“على خط جرينتش” لـ شادي لويس.. في هجاء الغربة

على خط جرينتش
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نافع الطشاني

جاءتني هذه الرواية هدية من صديقي الناشر محسن بن عتيقة من معرض القاهرة للكتاب. كنت قد سمعت عنها الكثير. وها قد حانت الفرصة لقراءتها.

الرواية هي الثانية للمؤلف بعد روايته الأولى (طرق الرب، الكتب خان، القاهرة. 2018) وتأتي في بضعٍ ومائتين صفحة، أي أكثر من روايته الأولى بمائة وست عشرة صفحة. للرواية عنوانان، أو بالأحرى موضوعان (ثيمتان) فالعنوان على الغلاف يشير إلى أن القصة عن الحياة على خط جرينتش، الذي يعرفه العرب جميعاً من خلال إذاعة البي بي سي، في لندن. والعنوان الثاني هو آية من الإنجيل تطالعنا بعد الإهداء، “دعِ الموتى يدفنون موتاهم”. فالموضوع (الثيمة) هو عن الغربة والموت، أو بالأحرى عن الموت في الغربة. تدور الرواية عن محاولات الراوي، عبثاً، دفن جثمان لاجئ سوري، غياث، في لندن بعد تلقيه مكالمة من صديقه أيمن من القاهرة.

ولكن الرواية ليست كئيبة، بل على العكس تماماً، فهي مكتوبةٌ باسلوبٍ سلسٍ يجري كالماء الرقراق. أو ما يطلق عليه الليبيون “قَجّ امَّيه”. فالرواية تشدك من أول سطرٍ ولا تستطيع التوقف عن القراءة أبداً.  فالحوار يتنقل بين اللهجات (المصرية والسورية والعراقية) والللغات (العربية والإنجليزية) بسلاسة منقطعة النظير. فالراوي حين يتحدث مع المصريين تشوب حديثه بعض العامية الواضحة، وحين يدور حواره بالإنجليزية يكون كلامه مدوناً بالفصحى. ولا تقلق فلن تحس بشيء أبداً فشادي لويس، المؤلف، ينتقل بين اللغات واللهجات ببراعة يُحسد عليها. وتظهر هذه الحرفية العالية أشد ما تظهر في مشهد محوري من الرواية في الفصل الثالث، عندما يذهب الراوي، الذي لا نعرف أسمه، في زيارة ميدانية، مترجماً بين زميله المهاجر النيجيري الذي يتحدث الإنجليزية وحالة مرضية اجتماعية للاجئة تركية، السيدة (أ)، من أصل كُردي كانت تعيش في العراق ورفضت الحديث إلا بالعربية. هنا تظهر البراعة. فأنت تسمعُ، نعم تسمعُ، اللغات المختلفة ليس فقط بلهجاتها بل بلكناتها. فقد نجح الكاتب في نقل لهجة المرأة العراقية المشوبة بلكنة تركية و إنجليزيتها المعجونة بكل لكناتها (الكردية والعراقية والتركية). والراوي، أو بالأحرى الكاتب، ينتقل بين كل هذه اللغات ببراعة حسون ينتقل بين الأغصان. تعلّمنا في الجامعة أن هناك نصوصاً كُتبت لتُقرأ سِراً وأخرى لتُقرأ جَهراً. هذه الرواية كتبت لتُقرأ جهراً فأنت تحس أنك تسمعها لا تقرأها. أنا واثق أنها إذا حُولَّت إلى كتاب مسموع ستلقى نجاحاً هائلاً. ولا ينجح الكاتب في جعلنا نسمع اللهجات واللكنات بل كذلك المشاعر والأحاسيس. فلا تكاد توجد جملة حوارية في الرواية بدون عبارة تنقل مشاعر قائلها إن كان متهكماً أو جاداً أو متبرماً.

الرواية حافلة بالشخصيات من مصر وبريطانيا والعراق وسوريا وجزر الكاريبي وأوروبا الشرقية. منهم من يظهر في بداية الرواية ويختفي فجأة، مثل “بيبسي” من الكاريبي و”كاتينجا” من أوروبا الشرقية، ومنهم من يظهر فجأة، كطيفٍ أو ذكرى، ويختفي مثلما ظهر فجأة مثل رفيقتي الراوي وصديقه الراحل آدم، الذي ظهر في خمس صفحات فقط من الرواية، ومنهم من يظهر صوته أو اسمه من أول الرواية لآخرها، مثل صديق الراوي، أيمن، الذي لا نعرفه إلا من خلال صوته عبر الاتصال من القاهرة وبطل الرواية الحقيقي، غياث، الذي يحاول الراوي دفن جثمانه، بلا جدوى، على طول صفحات الرواية. فأيمن وغياث يظهران في الصفحة الأولى ولا يغيبان أبداً. أما أهم شخصيات الرواية، وكانتا تستحقان مساحة أكثر، فهما بديعة جدة الراوي وهيلانة خالته. فهما تسيطران على ذكرى الراوي وتزورانه في أحلامه ويتذكرهما الراوي ويذكرهما ويستشهد بهما في كل مناسبة. فبديعة هي الجدة المليئة بالقصص الغريبة عن الموت والموتى، وهيلانة هي تقريباً مثال عن كل نساء العرب اللائي كُنَّ يقضين أيامهن في الإستماع إلى راديو البي بي سي وإلى الإشارة المهيبة “هنا لندن” ودقَّات ساعة الأخبار بتوقيت جرينتش. فالراوي لايفتأ أن يتذكر الخالة هيلانة المملوءة معلومات، حتى التخمة، عن الإنجليز وحياتهم وسياستهم وعن مرجريت تاتشر (أنا شخصياً أعرف هيلانات كثيرة في ليبيا ورأيت جيلاً كاملاً، منهم المرحومين أبي وخالي، يصحون وينامون على دقات راديو لندن بتوقيت جرينتش) لأنه ببساطة قد ذهب إلى هناك إلى خط جرينتش نفسه التي سمعت عنه هيلانة كل يوم وحكت عنه كل حياتها. تظهر كل هذه الشخصيات مجتمعة في مشهد الحلم البديع قرب نهاية الكتاب.

الرواية تدور في لندن، أو هكذا يبدو الأمر في البداية، إلا أن حضور القاهرة لا يفارقنا أبداً، عبر الاتصالات الهاتفية والأحلام والذكريات. ولا يفتأ الراوي يقارن بين المدينتين. فما يزعج الراوي في لندن هو رتابتها فبيوتها “مصفوفة واحداً وراء الآخر، بأسطح القرميد المثلثة التي تعلوها، بنفس الأبعاد والنسب.”. فلا عجب أن الراوي لا يزال، بعد عشرة أعوام من العمل والسكن فيها، يجد صعوبة في أن يجد طريقه فشوارعها بالنسبة له “متاهة من المرايا” والسبب، كما أكتشف بعد عدة سنوات والمحاولات فاشلة، كان عجزه “عن إلحاق أي علاقة شعورية بنقاط الارتكاز تلك”…فلسبب ما فقدَ القدرة على ربط الأشياء بانفعاله تجاهها “فبفعل التكرار، أصبح الفرح يشبه الارتياح، والغضب يشبه الملل، والرضا يصعب تمييزه عن الاستسلام، كما أن الحزن أصبح متاطبقاً في الكثير من الأحيان مع اليأس، وكذلك الحنين مع الندم. وهكذا كانت تختلط عليَّ أسماء الشوارع وأماكنها، وأجد نفسي عاجزاً عن تسمية مشاعري، وفصل الأحاسيس عن بعضها البعض.” فضريبة لندن هي السأم، والكثير منه، فلا شيء يحدث. حتى أن العجوز التي أمامه في طابور الصعود إلى الباص أشتكت له من طول الحياة التي تطول اكثر من اللازم. وأن الحياة في لندن عبارة عن إنتظار طويل بتكرار صارم “يشي بكثير من الصلابة والإلتزام”. كُل شيء في لندن محسوب، وبدقة، مثل اللوحة المعلقة في مرحاض الجيم “كل قُرفصاء محسوبة” كل خطوة، كل سُعر حراري. فالشوارع فيها لا تُحس بالمشاعر بل تقاس بالكالوري. فالمسافة التي يقطعها الراوي من بيته إلى خط جرينتش هي عشرون دقيقة ومايساوي مئة وخمسين سعراً حرارياً ذهاباً ومثلهم في العودة، أي “ثلاث مئة كالوري، كل ما تحتويه علبتان تونة من السعرات، أي أربعين جرام بروتين، كل ما يحتاجه الذكر المتوسط في اليوم من بروتين”.  لا مشاعر ولا أحاسيس، بل أرقام محسوبة بدقة صارمة.

بعكس القاهرة التي لا تفارق ذكراها بال الراوي وكان يمكنه الإنصات إلى ضوضائها الليلية التي تسمع من الشرفات في خلفية مكالمته مع أيمن. ضوضاء يصفها الراوي بأنها “خافتة وناعسة ومختلطة برائحة دافئة للغبار ولسعة خفيفة من الرطوبة.” تلك الرطوبة التي حتى لو أحس برائحتها في لندن فهي لا تشعره إلا بالحنين “لأمسيات نهاية الصيف في القاهرة”. بالنسبة له تلك الفوضى مونسة وتشعل فيه الحنين. والقاهرة، بعكس لندن، فيه”دوشة” وفوضوية ومسلية، ويحدث فيها شيء دائماً. يقاطع فيها برصٌ إحدى مكالمات أيمن وهو يقف في البلكونة جارياً نحو الشقة مفلتاً من محاولته دوسه بقدمه. حتى مظاهرات ثورة يناير أمام السفارة المصرية في لندن التي شارك فيها الراوي لا طعم لها لأنها بدون قمع. فمظاهرات لندن مؤدبة لا جِمال فيها تقتحم الساحات ولا قنَّاصون فوق البنايات ولا طائرات فانتوم مقاتلة تحوم فوق المتظاهرين، لا شيء، لا شيء على الإطلاق، سوى حاجز حديدي وشرطيتين إنجليزيتين. سأمٌ. كثيرٌ من السأم.

ثيمة الرواية الأساسية هي الغربة. غُربة الأقليات العربية في بلدانها الأصلية  وغربتهم في بلاد المهجر، فغياث المهاجر السوري المطلوب دفنه شيعي إسماعيلي، والراوي ينحدر من عائلة مسيحية، وغربة اللاجئين النازحين من بلدانهم ومدنهم الأصلية، كالفلسطينيين والسوايسة، وغربة الشباب العربي الذين لم يعودوا يتحملون الحياة في بلدانهم، كأيمن صديق الراوي. فهم عالقون في أوطانهم كما هم عالقون في المهاجر. فالراوي يصف نفسه بأنه تغير “بما يكفي لأكون غريباً في القاهرة وعنها، ولم أتغير كفاية لأتخلص من وصمة الغريب في لندن”. فالراوي مدرك لغربته في لندن وهي غربة معقدة مركبة فلا أحد يراه كما هو عليه فعلاً. فالغالبية تراه مسلماً بل باكستانياً، أو باكي، وحتى من يعترف به مصرياً يراه فرعونياً، وإحدى رفيقاته لم تصفه إلا بالرجل الأبيض. فلا أحد يعرفه. وهنا يظهر لنا الجانب المــُـر من الغربة. وهي الوحدة. فعنمدا يرى الراوي الناس يسيرون سعداء في شوارع لندن أحس “بالسعادة لهم جميعاً بقدر شعوري بالشفقة على نفسي. فكل هذا الجمال القاسي أشعرني  بوحشة وحدتي.” فالمهاجرون غُرباء مستوحشون لا تحتمل قلوبهم بؤس ومشقة الحياة في هذا الجحيم الرأسمالي فتتوقف قلوبهم عن الحياة وحيدون بلا شهود وبلا جنائز ولا معزين. فالراوي مثله مثل غياث اللاجيء السوري المتوفي، مثل كل المهاجرين، لا اهل لهم ولا أصدقاء “فالمئات يموتون وحدهم هنا، ولا أحد يحضر جنازاتهم، أكثر من أي مكان آخر” كما اخبرنا المـًعزي الوحيد الذي حضر جنازة غياث.

وهذا إن كان يعني شيئاً فإنما يعني أن المهاجرين موتى ولكن لايشعرون. هكذا وصفتهم روح الجدة بديعة، الخبيرة بالموت، التي زارت الراوي في المنام وأخبرته وهي في ملجأ للمهاجرين “كل اللي بيتولد هنا بيتولد ميت”. فالراوي الذي يحاول دفن جثمان المهاجر السوري ليس سوى ميتٍ يحاول دفن ميت، تماماً مثل الآية “دعِ الموتى يدفنون موتاهم”. فموت المهاجرين حدث عند مغادرتهم أوطانهم وتركهم أرواحهم هناك، مثل روحي “ألكا” و “ألبا” في أساطير الفراعنة، فالموت عندهم هو فراق إحدى الروحين للأخرى. فتصير مشقة العيش في الغربة هي “في غربة المرء عن نفسه، واشتياق روحه لروحه الأخرى”. وبهذا تصير الغربة هي الموت.

هذه الوحشة لايؤنسها شيء. لا زملاء العمل ولا الرفيقات اللائي يغادرن دوماً، فالعلاقات في لندن تنتهي بهدوء بلا ضجيج ولا صراخ فالرفيقات لا يلعنن ولا يصرخن ولا يقذفن الأشياء ولا يدعين بخراب البيوت ولا يحسبن ولا يولولن. بل يغادرن بلا “كلمة لوم واحدة”. الونس الوحيد يأتي من القاهرة وذكرياتها عبر مكالمات الأصدقاء، أيمن وآدم، و أرواح الجدة والخالة التين تزوران الراوي في منامات تتحقق.  الوحيدون الذين يساعدون الغرباء هم الشيوعيون، “فالشيوعيين طيبين وبيحبوا الأجانب”. كما أخبرنا المهاجر طانيوس خال الراوي حتى إن المـُعزي الوحيد الذي يحارب وحدة المهاجرين في ساحة معركتها الأخيرة على بوابة القبر كان شيوعياً وكان يرى أنه يحارب الوحدة لأنها “سلاح الرأسمالية… وبهزيمتها تنتصر الاشتراكية”.

تشغل وحدة المهاجرين بال المؤلف، فهم لا رفيقات لهم ولا أصدقاء ولا ينتهي شقاء حياتهم إلا بالانتحار أو الجنون أو الموت أو ما هو أسوأ:  الخلود في إحدى ثلاجات الموتى كما قال طيف بوتيستا لنا في المنام “إن أخطر ما في هذا العالم هو الثلاجات وبرودتها التي من الممكن لها أن تحفظ أي شيء وكل شيء داخلها إلى الأبد”. ألا يذكرنا هذا، بشكل مخيف، بجثامين معارضي القذافي التي أكتشفت بعد سقوط النظام في ثلاجات محفوظةً “إلى الأبد”.

كما يسيطر الموت قديماً وحديثاً على الرواية. فكتاب الموتى الفرعوني يماثله اليوم الفيسبوك الذي صار هيكلاً للخلود الأرضي ونحن “خالدون بفضله و “أن كل كلمة نكتبها على حوائطه وكل ذاكرة تحملها أيقونة لنا ستكون أثرنا الباقي في المستقبل. عبرة لمن يأتي بعدنا ولم يعرفنا. صلة لنا بغدٍ لن نراه لكنه سيرانا كما نريد.” فالراوي استمر في مراسلة صيقه الراحل آدم على الفيسبوك بالرغم من موته.

الرواية مليئة بالمفارقات والمقارنات. فحي “وايت تشابل” الذي يعني الكنيسة البيضاء مليءٌ بالمسلمين والمنقبات وبه أكبر مسجد، ومدافن المسلمين تقع خلف الكنيسة الكبيرة في المقبرة، وشواهد قبور قيادات الحزب الشيوعي العراقي المدفونين في مقبرة ماركس في لندن منقوشٌ عليها آيات قرآنية. وبذلك يكون المهاجرون العراقيون هم من “جلب الإسلام إلى مقبرة ماركس”.

بهذه النكتة تنتهي الرواية، مثل حياة غياث بطلها الشاب، قبل أوانها في الفصل الثامن. تاركتنا عطشى لفصلين آخرين على الأقل نتعرف فيهما أكثر على بديعة وهيلانة وآدم وطانيوس وغياث وأيمن ورفيقتي الراوي المغادرتان.

………….

بنغازي، الثالث من رجب 1441 ه

 

مقالات من نفس القسم