عن الإخلاص للقلب الراديكالي للثورة المصرية.. قراءة في “سنة الأحلام الأخيرة” لسلافوي جيجيك

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لدى الفلاسفة والمفكرين الكبار القدرة على استشراف المستقبل وتوجيه دفة العالم إلى مستقبل أفضل. يأتي ذلك بسبب استخدامهم لمنهج ومنطق ونسق منضبط وثقافة عالية ومتنوعة حيث يتنقلون من مبحث لآخر ومن مجال لآخر رابطين كل هذه النقاط المتفرقة ليكونوا لنا صورة للحاضر تبين لنا ما يمكن أن يجري بعالمنا المستقبلي على الرغم من أن الفلسفة ليس مهمتها تقديم الحلول الجاهزة بل هي فقاسة للأسئلة – حسب وصف المفكر محمود رجب - والتي تساعدنا على رؤية أكثر رحابة.

وفي كتابه “سنة الأحلام الأخيرة”، 229 صفحة، والذي صدر مؤخرا بترجمة أمير زكي عن دار التنوير تتضح عقلية الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك القادرة على استيعاب أحداث راهنة وربطها بأحداث ماضية لاستشراف ما يمكن أن تنتج عنه في المستقبل القريب والبعيد وهو ما طبقه بالفعل على الانتفاضات التي هزت العالم باندلاع الثورة التونسية بنهاية عام 2010 مرورا بالثورة المصرية بيناير 2011 والانتفاضات التي شهدتها سوريا وليبيا واليمن والبحرين وصولا إلى أخرى هزت أوروبا والولايات المتحدة والكثير من دول العالم الأخرى.

انعطافات المصري الحادة

ولكن ربما يكون أهم فصل في هذا الكتاب هو الفصل السادس الذي يحمل عنوان “الشتاء والربيع والصيف والخريف العربي” والذي يتحدث بإسهاب وبتمعن عن الانتفاضات العربية الأخيرة أو ما أطلق عليه مجازا “الربيع العربي”. فيتناول هذا الفصل العلاقات المتعددة التي ظهرت بعد “الربيع العربي” مشيرا إلى اتحاد الإسلاميين واليساريين لإسقاط النظام القائم وانتصارهم عليه والإطاحة به ثم اعتلاء الإسلاميين للسلطة ليتناحر الإسلاميين واليساريين مرة أخرى مما يؤدي إلى خلو الجو للنظم القديمة التي تعود إلى الحكم مرة أخرى وكأنها دائرة مفرغة.

ويقول جيجيك في هذا السياق في كتابه: “سيتم إخبارنا مرارا وتكرارا أن الانتفاضات الشعبية في الدول العربية، وكما هو واضح في إيران، تنتهي دائما بانتصار الإسلام المسلح. بالتالي سيظهر مبارك بأثر رجعي على أنه الأقل شرا، والرسالة المتبقية ستكون واضحة – من الأفضل الإبقاء على الشيطان الذي تعرفه أكثر من أن تلعب مع التحررية.”

وعلينا أن نحيي جيجيك هنا على استشرافه للمستقبل وكأنه يراه أمامه ويدون أحداثه فقط. فالغالبية العظمى من المصريين قد حدث لها انعطافات مفزعة خلال السنوات الخمس الأخيرة؛ بداية من الانضمام للثورة ثم التعاطف مع الإسلاميين (الذين لم يكن لهم دور في بداية الثورة) ثم رفضهم لهم والنكوص إلى المؤسسة العسكرية التي كان ينتمي إليها ويقودها الرئيس الأسبق حسني مبارك وكأنهم بذلك عرفوا قيمة مبارك حينما شهدوا ما قام به الإسلاميين من عنف وقمع وكبت بالإضافة إلى عدم سيطرتهم على مؤسسات الدولة التي كان النظام القديم هو المسيطر عليها رغم الثورة ورغم محاولاتهم لأخونة الدولة التي باءت كلها بالفشل.

الطبقة المتوسطة ضد التسييس

ويتناول جيجيك أيضا موقف الطبقة المتوسطة التي كان لها اليد العليا في عملية النكوص إلى النظام القديم حيث يقول: “الطبقة المتوسطة ضد التسييس – إنها فقط تريد الحفاظ على طريقتها في العيش، بأن تترك لتعمل وتحيا في سلام، هذا هو سبب أنها تميل لمساندة الانقلابات الشمولية التي تعد بوضع نهاية للحراك السياسي المجنون بالمجتمع فيستطيع كل شخص العودة لمكانه أو مكانها الطبيعي.”

في الواقع، الثورة لم تر كتلة فاعلية وفاعلة لهذه الطبقة – وخاصة الشريحة المرتفعة منها – خلال ثورة يناير إلا حينما تأكدت هذه الطبقة 100% أن الجيش يجنح إلى تحقيق مطالب الشعب بالإطاحة بمبارك وبالتحديد صباح يوم 11 فبراير 2011 حينما بدأ أبناءها يتحركون بسياراتهم من الأحياء التي يتجمعون فيها في القاهرة الكبري (الجيتو) متجهين إلى قصر الرئاسة لحصار مبارك والمطالبة بتنحيه (وهو جيتو آخر لهم حيث قرروا عدم التكاتف مع الجماهير في ميدان التحرير مفضلين التجمع أو بالأحرى التفرد في مكان خاص بهم يبتعد عن الغوغاء). وبالتأكيد هذه الطبقة – وخلافا للطبقة الدنيا – لم تفكر أبدا في القيام بأي نوع من الصدام مع الجيش والحرس الجمهوري الذي كان يحرس القصر وقتها وكيف ستقوم بذلك وهي التي حاصرت القصر بسياراتها!

وفي اليوم التالي وبعد تنحي مبارك وانتقاله إلى قصره بمدينة شرم الشيخ الساحلية بجنوب سيناء حيث لا يمكن لأحد أن يعكر صفوه كانت الأغلبية في ميادين مصر من الطبقة الوسطى التي انتشرت لتحتفل مع الجيش بالنصر الذي ساهموا فيه في آخر ثانية وفي المقابل نجد أن أبناء الطبقى الدنيا قد هرع أفرادها  إلى بيوتهم – بعد 18 يوما من الاعتصام المتواصل – لإعادة بناء ما تهدم من بيوتها بسبب غيابها والذي نجم عن هدف أهم وهو بناء ما تهدم من الوطن. وبعد ذلك كانت الطبقة الوسطى هي الطبقة الأسرع ضجرا من مرحلة ما بعد الثورة والتي كانت تهجف غلى غؤساء الديمقراطية في مصر حيث ووفقا لجيجيك “تتطلب الديمقراطية مؤسسات، انتخابات، أحزاب سياسية، أحكام، قوانين، قضاء، والعديد من النشاطات… المستهلكة للوقت” وهو ما لم تستطع الطبقة الوسطى له صبرا.

وبالتالي فالطبقة الوسطى لا يمكن أن تعول عليها أي ثورة أو انتفاضة شعبية لأنهم آخر من ينضمون وأول من يسأمون من طول مرحلة التغيير وهي مرحلة طبيعية تتبع أي تغيير جذري إلا أن هذه الطبقة تريد نيل الحرية بأقل التكاليف بالرغم من أن المنطقي هو العكس تماما فيجب لإرساء التغيير التضحية بكل شيء وأحيانا بالروح نفسها ويقول جيجيك في هذا السياق: “الحرية ليست شيئا معطى، إنما يتم الحصول عليها خلال كفاح صعب على المرء أن يكون مستعد فيه بالمخاطرة بكل شيء.” وهو بالتأكيد ما لم تستطع أن تقوم به الطبقة الوسطى أو بالأحرى تحققه.

ولكن هذا لا ينفي وجود قلة قليلة تنتمي إلى هذه الطبقة استطاعت أن تتمرد على وضعها ليكون لها دورا هاما في النضال ضد النظام القديم قبل وخلال وبعد الثورة وهم أفراد قرروا التضحية من أجل المجموع ليكونوا أبطالا أو شهداء.

في كتابه الصادر بعام 2012، نصح جيجيك، وقبل أحداث عدة شهدتها مصر بعد ذلك (أحيانا كملهاة وكثيرا كمأساة)، المصريين أن يواجهوا الإغراء السينيكي السابق ذكره وذلك عبر “الإخلاص بلا شروط للقلب المتحرر الراديكالي” الذي فجر الثورة المصرية.فما كان أحوجنا إلى الاستماع إلى جيجيك حينها حيث كان علينا ألا ننساق وراء الأطراف الأخرى التي حاولت أو نجحت في كسر الثورة كالنظام القديم أو الإسلاميين أو الطبقى المتوسطة أو القوى الغربية بالإضافة بالتأكيد إلى المؤسسة العسكرية. وهو ربما ما نحتاج للإصغاء إليه ووضعه في اعتبارنا إذ ما تفجرت انتفاضة أخرى. نعم. أكرر. إذ ما تفجرت انتفاضة أخرى. ولما لا؟ فمن منا كان يتوقع في ديسمبر 2010 أن تندلع في مصر انتفاضة الشهر القادم؟

مقالات من نفس القسم