عن “الجرائم الحقيقية”، والناقد الذي يحارب سلطة النقاد

81.jpg
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

أريد أن أبدأ عودتي لكتابة سلسلة مقالات “نقد استجابة القارئ العربي” بإعادة نشر قصتي القصيرة “الجرائم الحقيقية”، والتي نُشرت في أنطولوجيا السرد العربي منذ فترة قصيرة .. إعادة النشر هذه لا ترجع فقط إلى ارتباط القصة بالمشروع الذي بدأته على موقع “الكتابة” الثقافي في شكل باب أسبوعي بداية هذا العام، وإنما إلى علاقتها أيضًا بـ “نكتة” لم أتحدث عنها في وقتها، وهي أن فيسبوك قد قام بحذف “الجرائم الحقيقية” من صفحتي في اليوم التالي لنشرها، بناءً على بلاغات وردت إلى إدارته بحسب الرسالة التي تلقيتها، قبل أن أنجح في إعادة القصة إلى صفحتي ثانية .. من الذي يرغب في حذف هذه القصة، ويعمل على تحقيق ذلك بالفعل مع آخرين لديهم رغبة مماثلة عن طريق تقديم “بلاغات”؟ .. “الجرائم الحقيقية” لا تعطي فقط إجابة لهذا الاستفهام، وإنما تبيّن كذلك كيف يمكن لهذه البلاغات أن تؤكّد ما تضمنته هذه القصة.

أتذكر أنه منذ عام تقريبًا وفي إحدى الندوات؛ بدأ أحد الحاضرين مداخلته تعقيبًا على المحاضرة التي ألقيتها بوصفي “الناقد الذي يحارب سلطة النقاد” .. حسنًا .. هذا يشعرني بالسعادة، ولكنني سأضيف شيئًا أساسيًا؛ هناك العديد من النقاد الذين يدركون جيدًا تقديري لهم، حيث يعيشون بالفعل خارج الحفل الذي أقيمه على كل المنتفخين بسلطة النقد كفقاعات تعيسة، وتمنحني استجاباتهم الخفية والمعلنة عبر فيسبوك ـ مثلًا ـ تجاه ما أكتبه ضد أوهامهم الاستعلائية سعادة مضاعفة.

الجرائم الحقيقية

تواصل معي على فيسبوك محرر صحفي يعمل في مطبوعة ثقافية عربية راغبًا في إجراء حوار عن مشروع “نقد استجابة القارئ العربي” الذي أنشر مقالاته في باب أسبوعي على موقع “الكتابة” الثقافي. كعادتي طلبت منه قائمة بجميع الأسئلة حتى أرسل له إجاباتها دفعة واحدة في الموعد المحدد، على أن أقوم بالرد على أي استفهام أو استفسار جديد يطرأ في ذهن المحرر بناءً على تلك الإجابات. بعد أسبوعين تقريبًا تم نشر الحوار، وكان كالتالي:

الناقد ممدوح رزق: القارئ ليس إلهاً، وجودريدز قوّاد كتب

في مطلع العام الحالي بدأ الناقد ممدوح رزق في كتابة سلسلة مقالات أسبوعية لموقع الكتابة الثقافي تحت عنوان (نقد استجابة القارئ العربي). حول هذا المشروع كان لنا معه هذا الحوار:
ـ لا تخلو مقالات (نقد استجابة القارئ العربي) من السخرية، إلى من توجهها تحديداً؟
هي سخرية من إيمان القارئ بأن فكرته الشخصية عن العمل الأدبي، وعن الكتابة بشكل عام بمثابة حقيقة مطلقة، وما قد يتبع هذا الإيمان من ممارسات عقابية تجاه الكاتب، ومحاولات فرض الوصاية على القرّاء الذين لديهم أفكار مختلفة، وكذلك من السلطة المعرفية التي تستثمر هذه الألوهة المزعومة للقارئ.
ـ ما هى ممارسات عقاب الكاتب التي تقصدها؟
في سلسلة المقالات تناولتها بشكل تفصيلي، ويندرج في إطارها الريفيوهات العدائية التي تتعمّد إهانة العمل الأدبي وكاتبه تحت دوافع أخلاقية أو دينية مثلًا، والتحذير من قراءة هذا العمل، والهجوم على المقاربات النقدية التي تحتفي به، وحتى التعقّب “القانوني”، وبالطبع تتفاوت مستويات اللغة أو حدة “البلاغة” المستخدمة في هذا العقاب.
ـ خصصت جزءاً كبيراً من (نقد استجابة القارئ العربي) لموقع جودريدز، كيف تعرض رؤيتك له الآن؟
موقع جودريدز ـ وما يشبهه ـ بالنسبة لي مجرد قوّاد كتب، يقوم على آليات انتهازية سخيفة، تستغل رغبة القارئ في تجاوز فرديته أو فضائه الخاص إلى المساهمة الأبوية في تحديد يقين عام عن الكتاب حتى لو لم يسبق له الاطلاع عليه أصلا، أو بحسب كم الحسابات المغشوشة التي يمتلكها على الموقع؛ ولهذا فمن العادي جدًا أن يعطي أحدهم لكتابك نجمة واحدة لأنك قمت بحظره على فيسبوك مثلًا، أو لأنك لم تكتب مقالًا عن الرواية التي أرسلها إليك، أو لأنك تهكمت عليه في أحد نصوصك، أو لمجرد الغيرة؛ لذا فتقييم الأعمال الأدبية بالنجوم مسألة تزييفية سمجة، وجديرة بالازدراء. الكاتب لا يقدم وجبات طعام، أو خدمة فندقية، ولا يكتب إرضاءً للجميع أو لأحد بعينه كي يكون للآخرين الحق في التعامل مع كتاباته بمنطق النجاح والفشل.
ـ ما هي علاقتك ككاتب بموقع جودريدز، وهل مازلت تستخدمه؟
تحدثت في أحد مقالات “نقد استجابة القارئ العربي” عن علاقتي بجودريدز، وذكرت أنني أضفت كتبي إلى الموقع عام 2009 ، وكنت أنشر أحيانًا قرءاتي النقدية به، ولم يكن الغرض كذلك ـ كما سبق وكتبت ـ هو قراءة التدوينات حول الكتب فحسب بل تأويل هذه التدوينات أيضًا، مراقبة سلوكها اللغوي، النطاقات التي تتحرك في حدودها، والمقارنة بينها. كان الغرض هو اقتفاء أثر ما تتبناه، وما تهمله، وتفسير الدوافع وراء ذلك. منذ فترة طويلة لم أعد أتصفح هذا الموقع إلا نادرًا، ولا يزال القراء يضيفون كتبي إليه، وأحيانًا لا أعرف بذلك إلا بعد مدة كبيرة.
ـ هل تهتم بمراجعات القراء عن أعمالك؟
لا أهتم سوى بالآراء والمقاربات التي تحاول اكتشاف وتشريح نصوصي، وتعيد خلقها لا أن تحاكمها؛ فمن السذاجة والعبث أن تنظر بجدية لمن يحاسبك على تجارب لا يعرف عنها شيئًا، أو على مخالفتك لما يظنه بتعنّت طفولي قواعد مقدسة للكتابة، أو على ما يعتبره ـ بمنتهى النطاعة العمياء ـ تعاملًا خاطئًا من جانبك مع آلامك الشخصية. “نقد استجابة القارئ العربي” يفكك هذه الأساطير المرتبطة بالتلقي، ويكشف مدى هزليتها وبؤسها، وهو في ذلك يطمح لكتابة تاريخ آخر للجماليات الأدبية والنقدية يجرّدها من الأوهام التحريمية المعتادة.
ـ ماذا تطلق إذن على سبب عدم تجاوب القارئ مع كتاب معين؟
أطلق عليه تباينًا في طبيعة الرؤى .. اختلاف الموقف الوجودي والجمالي من العالم .. عدم التوافق في الإدراك أو التفسير أو الاعتقاد .. الانفصال عن تاريخ مغاير لا يتحمّل أحد مسؤوليته .. غياب التفاهم أو الانسجام بين وعي بالحياة والموت ووعي آخر لا ذنب لأحد فيه .. لهذا فإنني لا أحترم القارئ أو الناقد المتزمت الذي ينصّب نفسه قاضيًا على نص لا يمتلك أدنى فكرة عن الماضي الذي أنتجه، وبدلًا من أن يُرجع عدم التوافق بينه وبين النص إلى انتفاء المساحات المشتركة أو الجسور التحريضية، فإنه يردّه بالسهولة العفوية السطحية والمتعالية إلى ما يُسميه “أخطاء الكاتب”، كأن هذا القارئ أو الناقد يمثل الصواب الأدبي في ذاته، وعلى جميع الكتّاب أن يعملوا لإرضاء ذائقته هو تحديدًا ومن يشابهه.
ـ ماذا عن كتابتك النقدية؟ هل لديك معيار مختلف لقراءة النصوص؟
في عملي النقدي لا أعيّن نفسي حاكمًا على كاتب أو مقيّما لجهده أو مصححًا لنصوصه أو أيًا من تلك الاعتداءات الوضيعة التي يحتاجها الكثيرون لإخفاء عجزهم، وإشباع نقصهم. إما أن يكون في العمل الأدبي ما يحفزني على تحليله، ويغريني باللعب التخييلي مع رموزه وعلاقاته، واقتياده إلى مناطق جدلية أبعد مما قد تقترحه التأويلات المباشرة، أو لا تنشأ هذه الصلة النفسية، أو يومض هذا الاستفزاز الذهني، وحينئذ لا أكتب عنه فحسب، وربما مؤقتًا وليس نهائيًا .. هكذا يتم الأمر بالنسبة لي ببساطة وفي صمت، دون استغلال لما يُطلق عليه “نقاط الضعف في العمل” كي أصدح بحكمتي الأدبية التي يجب أن يراعيها الجميع.
ـ تحدثت أيضاً في (نقد استجابة القارئ العربي) عن تدوينات القراءة. كيف أثبتت هذه التدوينات عدم وجود فرق بين القراء الذين يكتبون المراجعات والنقاد الأكاديميين حتى الذين لديهم مكانة معروفة في الحياة الثقافية العربية؟ 
لا يقتصر الأمر على الأكاديميين تحديدًا .. نعم هم نقاد لا فرق بينهم وبين القراء الذين لا يقدمون أنفسهم كنقاد .. أجيال متعاقبة عاشت بمعنى الكلمة عالة على النقد الأدبي بفضل هذه السلطة: “فشل الكاتب في كذا”، “أخفق الكاتب في كذا”، “لم ينجح الكاتب في كذا”، “هذا عمل مبتذل”، “هذه كتابة رديئة”، “هذا كاتب يسعى للشهرة”، “نحن في فوضى أدبية تسمح لكل من هب ودب بالكتابة” … إلخ، وعلى جانب آخر ـ وهذا منطقي ـ تجدهم بارعين تمامًا في كتابة ملخصات للأعمال الأدبية، وفي إخضاع النصوص للدلالات المستهلكة، وتدوير المعاني التقليدية المغلفة أحيانًا بالتحذيرات الرقابية .. الناقد بالنسبة لي هو الذي يكشف العمل الأدبي، أو الفيلم السينمائي لكاتبه أو مخرجه مثلما يكشفه للقارئ أو المتفرج تمامًا،. يضيء احتمالات ملهمة، ولا يتوقف أمام التأويل السهل والمتداول للرموز بل يفكك السياقات الجاهزة، ويضع علاماتها الواضحة في نطاقات استفهامية، خالقًا فيما بينها علاقات مبتكرة ضمن “كتابة موازية” تشتبك حقًا مع النص.
ـ ما سبب توقفك عن كتابة الباب، وهل ستعود إليه قريباً؟
توقفت عن كتابته بسبب انشغالي بنوفيلا “جرثومة بو” التي كان يستدعي إنهاؤها قدرًا كبيرًا من التفرغ بالإضافة لبعض الأعمال الأخرى، وسأعود لكتابة الباب خلال الشهر القادم.
* * *
بعد نشر الحوار بساعات قليلة نشر أحد النقاد الأكاديميين المعروفين منشورًا هجوميًا يصفني فيه ـ دون ذكر اسمي، ولكن بإشارة ضمنية إلى الحوار ـ بالغرور والتعالي وعدم احترام الآخرين .. كان هذا الناقد ـ فضلًا عن رجعيته النقدية ـ معروفًا أيضًا بهوسه بتصحيح الأخطاء اللغوية في النصوص التي ينشرها الكتّاب والشعراء في صفحته على فيسبوك، إلى جانب كتابة البوستات العدائية ضد “العابثين بقواعد الكتابة الأدبية” كما اعتاد أن يطلق عليهم دائمًا .. بالصدفة، وصلني أثناء قراءة المنشور إشعارًا من إحدى الصفحات الإخبارية عن العثور على جثة طفلة:
“تم العثور على جثة الطفلة حبيبة أحمد عبد الحليم – المختفية من قرية ديرب بقطارس مقتولة في شوال ملقى في الأراضي الزراعية بالتحديد بترعه مجاورة لأحد الأراضي الزراعيه، حيث تبين من بداية التحقيق بأن القاتل زوج أخت القتيله المدعوا/ ابراهيم وشقيقه المدعوا / الدسوقي بعد خطفها وتم اغتصابها والتخلص منها بعد ذلك بأحد الترع المتواجدة بالاراضي الزراعيه”.
تحت الخبر المقترن بصورة الطفلة المبتسمة في فستانها الأبيض، والذي تتعاقب على وحشيته الوجوه التعبيرية للحزن والذهول والغضب، وعبارات الدعاء المصدومة، المطالبة بالقصاص العاجل؛ قمت بعمل “منشن” لهذا الناقد، دون كتابة أي شيء آخر .. بعد دقائق كتب تعليقًا يترحّم فيه على الطفلة مختومًا بسؤال مقتضب لي، تثقله الحدة البديهية عن السبب الذي جعلني أقوم بعمل “منشن” له تحت هذا الخبر المؤلم .. كتبت ردًا له بأنني كنت أنتظر منه أن يقوم كالعادة بتصحيح الأخطاء اللغوية والأسلوبية في هذا الخبر مثلما يفعل مع نصوص الآخرين .. علّق قائلًا بأنه من السخافة البالغة أن أطالبه بتصحيح اللغة في ظرفٍ كهذا، ثم أنهى الرد بما يشبه الصراخ: هذا ليس مجرد نص .. هذه جريمة حقيقية بشعة.
كانت العبارتان الأخيرتان المتوقعتان هما ما أردت الحصول عليه .. تركت فقط إيموشن الابتسامة العريضة كتعليق أخير لي ثم أغلقت الصفحة عائدًا لمقال جديد أكتب فيه عن رواية لا تقف وراءها جرائم حقيقية!.

مقالات من نفس القسم