علاء خالد: الرواية هي الشكل المناسب للرحلة

علاء خالد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورته: عناية جابر

علاء خالد شاعر مصري له عدة اصدارت شعرية وضعته في صدارة المشهد الشعري العربي . هذا بالإضافة الى اشرافه الذي ناهز السنوات العشر على مجلة 'أمكنة' التي تُعنى بالكتابة عن الأماكن، موجودة ومُتخيلة في سرديات ووجهات نظر شتى لكتّاب على حساسية خاصة بهذه الموضوعة . عن دار الشروق المصرية صدرت لخالد حديثاً، روايته الأولى: 'ألم خفيف كريشة طائر تتنقل من مكان لآخر' وعنها كان هذا الحوار:

حاورته: عناية جابر

علاء خالد شاعر مصري له عدة اصدارت شعرية وضعته في صدارة المشهد الشعري العربي . هذا بالإضافة الى اشرافه الذي ناهز السنوات العشر على مجلة ‘أمكنة’ التي تُعنى بالكتابة عن الأماكن، موجودة ومُتخيلة في سرديات ووجهات نظر شتى لكتّاب على حساسية خاصة بهذه الموضوعة . عن دار الشروق المصرية صدرت لخالد حديثاً، روايته الأولى: ‘ألم خفيف كريشة طائر تتنقل من مكان لآخر’ وعنها كان هذا الحوار:

ـ لماذا الرواية الان؟

ـ  كان هذا حلما بالنسبة لي يراودني منذ زمن، أن اكتب رواية عن العائلة، وأسرد احداثا تتناثر عبر أجيال وعبر أزمنة مختلفة، ربما لأنه المكان القريب مني، والمرجع الذي يمكن أن استشف منه جذور علاقات ومشاكل ومباهج وأزمات، وفي الوقت نفسه، استشف منه ملامح وعلامات الرحلة، فالرحلة يجب أن يكون لها وعاء ليحفظها من النسيان، والرواية ربما هي الشكل المناسب لأي رحلة تعبر عبر الزمن.

لا توجد الآن أي مراجع يمكن أن يرد لها الفرد أزمته، أو يعاين بها إحداثياته العاطفية أو العقلية. ربما الدين أحد المراجع، ولكنه غير كاف لتقصي ترددات هذا الوجود الفردي أو الجماعي. تبقى العائلة أحد المراجع التي تكتنفها عاطفة الدين، وفي الوقت نفسه تحتفظ بتشابك العلاقة بين الفرد والمجموع.

ربما سيرة العائلة لا تكفي وحدها لأن تكون مرجعا شاملا، بالتأكيد بها الكثير من الثقوب، ولكن لو صدقنا أن هناك نقصانا عاما في فكرة التأريخ وفي رحلة البحث عن الجذور، وأن تاريخ الإنسانية يغالي في عشوائيته بحيث يبتعد كثيرا عن أي مركز أخلاقي يمكن ان يطل منه الفرد على حياته، عندها سيكون هناك الكثير من المراجع الصغيرة، يتوفر بها قدر مناسب لصنع دراما، وابطال وأحداث، منها العائلة.

شيء آخر وهو منذ ديواني الأول’ الجسد عالق بمشيئة حبر’ وأنا أتناول هذا المكان العائلي، ربما تناولته من قبل شعرا، ولكنه شعر يخفي الكثير من الأحداث، اخترت منها ما هو قريب من الشعر، ولكن كان هناك مشهد يريد أن يفصح عن نفسه، فأنا اعتبر أن روايتي هذه هي نسخ لكل ما كتبته من قبل، وليست إلغاء له، ولكنه المشهد بعد ان يأخذ لغته وحياته، وتظهر باقي جوانب الصورة وليست صورتي أنا فقط.

اخترت منذ البداية الأب والأم والأخوات وباقي المشهد العائلي ليكون مكان الحدث بالنسبة لي، ربما حملوا من قبل، وفي كل مرحلة، برموز تبعا لطريقة تناولهم وتأويلهم، والغاية من كل هذا، واعتقد أن في الرواية خفتت حدة الرمزية، ولم يعدوا علامات فقط، بل بشرا يتحركون، ويتفاعلون، واختفيت أنا، ليس هناك وجود لي إلا بصفتي الراوي خفيض الصوت.

لقد عادوا إلى الحياة، وربما هي إحدى وظائف الفن، ان يسترد حياة من ماتوا بدون صوت، يعاد تسليط الضوء على حياتهم، كي يتكلموا مرة أخرى، ويكونوا أحد اعضاء هذا المركب الفكري الذي يسمى الثقافة، أو الطبقة، او غيرها من الاسماء التي تتركز فيها الأفكار والنماذج، وهي بدورها تصبح ملهمة لغيرهم. لقد تعلمنا الكثير من خلال الروايات، ولم نر في الحياة، إلا عبر زمن طويل، ما يضارع النماذج الروائية من قوة وتأثير وعاطفية وأسئلة، وتمرد، وغيرها من الحكايات الكبرى التي عبرت بي.

هناك إشارة فارقة حدثت قبل كتابتي للرواية، دفعتني للمضي في كتابتها، وهي وفاة أمي. أثناء حياتها كنت أشعر أن الحكاية لم تنته فصولها بعد. كنت متهيبا كتابة الرواية وهناك فصل معلق أو نهاية مفتوحة. ربما كان الموت هو أحد ابطال الرواية، البطل الذي يضع اللمسة السحرية ويمضي بعد ان يخلف وراءه الكثير من الآلام الناجحة. بوفاة امي اكتسبت قوة وطاقة وشحنة عاطفية وتاريخية، مست جوانب العمل وتناثرت بين زواياه، واضفت على الجميع تلك اللمسة الشاعرية. ظل الموت هو العنصر الذي يعطي للحياة براحا استثنائيا. أعتقد أن هذا ما حدث، ولم يكن يحققه إلا الموت الحقيقي وليس الافتراضي. اننا نتعلم من الموت الكثير، وهي إحدى ضرائب الحياة الحقة، برغم مأساوية فكرة الموت، إلا أنه تحدث انفجارات تغير من نمط ومسار الحياة الرتيب، تنقل الحياة لمستوى آخر من التأويل، يطرح، مع الثورة، شعورا جماعيا، وحاجة للآخر، الغائب والحاضر معا.

ليس معنى هذا أن الموت يمنح الوجود لأشياء غير موجودة ولا مبرراً لوجودها، بالعكس، إنه يضع علامات على مشاعر واحتياجات في غاية الأهمية، إنه يعيد طرح تلك الاحتياجات الأساسية والبدائية، كالحب، والإيمان، والصداقة، والله، والتضامن، والرغبة في فهم الآخرين، والرغبة كذلك في ألا تكون أنت أنت، فقط، بل أنت في مكان بين الذات والحياة والناس الذين يحيطون بها.

أي شخص يعاين موته من خلال موت الآخرين، بحسب درجة العلاقة والتعلق بهم، وبرغم هذا يحيا وتستمر حياته، وبها هذا اللغم. أعتقد أن خلفية الرواية يقف وراءها هذا اللغم القابل للانفجار في أي لحظة، ربما لم ينفجر، ولكنه أعطى العمل واللغة والمشاهد حرارة الموت والفراق، لأناس عاشوا وماتوا، ولفترة تاريخية عاشها الراوي.

ـ شخصياتك الشعرية كما الروائية، هن نساء في الغالب، تبرع في وصف عوالمهن، إلى ماذا ترد ذلك؟

ـ ربما يرجع ذلك إلى طبيعة البيت الذي نشأت فيه. فهو بيت لعائلة أمي، رأيت جدتي لأمي، بعد أن مات زوجها، فكان لها سطوة عاطفية في تشكيل مزاجية البيت. كانت خالاتي يسكنّ في الطابق الثاني والثالث من الفيلا، وعلاقتهن مع أمي ومشاكلهن، كانت أكثر حضورا من أي تفاصيل اخرى. بالتأكيد كان هناك رجال، ولكن الصوت الأنثوي كان الغالب، بالإضافة إلى أنهن كن أكثر صلابة في تثبيت أركان الحياة، واستمرارها، كن أكثر المضحّيات، بالإضافة إلى أنهن كن الأكثر خيالا، وأغلب حكاياتهن كان لها هذا المذاق الروائي والأسطوري.

في الرواية أم الرواي هي التي تنقل له حكايات الأجداد، ويأخذ الراوي عنها هذا العالم الذي لم يعشه، ولكنه أثر فيه، إذن النساء كان لهن الفضل في استدعاء وتجسيد الماضي، فبدونهن كان سيفقد هذا الخيط الهام لاستكمال الحكاية. بشكل ما هن اكثر التصاقا بالجذور. بالإضافة إلى تفاصيل عوالمهن التي كانت تشكل انثوية الطبقة المتوسطة، من ملابس، وعادات يومية، وسلوكيات دقيقة، كأنهن متصلات بعالم آخر لا نراه نحن، هذه الأنثوية كانت بها مسحة اسطورية، أما الرجال فلم يظهر عالمهم إلا بعد أن كبروا، بعد ان تخلصوا من مراهقة ذكورتهم، وبالتالي فحكاياتهم غير مكتملة، لاتبدأ إلا في لحظة التحول أو الموت المبكر، أو المتأخر.

ـ الى أيّ مدى ابتعدت عن التأريخ للإسكندرية، لصالح حياة وعمر عشتهما فيها ؟

ـ لم اقصد التأريخ للإسكندرية إلا بالقدر الذي يضيء ويوضح عوالم أبطال العمل، والشارع الذي كنت أسكن فيه، والأصدقاء، بجانب التوثيق للأطعمة والفرق الموسيقية، والكتاب والأفلام، والظواهر الشبابية التي ظهرت في فترة السبعينيات والثمانينيات مثل قصات الشعر وأشكال الحب، والعلاقات مع الجنس الآخر. لم أنطلق من فكرة الإسكندرية الكوزموبوليتانية، والتي أعتقد أنها فكرة سياسية بالأساس، بمعنى أنها ستواجه هذا التعدد الأجنبي والعرقي بنموذج أصيل وهو النموذج الهامشي أو ابن البلد أيـّاً كان موقعه، كنت متحررا من ذلك، ولذا كانت هناك فرصة في الرواية لظهور الطبقة المتوسطة، والتحولات التي تجري من حولها، فالرواية تؤرخ لهذه التحولات، لحظة انكسار هذه الطبقة، ولكنها طبقة لا تموت بسهولة، فمن داخلها ستخرج هذه الحكاية أو الرواية، فهي طبقة تمتلك ما هو أبعد من عوامل فنائها. بمعنى آخر هناك شيء أخلاقي له اصالة مستمر داخلها يجعل صراعها مستمرا ومتشظيا، أو كامنا ينتظر من يلتفت إليه. طبقة تمتلك حكاية. فهذا التراكم الذي تم لهذه الطبقة عبر نهايات القرن التاسع عشر ونصف القرن العشرين كان مرجعا جامدا وآخر مرناً داخل هذه الطبقة.

ربما أؤرخ في الرواية لهذه الطبقة، وخلفيتها هي مدينة الإسكندرية، وبالتأكيد هناك علاقة وثيقة بين الاثنتين. لم أقصد التأريخ للإسكندرية الهامشية امام إسكندرية الأجانب، ومن يقف خلفها من كتاب، لم تكن الإسكندرية سؤالا ثقافيا في الرواية، وربما تستحق هذا، ولكن في نفس اللحظة يجب أن ننسى هذا حتى نرى تلك العوالم المهملة من تاريخها، وربما هذا لن يسحب منها البساط كونها سؤالا ثقافيا، بل سيوزع مهمة الإجابة على عدة طبقات وليس طبقة في مقابل طبقة. الأهمية لا تأتي من الخارج بل من الداخل، أو هكذا أنظر للمدينة، من لحظة نهاية التعدد، في الستينيات، وهجرة الأجانب، وبداية التحولات التي طرأت على مصر كلها ووحدتها داخل سؤال حزين، ما عاد يفرق بين مدينة ومدينة، إلا بالكاد. لذا فالرواية كما تعنى بالإسكندرية كمكان للأحداث، فإنها تعنى، بدون قصد، وتؤرخ للحظات تحول في مصر كلها.

داخل هذه المدينة هناك بعد مأساوي، وهو العزلة، أو الوحدة التي تواجه أبطال العمل، بالرغم من زخم الحياة والتفاصيل الثرية التي يعيشونها، وبالرغم من تواجدهم داخل فضاء ثقافي واحد، ربما مدينة كالإسكندرية تولد هذا الإحساس بالوحدة، تبعا لمناخها، أو لوجود البحر من ناحية والصحراء من الناحية الأخرى، والريف من ناحية ثالثة، مدينة تولد تساؤلا وحيرة شخصية. هناك فردية أصيلة وغير مدعاة تمنحها المدينة لساكنيها، وربما هناك أسباب أعمق من فكرة الجغرافيا والطبيعة، كامنة في تاريخ تشكل المدينة ومن عاش فيها، والحلم الذي راود بنائيها، ربما ظل هذا الحلم مستمرا، وانتقل لأجيالها المتعاقبة وورثها هذا الإحساس بالفردية والرغبة في التجاوز، لحياة، لقدر، لعزلة شخصية.

في الرواية أتكلم عن اوجاع عادية لناس عاديين من الطبقات المتوسطة، التربة الفكرية للعمل لا توجد بها أفكار ثقافية معقدة، إلا بقدر تعقيد حياة الأبطال أنفسهم، لا توجد أفكار أعلى من مستوى الأبطال، إلا نادرا، وغالبا ما تأتي من الراوي، وبالتأكيد الراوي ليس هو المؤلف، هناك مسافة ما تنازل فيها المؤلف لصالح الراوي.

أرى الراوية مثل الفيلم الذي يمكن أن تخرج منه مشحونا، وحتى لو لم تكن هذه الشحنة تمثل الحقيقة، فعن أي حقيقة أبحث؟ ربما كنت أبحث في الرواية عن حقيقة الحلم، هذه المسافة بين الحقيقة والحلم، هي المكان الذي أرى فيه الحقيقة مضافا إليها حلمي عن نفسي وعن الآخرين الذين كتبت عنهم.

تختتم الرواية بحلم للراوي يلخص فيه حياة من مروا به، كأنه يودعهم أو هم يقومون بتوديعه. ويرى الراوي حياته داخل هذا الحلم عبارة عن ‘ألم خفيف كريشة طائر تتنقل بهدوء من مكان لآخر’ داخل الحلم، العالم الروائي، يخف الإحساس بالألم، ولكن داخل العالم الحقيقي، ما زال الألم له كثافته، وما زالت هناك رحلة أخرى، ليس للتخلص من الألم، ولكن لصنع حكاية جديدة، وحلم جديد. من أقوى الأفكار التي أنتجتها الحضارة الإنسانية والمسيرة البشرية هي الحلم بعالم آخر، فكرة الحلم نفسها.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم