علبة الرسائل الصفراء

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

غادة الأغزاوي

شكراً على رسالتكَ التي وصلتْني صَباحاً. عندما خرجتُ صباحاً باكراً، تفقَّدتُ علبةَ الرسائل الصّفراء التي كُتبَ عليها اسْمي بشكلٍ سَيِّئٍ. كتبت مرّاتٍ عدّة إلى حارسَةِ العِمارة، راجياً أن تجدَ حلاًّ لهذهِ المُشكلة. لا ينفعُ أبدًا أنْ يبْقى اسْمي مَكتُوباً على هذا النَّحوِ. ذلكَ الإاسمُ يكادُ يكونُ اسْمي، لولا أنَّ حرفًا ينقصُه.

إذنْ، ذلكَ الرّجل الذي يسْكنُ في العِمارَة، الذي يحْملُ اسماً يكادُ يكونُ اسْمي، هوَ، بالتّأكيدِ، رجلٌ آخَر (ليسَ أنا). إنِّي أتساءلُ، كلَّ صَباحٍ، عندما أفتحُ العلبةَ، منْ يكونُ ذلكَ الرجل؟ لكنَّني لا أهتمُّ وأسبُّ بصوت عالٍ حارسة العمارَة. عندَما خرجتُ صباحاً باكراً تفقَّدتُ علبةَ الرسائل الصّفراء. لكنَّها كانتْ فارغةً. يحدثُ أحياناً، أنْ أجِدها فارغة. أغلقتُ العُلبةَ، ثم وَضعتُ المفتاحَ داخلَ جيبي. انتظرتُ دقيقةً وبعدَها، أخرجتُ المفتَاحَ منْ جَيبي وفتَحتُ العلبةَ مُجدَّدا. تَفقَّدتها مرَّةً ثانية. طَبعاً، دونما مفاجَأة، وجدتُها فارغةً. قلتُ معَ نفسي، ربَّما هذا اليَوم، سَيكونُ يوماً جيِّداً، حتّى وإنْ كُتبَ اسمِي، على علبةِ الرسائِل الصّفراء، بشكلٍ سَيِّئ. كأنَّني نجوتُ منْ أخبارٍ مَشؤومةٍ، أغلقتُ بارتياحٍ تامٍّ العلبة. ولم أنسَ أنْ أسبَّ حارسةَ العمارةِ بصوتٍ عالٍ. ثم أنصَرفتُ.

عندَما خرجتُ صباحاً باكراً تفقدْت عُلبة الرسائل الصّفراء. كانتْ فارغةً. ذهبتُ بعدَها إلى حانوتِ بَيع التِّبغِ. اشتريتُ كيساً، متوسِّط الحَجمِ، منَ التِّبغِ. وعلبةً صَغيرةً منْ أوراقِ اللّف البيضَاء. أنا في وضعٍ مادِّي بائسٍ، لا يسمحُ لي بشراءِ سَجائر رفيعَة المُستوى. كُنتُ سأفضِّل، بالطّبعِ، قَتلَ نفسي بسَجائر رفيعَة المُستوى. لكِنَّني مُفلسٌ، ولا مَفرَّ منَ الموتِ، مثل أيِّ بائسٍ، يُفحِّمُ رئتيهِ بسَجائرٍ ملفوفةٍ رخَيصة. بعدَ أنْ شربتُ فنجانَ القهْوةِ المُعتاد، ألقيتُ نظرةً على المجانينِ الذين يتَحدَّثون بهوسٍ عنْ أرقامِ وأسْماء الخُيولِ. لحسْن الحظِّ، أنا لا أجادلُ أيَّ أحدٍ منهُم، ولا تَعنيني الحالَة الصِّحية للفَرسِ دولوريس. أيُّ غباءٍ، أنْ تجلسَ أمامَ الشاشة الكبيرةِ وتسُبَّ الجوكي الذي لا يعرفكَ ولا تعرفهُ؟ قلتُ مع نفسي، عقولَ الرجالِ في حالةٍ مُزرية. التقطتُ كيسَ التِّبغ وعلبةَ أوراقِ اللَّف ثمَّ خرجْت. عندما خرجتُ صَباحاً وأثناءَ عَودتي منْ دكان بيعِ التِّبغ، أحسَستُ بالجوعِ. خلالَ اليَومينِ الأخِيرين، لمْ أبتَلع سوى كسْرة خبزٍ مُتيبِّسة، بَلَّلتُها بنبيذٍ مُقزِّز لا طعمَ لهُ. عندما أحْسستُ بالجُوعِ، تذكَّرتُ شَريحةَ الكبدِ، التي لاتزالُ موجودةً داخلَ الثّلاجة. ومثلَ أيِّ رجُلٍ مُفلسٍ أَحَسَّ بالجوعِ، قلتُ، حالما أصْعدُ إلى شُقتِي سأقوم بقَليِ شريحةِ الكبدِ تلك، قبلَ أنْ أفعلَ أيَّ شيءٍ آخر. ثمَّ شَعرتُ بالسّعادة.

عنْدما عدْت صباحاً منْ حانوتِ بيعِ التِّبغ، تفقَّدتُ مرَّة ثانيةً عُلبةَ الرسائلِ الصّفراء التي كُتبَ عليها اسْمي بشكلٍ سَيِّئ. كانَ الجوعُ يعتصرُ معِدتي، وكنتُ أفكِّر بإلحاحٍ في شريحةِ الكَبِد. فتَحتُ علبةَ الرسائلِ الصّفراء ووجَدتُ ظرفاً أبيضَ كُتبَ عليهِ اسْمي بشكلٍ صحيحٍ. سحبتُ الظَّرف، تمعَّنت اسمَ المُرسِل جيِّدًا ثمَّ اكتشفْتُ بأنَّها رسالةٌ منكَ. عرفتُ، أنّها رسالةٌ منكَ، لأنِّي كنتُ أنتظِرها منذُ وقتٍ طويلٍ. فرِحتُ جدًّا. لكنَّ إحْساسي بالفرحِ لمْ يغلِب إحْساسِي بالجُوعِ. كنتُ جائعاً وفرحاً. مثلَ كَلبٍ يفكِّرُ في شريحةِ الكبدِ. أغلقتُ العلبةَ، ولمْ أنسَ أنْ أسبَّ حارسةَ العِمارة بصوتٍ عالٍ. شكراً على رسالتكَ التي وصَلتني صَباحاً. أنا سعيدٌ جدًّا لأنَّكَ وافقتَ على نشرِ قصَّةٍ لي. لأنَّني مفلسٌ وفي حاجَةٍ ماسّةٍ إلى تلكَ الأوروهات التي سَتدفْعُ لي. عندما عُدتُ صباحاً إلى شُقَّتي. كنتُ سَعيداً وجَائعاً. وضعتُ مِقلاةً صَغيرةً فوقَ النَّارِ، أضفتُ قليلاً منَ الزَّيتِ ثمَّ أخرجتُ شريحةَ الكبدِ منَ الثّلاجَة. فضولي الثقيلِ لمعرفةِ، مُحتوى رسالتكَ، دفَعني لفتحِ الظَّرف. قرأتُ رسالتكَ، وأنا سَعيدٌ جدَّا لأنَّك توافقُ على نشْرِ قصَّةٍ لي.

في الحقيقةِ، لقدْ كنُت سعيداً جدَّا وبسببِ سَعادَتي، بدأتُ أصْرخُ وأقْفز. عندما انْتبهتُ للزّيت الذي كانَ يحترقُ، تذكَّرْتُ شريحةَ الكبدِ والجوعَ الذِي يعتَصرُ مَعِدتي. إنّني أشْبِهُ كَلباً شرهاً. كَلباً شرِهًا وسعيداً جِداًّ. التقطتُ شريحةَ الكَبِد بيدَيَّ معاً وأنزلتُها بقوَّةٍ في المقلاةِ. أنا مجرّد كاتبٍ بائس، أحْرقَ أصابعهُ لأنَّه جائعٌ وسعيدٌ. شكراً على رِسالتكَ التي وصلَتني صَباحاً. إنَّني مفلسٌ ولا أستطيعُ، الآنَ، كتابةَ قصَّة جديدةٍ لكيْ تَنشُرَها. مازلتُ جائعاً ولا يُمكنُنِي لفُّ التِّبغِ الرّخيص الذي اشْتريتُه. نادَيتُ على حارِسةِ العِمارةِ، حتّى تُضمِّدَ أصَابعي. لمْ أرَ، في حَياتي، امرأةً غبيَّة مثلها، هِي إلى الآنِ لمْ تجدْ حلاَّ لاسْمي على عُلبةِ الرّسائلِ الصّفراء.

عزيزي الّناشر، أمْهلني بعضَ الوقتِ. أنتَ تعرفُ أنَّني في أمسِّ الحاجةِ إلى تلكَ «اليوروات». أفكِّر في دَعوةِ حارسَة العِمارةِ لشربِ كأسِ منَ النّبيذ. إنّها امرأةٌ جميلةٌ، لا تتحَدثُ كَثيراً. طلبتُ مِنها أنْ تساعِدني، لكيْ أكتبَ إليكَ ردّاً على رِسالتكَ. أنا متيقنٌ منْ أنَّك سَتكونُ مُتفهِّما لوَضعِي. أرجوكَ، إذا كتبتَ إليَّ رسالةً أخرى، تُجيبني منْ خلالِها، اطلبْ منْ هذِهِ المَرأة، – التي تكتبُ إليكَ الآنَ، والتي منَ المُؤكَّدِ سَتقومُ بقراءةِ رِسالتكَ عليَّ -، اطلبْ مِنها أنْ تجدَ حَلاَّ لاسْمي على عُلبةِ الرسائل الصّفراء. الكاتب الجائع. وحارسة العمارة.

………….

*كاتبة مغربية تقيم في باريس

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار