطها بالعناصر الأنثوية الأخرى ( سمية الدكر وغيرها من الشخصيات  ) وأن تراها من زاوية دلالتها على الحضارة الأندلسية نفسها، أو من زاوية دلاتها على النموذج العربى المشوه بفعل الفعل العربى لا غيره

الرواية تقف عند محطات تكون بمثابة العلامات الجامعة بين الحقيقة التاريخية والحقيقة الروائية: أولها سيرة الأمير العربي زيدان الحسيني “ابن الملك أحمد المنصور”.الذي يغادر الأندلس، مصطحبا  مخلاته وفيها كتاب السحر الأول (أقراص الزمرد )” كتاب السحر الأم والذى وضعه  (جوزيفوس ) فى القرن الأول الميلادى، وترجمه العرب إلى العربية وهو نسخة غير مطبوعة وإنما مسطرة بخط اليد، فهو إن طبع يفقد خواصه السحرية كما هو مسطر فى صفحاته، تنتهى قوة سحره فى عصور تالية حينما تتكشف بالاختراع آلات الطباعة وهى نبوءة تحققت، يحوى الكتاب الكثير من التعاويذ والترانيم والطلاسم والطقوس لاستدعاء الجان وقوى الشر ” (ص 16) غير أن الكتاب لا يفقد خواصه إن نسخ قارئه بخط يده شريطة أن يكون القارئ من أفقر الناس وأرزلهم  على أن من يطالعه يقف على سر الأسرار وربما يفتح له الطريق إلى العودة إلى ربوع بلاده أسبانيا، ولأن الأمير لا لا يملك مفاتيح الدخول إلى الكتاب، يقع منكفئاً في الغيبوبة فى انتظار المفتاح الذى تمتلكه السمندل المنفية بقرار الإقامة الجبرية، الصادر من كل حكام مراكش، والتى تقبع منذ زمن طويل فى انتظار من يطلبها. لذلك يدفعها الشوق فتعود مع الجفري صاحب الأمير وكاتم سره. والذي بدوره يكون شاهدا على  تبدل حالاتها من عجوز عتيقة ” مقرحة لحم الوجه على عفن مدمم ” إلى حورية حسناء، لا يشوه خلقتها غير سيقانها المشعرة، وأظلافها التي أخذت صورة حوافر بغلتها العيدهور.
تتشكل شعرية الرواية من قدرتها على أن تطرح علاماتها بطريقة تجعل من العلامة فخا للمعنى، للمخيلة أن تكتشف ماهو مكثف وراء العلامة فى سطحها اللامع، إن المفردة الواحدة الآخذة شكل العنصر تكون بمثابة العالم المستدعى استدعاء المشبه به إلى سياق التشبيه، العلامة تأخذ بعدا أيقونيا والشخصية على سبيل المثال تصبح نوعا من العلامة المكشوف سطحها للمتلقى ذلك السطح الذى يأخذه إلى مستوى وهمى فالسمندل فى طرحها الأولى أو الأشخاص الذين تكون أسماؤهم علامة على حضور تاريخى تأخذ متلقيها المتوهم إلى مساحة تاريخية   هنا يمارس المتلقى لعبة الإيهام حيث يجعل  متلقيه ينطلق إلى مساحة التاريخ الماضى ولكنه فى الحقيقة يكون عليه أن تفعل العكس بمعنى لا تسأل عن حضور الماضى ممثلا فى الشخصية أو الحدث فى الحاضر، السارد لا يعود للماضى لطرح أسئلة الحاضر وإنما ينقلك إلى الماضى لتسأل أنت أسئلة حاضرك، إن أسئلة يصوغها السارد لهى أسئلة قصيرة المدى، واحدية الدلالة ولكن أسئلة يجعلك السارد تطرحها أنت لهى أسئلة عابرة للزمن عبور النص إلى وعى اللاحقين قبل السابقين .

تتحرك الرواية بين زمنين متباعدين بين لحظة انطلاق الحدث الأساسى للرواية، بانطلاق السمندل فى رحلتها إلى الخروج من الأندلس وفى منطقة عملت كثيرا على أن تؤرق العقل العربى فى لحظاته التاريخية المتوالية كانت الأندلس وماتزال حلم العربى المؤرق بأسئلة الماضى لعجزه عن التوصل لأسئلة الحاضر، نعم سقطت الأندلس بعد ثمانية قرون ( وهل بعد هذه القرون من زمن كان العرب فى حاجة إليه لتوطيد ملكهم ) إنها أسئلة الأمس التى لم تتخل عنها العقلية العربية لأنها ليست قادرة على أن تطرح أسئلة اليوم، إنها عقلية العربى الذى لا يريد الخروج من ماضيه .

الوصايا العشر

تتشكل مادة الرواية من عشرة فصول: السمندل – مولانا زيدان الحسينى – المجادلة – قبة سعد السعود – تنهيدة (المور) الأخيرة – كوبرى التاريخ – الحافر على الحافر – كباريه الأندلس وكسارة البندق – جهر الصمت – الخروج، ترتبط فى عشريتها من خلال عدد من الروابط الأساسية من أهمها:

  • رابط التدرج من القديم إلى الحديث زمانيا ومن الغرب إلى الشرق مكانيا وتتحول فى منطقة منها أو عند لحظة من إنتاجها دلالتها إلى نظام من العمل السردى المنتج دلالته بقوة طاقاته الترميزية فهى فى درجة من عملها تتشكل بوصفها نظاما من العلامات ذات الدلالة المتشعبة بين أن تكون بمثابة الوصية للأجيال القادمة فى إشارة حادة إلى أن الأندلس بوصفها واقعا فى التاريخ العربى لم تفد منه الأجيال اللاحقة بدرجة ما وهو ما يتبلور فى إشارة حاسمة ذات دلالة صارخة فى عتبة الفصل السابع (الحافر على الحافر) فليس ثمة جديد فى حياة أمة تكرر أخطاءها دون وعى بأنه لك أن تخطئ ولكن ماليس لك هو ألا تكرر الخطأ وأن الذكى من يستفيد من أخطائه والأذكى من يستفيد من أخطاء الآخرين أيضا وهو ماتراهن الرواية على طرحه بقوة عبر الكثير من التفاصيل شديدة الدلالة التى تطرحها عبر رحلة السمندل وصاحبيها من الغرب إلى الشرق بوصفها الرحلة الارتدادية المعاكسة للرحلة الأولى، لقد انتقل العرب إلى الأندلس عبر رحلة قوامها ثمانية قرون فماذا حملوا معهم فى رحلة العودة ؟.
  • رابط الدلالة العميقة بين الفصول مما يجعل الرابط الداخلى مبررا للرابط الخارجى ( السطحى ) ومن الروابط العميقة تتجلى الفصول عبر عدد من المقولات النصية التى تكاد تشكل مادة من الوصايا العشر التى تتبلور فى سياق كل فصل على حدة لتشكل فى النهاية مادة لها طبيعتها الخاصة فى سياق المتن الروائى، وعلى المتلقى ألا يتجاوزها بوصفها مقولات النص ذات التأثير فى تشكيل العالم وفق رؤية السارد، لك أن تراها منفصلة أو متصلة، ومتجاوزة أفق النص نفسه، وهى تتوالى على الترتيب التالى:
  • الفصل الأول: السمندل: ” إن أصدق ما كتبه العالم، كان بتعقب نثار رماد حرائق الكتب ” ص 14 .
  • الفصل الثانى: مولانا زيدان الحسينى : “احفظ السر تحفظ حياتك ” ص 34.
  • الفصل الثالث: المجادلة: ” من السهل أن نؤمن بكذبة سمعناها من قبل ألف مرة من أن نؤمن بحقيقة لم نسمع بها من قبل ” ص 44.
  • الفصل الرابع: قبة سعد السعود: ” قد يتسع الإصيص لزهرتين مختلفتين، لكن العالم يضيق بقاتل وقتيل، بظالم ومظلوم، فلا تكن واحدا منهما ” ص 51.
  • الفصل الخامس: تنهيدة المور الأخيرة: ” الأقوى هو الذى لا يملك شيئا ليخسره ” (ص 56).
  • الفصل السادس: كوبرى التاريخ: ” طأطأ الجفرى رأسه وهمس: – طردنا منها، وأصبحت ملكا لغيرنا، لطمت صدرها: أنا ياللى اسمى أنا، معايا حجة خرابة الكارانتينا، دفعت الجفرى للخلف، فهوى فوق كرسيه، وقالت: – اقعدوا .. اقعدوا جاتكو ستين ألف نيلة، لا حصلتوا قصور ولا حتى كارانتينا “(ص 77 ).
  • الفصل السابع: الحافر على الحافر: يمثل العنوان فى حد ذاته صيغة دالة للتعبير عن واقع الحال الذى لم يتغير على الرغم من مرور الزمن والسارد يطرح مشهدين يقومان بدور العصب للفكرة ويشكلان نوعا من العماد الأساسى للنص بكامله، مشهد الصراع بين ملوك الطوائف، والراع بين المرشحين والحزاب فى العصر الحاضر والسارد يبدأ من الحاضر بوصفه واقعا متعينا: ” فى العام الفائت جرت الانتخابات فى حيدة ونظام تنازعت التيارات والأحزاب على الفوز، وتصارعت كل الاتجاهات، لكن التيار الإسلامى المتشدد شهد رواجا وإقبالا لم يسبق له مثيل، تزاحمت المنقبات والمحجبات المؤيدات للإسلام الأصولى بصورة أهاجت فى النفوس المتنافسة قلقا وهواجس، فإذا بإحدى المنقبات تندس بينهن تفتعل المشاجرات تدفع الزحام تجذب النسوة تنزع عنهن نقابهن وأحجبتهن والاتيان بأفعال تخدش الحياء …. هاج الزحام وماج وكان ما كان فسقط التيار” ( ص 83) وهى شهادة يطرحها السارد دون أن يضعها على لسان واحدة من شخوصه خلافا للمشهد الماضوى الذى يضعه على لسان الأمير بوصفه القادم من الغرب ممتلكا سلطة الشهادة على مرحلة تاريخية ليست بعيدة عن المشهد الراهن الذى فرض نفسه بقوة على الأحداث وهى شهادة يودعها بوصفها أمانة أو رسالة للعصر وهى رسالة لن يكون للمشهد اكتماله بدونها:” دعينى أكمل لك .. كان عصر تفكك وانحلال سياسى واجتماعى شامل قامت ملوك الطوائف على أنقاض الأندلس الكبرى، تتسم كل طائفة بسمة الملك، تزعم كل منها لنفسها الاستقلال بشؤونها وقادرة على الحياة بمفردها، كانت الطوائف أقرب إلى وحدات الإقطاع وإلى عصبة الأسر القوية ذات العصبية، كانت عبارة عن قصور مترفة، ناعمة غلبت على حكامها الأثرة والأهواء نسوا فى غمارها وطنهم ودينهم بل نسوا حتى  اعتبارات الكرامة استساغوا لأنفسهم أن يتراموا على أعتاب ملوك النصارى يستعدونهم على بعض وهم مسلمون ” ( ص 85 ) ليس التطابق شبه التام بين المشهدين هو الممثل الوحيد للعلاقة بينهما وإنما يمكنك قراءة المشهدين متبادلين مستبدلا العلامات أو مغيرا مواضعها لتجد أن ملوك الطوائف هم من يعيشون فى الواقع وأن تنازع التيارات والأحزاب هو الصراع فى صورته الماضية  لتتكشف لك الشفرة الداخلية للمشهدين ومن ورائها الشفرة الداخلية للنص بكامله فى استخدامه التاريخ تفسيرا للظواهر الحاضرة وتأكيدا على أن العتبة النصية ” الحافر على الحافر” هى ترجمة لقول الشاعر “

فَكُلُّهُم أَروَغُ مِن ثَعلَبٍ       ما أَشبَهَ اللَيلَةَ بِالبارِحَة

  • الفصل الثامن: كباريه الأندلس وكسارة البندق فالذاكرة العربية لم تعد تحتفظ بالأندلس سوى فى الملاهى الليلية، وهو اختزال مخل لا يتوقف عند هذا الطرح وإنما يتعداه إلى اختزال رجولة الشخصية العربية الجديدة فى موطن فحولتها فقط وهو ما تمثله شخصية مشعل ( بكل ما يحمل اسمه من دلالة ) وقد فتح حوارا حضاريا مع القادمين من الغرب وانغمس فى علاقات الرزيلة التى فجرت لديه:” غرورا برجولته التى تخطى عتبتها وهو لم يزل صغيرا لم يبلغ العشرين من عمره ” (ص 94 ) و ليمثل شكلا آخر من أشكال الاختزال المخل حيث يتخذ منه بعض البحارة نموذجا للفحولة الزائفة ويصورونه فى أوضاع مخلة ويتناقلون شريط الفيديو من شرق أمريكا الأطلسى حتى غرب كاليفورنيا:” وعرف الشريط باسم (ناط كراكر ) .. كسارة البندق ” ( ص 93 ).
  • الفصل التاسع: جهر الصمت، والعنوان بما يحمل من التباس بين لفظين متضادين يشكل نوعا من الخلل فى الذاكرة العربية بكل متناقضاتها وبكل قدراتها على نسيان الأخطاء ومن ثم تكرارها:” حقا ليس الماضى كل ما مضى وما حاق بكم فهاكم ألف أندلس تسقط الواحدة تلو الأخرى ” (ص 101) والسقوط هذه المرة ليس خارج الوطن بقدر ما هو فى داخلها وما سقوط سمية الدكر سوى حالة رمزية للأندلس الجديدة بكل ما تحمله من سقوط حضارى وسمية التى تعيش مما تصدره البلاد للخارج وهى  بوصفها مواطنة مصرية أولى من غيرها بهذه الخيرات المصدرة والرواية حين تطرح الأسئلة الحادة تفجر ما يمكن أن يسمى صمت اللحظة: أين حقها كمواطنة تقتات على ما تخرجه مصر إلى الخارج كيف تأكل افواه غيرها وهى بنت مصر جائعة ؟ لا دخل لها بما يقع من سرقات داخل مصر، لصوص بنوك، لصوص قروض، لصوص مناور، لصوص سطوح، هى هنا على الحافة، تدير ظهرها لما يسرق خلفها لا يخصها ” ( ص 103 )
  • الفصل العاشر: الخروج: وهو عنوان يستدعى أشكال الخروج القديمة فى تاريخ البشرية وما ترتب عليه من صعود، وفى طيات الخروج السمندلى ( نسبة إلى السمندل ) تكمن قيمة يطرحها الفصل بوصفها أيقونة الخروج :” الحالم من يبحث عن الكواكب فى الطين” (ص 112) إلى ينتهى حلم الأندلس بانتهاء الحضارة الجديدة فلا العرب نجحوا فى الأندلس ( إذ هو نجاح مؤقت لوحسب بمقاييس النجاح ) ولا هم نجحوا فى المشرق فالصورة التى تشكل التقاء الحضارتين ( الأندلسية البائدة والمشرقية الراهنة ) تتجسد عبر لقاء الأرض بين القادمين من الأندلس والقائمين فى الكارنتينا التى تعنى الحجر الصحى لفحص القادمين من خارج الوطن محملين بأوزار الماضى تلك الأوزار التى لا تنفك تتكرر فى لحظة تاريخية أخرى يجمع بينهما الكثير مما اهتمت به الحضارة السابقة وهى تنتقل إلى الغرب ثم وهى تعود محتفظة بتفاصيل من ثقافة الصحراء لا بوصفها شكلا حضاريا وإنما بوصفها شكلا من أشكال التخلف التى لم تعد صالحة للحظة لها طابعها الحضارى المغاير فقد نقل العرب السحر من الشرق إلى الأندلس وبعد قرون عادوا به إلى المشرق ولم تكن التعبيرات التلقائية التى عبرت بها سمية إلا تأكيدا لهذه الثقافة الصحراوية، ثقافة التيه المنفصلة عن كل سياق حضارى:
  • منكم لله سايبينها كده، اتلطت فى عمل سحر أرضى شمهورش، علاجها عندى، لازم تتعالج ” (ص 82) هكذا تجسد سمية تفكير أبناء القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين بصورة لها مرجعياتها ولها مكوناتها القادرة على طرح أسئلة جديدة تتبلور فيما يمكن أن يقوله من يراقب عقلية سمية ابنة إسكندرية القرن العشرين فى تفسيرها لظواهر ماضية كاشفة عن أن طرائق التفكير القديم ما تزال صالحة للعمل فى عقول أبناء هذه اللحظة .

تطرح الرواية عددا من العلامات التى تؤسس لرموز الرواية وتؤكد طاقة الرمز فيها، وهى علامات تجمع بين:

  • المكانى: الكارنتينا وميناء الإسكندرية وكباريه الأندلس و كوبرى التاريخ وهى علامات مكانية يجمع بينها سياق زمنى وتشكل لحظة حضارية داخلة فى عمق السياق بما تحويه من ملامح مكانية تحتفظ بإشاراتها الزمانية كما هو الحال فى كوبرى التاريخ الذى يمثل معبرا مكانيا لا يتخلى عن أن  زمنيته وعن كونه يحمل رابطا زمنيا بين الماضى المشتعل والحاضر الأكثر اشتعالا ففى الماضى كان العدو هو الآخر الحضارى القادم من الشاطئ الآخر  (الأوربيين ضد العرب ) وفى الحاضر بات العدو قادما من  الداخل وتحول الصراع إلى نوع من الصراع الطبقى (طبقة حاكمة متسلطة ضد شعب فقير مستسلم )   .
  • الشيئى: الكتاب، و يعد الكتاب أول العناصر التى تتصدر السرد ليكون طرحه قبل بداية الفصول بمثابة الإعلان السردى الموجه للمتلقى الذى يكون عليه أن يحمل هذه العلامة إلى داخل النص جاعلا منه السارد نوعا من أنواع التفاعل مع النص القائم على وضع مجموعة من المحددات الأساسية فى سياق التلقى منذ البداية: غروب شمس يوم 30 يناير 1612 (بعد توقف نفى العرب من الأندلس بعامين (1610) والتاريخ شديد الدلالة على ما آلت إليه الأمور فى الأندلس المنهارة )، يقتحم الجفرى قاعة قبة السعود على مولاه الأمير زيدان الحسينى معلنا استيلاء الأسبان على سفن الأمير وما فيها من كتب تقدر بثلاثة آلاف كتاب نقلوها إلى مكتبة الأوسكوريال ولم يتبق للأمير من الكتب سوى ما حوته مخلاته الخاصة بعدها كان رد فعل الأمير الدخول فى غيبوبة فوق الكتاب الذى كان يطالعه، وبعدها يكون للعلامات المتراكمة فى أفق المتلقى قدرتها على تقديم النص فى كليته بوصفه منتجا يتآلف من هذه العناصر التى تشكل بدورها تجربة العرب فى الأندلس .
  • البشرى ويتشكل من مادة ثلاثية الأجنحة إذ تطرح الرواية ثلاثة أجيال يجمعها زمن واحد ومكان واحد وإن تفرقت بها السبل وتشتت بها الأفكار:
  • جيل وافد من خارج الزمان والمكان ويضم ثلاثة (السمندل – الأمير زيدان الحسينى – الجفرى خادم الأمير) ويمثلون جيل الأجداد على اتساع المرحلة التاريخية التى يعبرون عنها .
  • جيل مقيم وهو جيل الآباء و تمثله سمية الدكر والمهندس وبقية الشخصيات التى تكاد تشكل قوة خفية صانعة للأحداث ولا نرى إلا نتاج عملها ممثلا فى واقع دال على لحظة تاريخية تتسع لاستيعاب الأجيال الثلاثة .
  • جيل الأبناء ويمثلهم مشعل ابن سمية الدكر ومعه ابنا المنجد وهو جيل لا يمثل تطورا طبيعيا للأجيال السابقة والراوى يريد أن يشير من طرف خفى إلى أن سقوط الأندلس كان بداية لسقوط لم يتوقف ولم تنته توابعه أو أن سقوط الأندلس يتكرر تلقائيا لأن عوامل السقوط وأسبابه قائمة وأن الظروف متاحة عربيا للتكرار فنحن شعوب يطيب لها أن تكرر أخطاءها كما يطيب لها أن تعبد ماضيها وتقدسه وتسير على نهجه دون مواربة أو محاولة للتغيير بدرجة ما وهو ما يجعل من الحياة العربية نمطا واحدا لا تغيير فيه ولا تأثير لمكتسبات من تقدم أنجزتها البشرية فى تاريخها الطويل فالزمن العربى يتسم بالدائرية ما حدث يتكرر ونقطة البدء هى نقطة المنتهى خلافا للزمن الذى يمثل خطا مستقيما أى نقطة متقدمة فيه لا تشبه النقاط المتأخرة ولا تتطابق مع نقطة البدء .

لزمن كانت الأندلس حلما قبل ان تتحول إلى رمز لحلم حبيس خيال الأدباء والشعراء يفرض نفسه على أقلامهم، فتتناقله الأجيال شهادة على عصر مضى وحضارة تفككت، تماما كما عبر عنه فؤاد الحلو على لسان الدون تعبيرا عن حال العرب:” صدق المطران لم يبق لديهم من أسبانيا سوى مرثية (الرندى ) مكثوا قرونا بأرضنا وخرجوا فقط بمرثية:

وَصارَ ما كانَ مِن مُلكٍ وَمِن مَلكٍ       كَما حَكى عَن خَيالِ الطَيفِ وَسنان

تنهد الكاردينال محدقا فى اتجاه الجنوب وقال:

  • أخشى أن يصحو هذا الوسنان .. من عميق نومه ” (ص 17) .

و يؤكد فؤاد الحلو أن خشية الكاردينال لم تتحقق على أرض الواقع بعد فمازال الوسنان فى عميق نومه حتى ليعتقد الناظر إليه أنه فارق الحياة .

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)