عن القصيدة الخرساء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 10
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود عزت

منذ أسابيع صدر للشاعر الكبير , السيد: أحمد عبد المعطي حجازي , كتابا أنيقا عن سلسلة " كتاب دبي " عَنْوَنه كالتالي : "قصيدة النثر, أو القصيدة الخرساء " , و أهداه إلى " شعراء الأجيال القادمة على اختلاف إجتهاداتهم و مراميهم " , و بالتالي لم يكن أمام هؤلاء الشعراء إلا أن يقرأوه بعناية فائقة و بحساسية خاصة تليق بكتاب عن الشعر كتبه شاعر كبير . أما عمّا يمكن فعله في الحقيقة إزاء عمل نقديّ كهذا فلن يكون أكثر من تسجيل الملاحظات البسيطة :

1_ سوء تفاهم كبير..

الملاحظة الأولى في الواقع تتعلق بوجود سوء تفاهم كبير بطول الكتاب , لا يمكن تجاهله أو حتى التظاهر بعدم وجوده , بين الشاعر الكبير و شعراء قصيدة النثر , إلى الحد الذي يدفعني إلى افتراض أن حلّ سوء الفهم هذا كان سيوفّر على حجازي ربما كتابة ثلث أو نصف كتابه , الذي يشير فيه حجازي أكثر من مرة إلى رغبة شعراء قصيدة النثر في احتكار المشهد الشعري ّ كاملا و إقصاء القصيدة الموزونة تماما لحساب قصيدة النثر الجديدة , يقول حجازي : ” باستطاعتنا أن نقول أن الشعراء الشعراء الفرنسيين نجحوا في كتابة قصيدة النثر لأنهم لم يسعوا إلى إحلالها محل القصيدة الموزونة كما يحاول بعضهم أن يفعل عندنا ” صـ 45 , و يقول أيضا : ” فإذا كانت ظهرت محاولات لكتابة شعر بغير وزن فنجحت أحيانا و فشلت أحيانا , فلن يغير نجاحها هذا من القانون شيئا , و لن يقنعنا بأن التراث الشعري كله باطل و أن الشعر لم يتحقق إلا الآن ” ص 59 , فقط كل ما أريد أن أقوله أنه يمكن للشاعر الكبير أن يستوقف أي “شاعر نثر ” في الطريق ثم يسأله بصرامة عن رأيه في القصيدة الموزونة وفي تراثنا الشعري العظيم , لا أتوقع إجابة أكثر تفصيلا مما قتل قولا و بحثا و تلميحا في مقالات و كتابات بل و قصائد شعراء النثر , من أنهم أبدا لا ينكرون أهمية ولا جماليات القصائد الموزونة ولا عمق و شاعرية تراثنا الطويل بل وربما يزيد أحدهم أنه ما كتب قصيدة النثر إلا بعد أن كتب و أجاد في العمودي و التفعيلة و اطلع على أشعار الأقدمين و الملعقات حفظا و دراسة , مما يمنحه الشرعية الشعرية لكتابة أي شئ بعد ذلك .

لا أفهم في الحقيقة كيف يرى حجازي أن أنصار قصيدة النثر يحاولون إحلالها بديلا حصريا عن قصيدة الوزن , هل منعوا شعراء قصيدة الوزن مثلا من المشاركة في مؤتمر الشعر الرسمي في الأوبرا العام الماضي فأقام شعراء الوزن مؤتمرا بديلا يفرّجون فيه عن أنفسهم و يلقون أشعارهم ؟ أم يفكر “شعراء النثر السلطويون ” هذه الأيام في إقصاء شعراء الوزن مرة أخرى من مؤتمر الشعر المزمع إقامته مارس القادم تحت عنوان ” الشعر الآن ” , على الرغم من أن موقفا كهذا _إن حدث_ ربما يبدو مقبولا أو مفهوما بناء على ما يؤكده حجازي نفسه من ” طغيان قصيدة النثر ” مقابل ندرة الموزون في الإنتاج الشعري الآن …

2_ تسامح عظيم ..

موقف الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي من قصيدة النثر واضح و صريح , هو لا ينكر حق أي أحد في كتابة قصيدة النثر , لكنه في الوقت نفسه يعتبرها شعرا ناقصا , على الرغم من اعترافه ص 44 بأن” قصيدة النثر أنتجت نصوصا جديرة بالقراءة لكنها ورود نادرة في شوك كثير أو حبات ناضجة في حصرم حامض ” , و على الرغم من كون النصوص الشعرية الجديرة بالقراءة الآن نادرة كذلك في أشكال الشعر الأخرى كالعمودي و التفعيلة , بل أكثر ندرة في الحقيقة , إلا أن اعتراف الشاعر بنصوص كهذي في “الخرساء” له دلالة أكثر عمقا , وهو أنه هناك إحتمالية ولو بسيطة , لو توفّر لنا عدد غير قليل من الشعراء العظام الذين يقنعون “حجازي ” بشرعية قصيدة النثر, أن يتغير رأيه فيها من “شعر ناقص ” إلى “شعر كامل النمو ” , كما حدث مع قصيدة النثر الفرنسية التي ” اكتملت “على يد بودلير و حظيت باعتراف الناس كما يقرر حجازي ص 45 .

ليس هذا فقط , بل حجازي يعلن أنه ليس ضد ” النثر ” ولا أن تستفيد منه القصيدة , مما يضع شعراء الأجيال القادمة في مأزق حقيقي : نواصل كتابة الخرساء على أمل الوصول بها إلى ” نمو كامل ” ؟ , أم أنها “خرساء ” إلى الأبد لا نفع فيها ؟ أزمة شعراء ؟ أم أزمة أسلوب ؟, هذا ما يبدو ملتبسا قليلا في موقف حجازي من قصيدة النثر..

3_ مأساة الإيقاع ..

قسم كبير من الكتاب , يناقش مسألة الإيقاع , حيث يعلن حجازي بوضوح ” الإيقاع هو الشاعر ” , مختلفا حول تعريف الإيقاع و مفهومه مع المفكر الكبير محمود أمين العالم , مؤكدا على كون الإيقاع عمودا أساسيا للشعر لا يصلح الأخير بدونه , و ذلك وفقا لتعريفه الخاص للإيقاع الشعري..

و بعيدا عن تفاصيل النقاش العميق و الهام بين الكبيرين “حجازي” و ” العالِم ” , إلا أنني ارتبكت كثيرا خلال تتبعي لمفهوم حجازي و تصوره عن الإيقاع , فهو يقرر أن ” الإيقاع لا يمكن أن يكون وحده دالا على شئ , و إنما يكون نشيطا أو خاملا , يطيئا أو سريعا …بما تدل عليه الكلمات التي يتجسد فيها ” ص 135 , ثم يعود ليستشهد بقول هوراس , ص 145 , الذي يتحدث فيه عن بحور الشعر المختلفة من أن ” المقطع الطويل المسبوق بمقطع قصير يدعى إيامبوس , وهو تفعيلة سريعة ” , أي أنه يمكن للإيقاع أن يتم وصفه منفردا , معزولا عن محتواه اللفظي , بصفة السرعة أو البطء , كما وصف هوراس البحور الإيامبية , بل كما يصف حجازي نفسه في سياق حديثه عن الإيقاع عموما , ص 163 , “الإيقاعات تختلف سرعة و بطئا و رخاوة و توترا “..!

و دون شك , قد تتفاوت الإيقاعات سرعة و بطئا , إلا أن ما قرره حجازي أولا من قدرة الشاعر على خلق “الإيقاع الخاص ” في قالب ثابت منتظم و يمكن التعبير عنه بوحدة زمنية ثابتة : ” البحر الشعري ” , و دلل عليه بالتفاوت الواضح بين إيقاعي بيتين على نفس البحر أحدهما لإمرئ القيس و الأخر لأبو نواس , كل ذلك في النهاية لا يؤكد إلا ما ظل ” العالِم ” يشير إليه في ردوده الطويلة على حجازي من إمكانية وجود “إيقاع خاص ” في معزل من الإنتظام الزمني , بالضبط كما تمكن كلا من إمرؤ القيس و أبو نواس من فرض إيقاعا خاصا مختلفا على وحدة زمنية ثابتة ” بحر الطويل ” , فقط عبر الأسلوب و اللغة الشعرية الموحية . وهو الأساس الذي تقوم عليه فكرة الإيقاع في قصيدة النثر .

4_ من ذا يكررني ؟!

يلوم ” حجازي ” المفكر ” محمود أمين العالم ” على تعبيره عن إيقاعات بحور الشعر العربية بصفات كالبطء و الجمود و النمطية , و هو ما تنطلق منه فكرة البحث عن أساليب و أشكال جديدة للتعبير , أنسب لموضوعات الشعر الجديدة و لهجته المختلفة , إلا أننا نجد الشاعر ” حسن طلب ” , في معرض مؤازرته لحجازي في رسالته المنشورة في نهاية الكتاب , يصف نفس البحور بالـ “رتابة الإيقاعية ” فيقول على سبيل المثال : ” ولعل قصيدة التفعيلة , و قد نجحت في أن تحرر الشعراء أخيرا من رتابة هذه البحور , تجسد آخر حلقة في سلسلة من المحاولات ذات تاريخ طويل ” , أي أن وصف بحور الشعر العربي بالرتابة الإيقاعية ليس مقصورا فقط على أنصار قصيدة النثر , بل كانت “التفعيلة ” , التي كان حجازي أحد روادها الأوائل , ثورة على هذه الرتابة و تحطيما لها بحثا عن أسلوب جديد يناسب روحا جديدة , بالضبط كما يقول في قصيدته التي هجا فيها ” العقّاد ” و موقفه المتصلّب من ” شعراء التفعيلة ” :

تعيش في عصرنا ضيفا و تشتمنا….أنّا بإيقاعه نشدو و نطربه

” حجازي ” يعلن في كتابه : “شرف لا أدعيه و تهمة لا أنكرها “, و ذلك بشأن الحديث عن تكراره لموقف العقاّد من التفعيلة مع شعراء قصيدة بل و يضيف : ” إن الموقفين متشابهان لكنهما غير متطابقين ” و ” لنفرض أني أكرر العقاد , فمن ذا الذي يكررني “…

فأما عن التشابه فيكفي أن نعرف أن ” العقّاد ” تسبب في إقصاء شعراء التفعيلة : ” حجازي ” و ” صلاح عبد الصبور ” عام 1961 من مهرجان الشعر الذي يقيمه ” المجلس الأعلى للفنون و الآداب ” في دمشق , و أما عن التكرار فنتمنى ألا يكرر شعراؤنا المستقبليون الكبار أي أحد , فالأمور دائما قد لا تسير في الإتجاه الصحيح , مما كان قد يعني ربما افتقادنا لتطوّر شعري هام كالتفعيلة .

مقالات من نفس القسم