عسل اللّقالق *

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إسماعيل غزالي*

ما منْ ربيعٍ في تلك الخلاءات الشّاسعة ، يعيره بدوُ القرى والضّواحي صفيرَ الإعجاب وبرْق الدّهشة إلاّ إن أشْهَرَ أوْ أفْصَح َعن زهرتين بريّتين ،  بدونهما لاتستقيم الرّؤية أو تتخضّب عين الرّضا ،  هما : شقائق النّعمان وعسل اللّقلاق .

كان وشم هذه الأخيرة طبيعيّا  بفعل توحّمٍ  في ردْف المرأة الوارف ، وله حكاية مثخنةٌ ، توغّل لسانُها الأحمر أكثر من اللاّزم في سرد مفاصلها الغبراء ونحن نحتطب الدّفء الشّرس في غابة جسدينا ، داخل سرير ليلة ماجنة :

 ( في شهري التّاسع تضاعفتْ شقاوتي في بطن أمّي ، وكانت تشتهي على مشارف ولادتي القاسية - تتوحّم –  زهْر عسل اللّقالق ، وكان الفصل شتاءً ثلجيّا بربريّ العواصفِ ، وتعذّر على أبي أن يتدبّرهذا الزّهر اللاّيشرق إلاّ في عزّ الرّبيع ، إن كان ربيعا كامل الأوصاف ، ولذلك ازدهرتْ لياليُ وجعِ أمّي بهذيان فاجع ومرٍّ لغياب هذا العسل النّادر ، وعاش الأهل على قلق محتدم ، وترقبّوا بعيون فسفوريّة يختلج فيها الهلع ، خوفا من مولود مشوّه ، بينما أطفال القرية ينتظرون بشوق أن يكون المولود لقلاقا بالفعل ، وفي ليلة بيضاء الجهات ، عسيرة على وضع أمّي الحرج ، كانت ولادتي الصّعبة في بيت من حجر وطين وخشب على حافّة الوادي ، ومنه سُمع اندلاع زغرودة القابلة العجوز فجرا ، بعد أن انزلقتُ دونما أعطاب أو تشوّهات من رحمها إلاّ من وشم الزّهرة تلك على ردفي الأيسر … وخاب ظنّ الأطفال الّذين صدّقوا حكاية أكبر معمّرة في القبلية الّتي كانت تقصّ عليهم من صندوق عجائبها خرافات وأساطير الأوّلين …)

كنت أقبّل الزّهرة البرّيّة على هضبتها اللّحميّة ،  المحبوكة من ترف الحرير ،

 و ذاكرتي منشطرة يفوح منها ربيع طفولة مغدورة ، ربيعٌ كنت في أبهج لحظاته أصنع من زهرات عسل اللّقلاق هذا عقودا أو قلادات، بعد أن أرشف قطرات سكّرها المندّى وأجعلها في أعناق فتيات شاركنني الرّعي  لزمنٍ مرقّط في سفوح وتلال وشعاب تلك الجبال الزّرقاء وحيث وضعتُ وجهي على وسادة كفلها ووجدتني أغرق داخل قطن غيمة بدون قرار ،……………………………………..

………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………

 رأيتُنِي في مدينة نحاسيّة ، مزمخرّة بالصّوامع ، وأعشاش اللّقالق تتدلّى من سقيفاتها ، وما من شيء يدلّ على أنّ آدميّا يسكنها ، إذ كانت الأزقّة فارغة تماما وعواء الرّيح مندلقٌ من ثقوب أسوارها وما من صدى إلاّ لقرقعة حذائي على حجيرات الشّارع المرصوصة ، لم تكن أبواب منازلها البيضاء مغلقة وقد جرّبتُ أن أطرق واحدا وألجه ولم أعثر على بشر في الدّاخل بينما البيت مؤثّثٌ بما يلزم من فراش وأرائك وكراسي إلخ وكأنّما يسكن المدينة أشباح أو كائنات غير مرئيّة ونفس الشّيء قمت به مع المنزل المجاور وهكذا دواليك إلى أن وجدت نفسي داخل ساحة المدينة الصّغيرة وفيها ينتصب قِدْرٌ  ضخم ، هائل بلون النّحاس دائما وتحته أثافي من حجر كبير ورائحة دخان يتناقلها الهواء الرّبيعي في المكان ، خطوتُ وبي دهشة عاتية وتلّمست جانب القدر ووجدته حاميا ما يزال يحتفظ بحرارة إشعال من الممكن أنّه تمّ ليلة البارحة ، وتساءلتُ لأيّ غرض نُصِب هذا القدر الهائل ؟ هل لإطعام جنود حرب أم هو حقّا يخصّ عملاقا ما نائما في جهة ما من المدينة الصّغيرة وغالبا هو المسؤول عن غياب بشرها ،  فلابدّ أن يكون قد طهى أجسادهم ها هنا واحدا واحدا والتهمهم بشراهة وإلاّ ما تفسير فراغ البلدة منهم الآن ؟؟؟

وحيث كنت أحاول أن أجد تفسيرا ما لعلاقة القدر بتلك الصّوامع المؤثّثة بأعشاش اللّقالق ، تناهى إلى مسمعي سعالٌ خافت وتتبّعت مصدر أنينه فوقفت على عجوز  سوداء جالسة في عتبة بيت متاخم للسّاحة وهي متربّعة على فروة كبش ، في يدها عصا منقوش في رأسها وجه غراب وفي عينها الزّرقاوين الحادّين يلمع بريق شيطانيّ رهيب ، ذكّرني ببريق عيني ميدوزا ، رفعتْ وجهها المتغضّن كما صفنٍ ونطقتْ بعسر :

   لماذا رجعتِ باكرةً على غير العادة ؟

واضحٌ أنّها لاترى وإن كانت بعينين فاخرتي الزّرقة ، وواضح أكثر أنّها كانت تخاطب فتاة ما قد تكون بنتها أو زوجة ابنها أو جارتها أو …

تردّدتُ في جوابي وقلت :

   أنا لست من تقصدين ، أنا زائر ، لاأعرف كيف سقطت في البلدة ؟

   غير معقول ؟

 تلفّظتْ ، وتحرّكت في مكانها بصعوبة غير مصّدقة ما تسمعه ، مرتعشة صارت تتشبّث بعصاها كأنّما خائفة من لصّ وهذا ما أخطأتُ تقديره ، عندما طلبتْ منّي أن أقترب وبأناملها المعقوفة حاولتْ تلمُّس وجهي وماءٌ لؤلؤٌ يسحّ من زجاج عينيها اللاّزورديّين …

  وأخيرا ظهر رجل في البلْدة …

قالتْ وهي تسعل من جديد ويدها لم تفارق وجهي ، مسحتُ على خدّيها بمنديل في يدها الأخرى وجلستُ بقربها ، مستفسرا إيّاها حول جملتها الغامضة ، وحول غرابة أحوال البلدة ، فراغها من السُكّان والصّوامع المزمخرّة بأعشاش اللّقالق والقِدْرالهائل المنتصب في السّاحة …

 

ولمّا هدأ سعالها المرّ ، لهجتْ بأنينٍ وهي تسرد لي الحكاية المنقوعة بالخرافة :

 

 ( حدث أن خرج رجال هذه البلدة كلّ الرّجال ذات صباح من عشرين سنة ولم يرجع أيّ واحد منهم ، الأمر الفظيع وراء خروجهم كان هو الحرب ، غزوة لبلدة مجاورة بالأحرى ، ولأكون أكثر أمانة ، ووضوحا ، فهي عداوة تاريخيّة بين القبيلتين ، ، وترجع جذور العداوة الغائرة إلى يوم بعيد جدا ، سحيق تماما ، عندما أقدم ابن شيخ هذه البلدة على طلب يد بنت شيخ البلدة المجاورة ، وكانت بيضاء كما قطعة من ثلج أو شمع ، ورفضت طلبه ، محتقرة لونه الأسود ، وسلالته من العبيد ، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ ، وقرّر شيخ القبيلة الأخرى شنّ هجوم على قبيلة السّود هذه ، لتلقينها درسا في التّطاول على أسيادهم من الجنس البيض ، وهكذا اندلعتْ أوّل حرب بين الطّرفين واشتعل أوارها دون أن يخمد إلى الآن ، ولأنّ بشر قبيلتنا سودٌ ،  فالغراب عندنا هو رمز الحبّ والخير والجمال ، بينما هو شؤم وشرّ وقبح عند قبيلة البلدة المجاورة ،  ولذلك فقد جعلتْ له القبيلة هنا أبراجا وأعشاشا وقدّست بيضه ونعيقه وحرّضت على تناسله والحفاظ على سلالته ، حتّى صار أليفا  ، وهو يعمّرالبيوت على عكس بيوت البلدة الأخرى الّتي يعمّرها الحمام ، وبات شعراؤنا إن تغزّلوا بامرأة جميلة شبّهوها  بأنثى غراب  وقاسوا عليه أشكال المباهج والألق والحياة المشبوبة بينما تشاءموا من هديل الحمام وأضفوا عليه كل المثالب والعيوب والمذمّات …إلخ

قضى جلّ الرّجال نحبهم في القتال من الطّرفين ، بغزوة ثانية ، طارئة ، من قبيلة ثالثة ، ادّخرتهم لحرب أخرى على قبيلة رابعة خارج الإقليم ، ومنذئذ ، لم يظهر لأيّ من رجال القبيلة المجاورة وهذه أيّ أثر ، عشرون سنة والنّساء ينتظرن أزواجهنّ وأبناءهنّ ، عشرون  سنة ونحن نرسم ملامح ذكورنا وكأنّهم كائنات أسطوريّة  لم يسبق لنا أن عرفناهم وبدا ترميم وجوههم في مرآة الغياب عبر استرجاع الذّاكرة غريبا وموحشا ، عشرون سنة انصرمت ونحن نشيّد صومعة لقلاق في كلّ يوم ذكرى الحرب اللّعينة ، وأمّا سرّ أعشاش اللّقالق الأثيرة في البلدة  هنا فله حكاية أخرى – سعلتْ كثيرا وأضافت – :

 استيقظتْ عرّافة البلدة ذات صباح ملبّد وقد قصمتها رؤيا في منام شائك ، رأتْ فيه  أنّ غرابا افتتن بحمامة وتقدّم ليتزوّج منها فعايرته بلونه القاتم كالسّخام وصوته القبيح ، و جَرَحهُ نصلُ كلامها وعذّبه لليال طوال وعلى الرّبى تمرّغ وهو يبكي ومكان سقوط كل دمعة نبتت زهرة غريبة بلون مداديّ مثير بين الأزرق الدّامغ والبنفسجيّ الرّائق ، وبعدها قرّر أن يغيّر شكله ، وفي صباح  حمل  الغراب سطل لبن إلى قمّة جبل ، وشرع في التّوضّؤ به ، ليصير بعد دقائق مخاض صارخ إلى طائر غريب بمنقار طويل ، ما هو بالأبيض ولا الأسود ، سيطلق عليه إسم اللّقلاق فيما بعد ،  وحلّق في الحين إلى الرّبى الّتي تمرّغ فيها لأيّام وأهرق دموعه الّتي تحوّلت إلى أزهار وأخذ يقتلعها بمنقاره إلى أن جمع منها باقة وسافر بها إلى الحمامة التي صدّته سابقا  ووجد أنّ كائنا من البشر قد اصطادها وروّضها حتّى صارتْ أليفة في بيته ، تبيض وتصدح بالهديل وتؤنس صغاره ، وحزن الّلقلاق أكثر ، وهو يترصّدها منتصبا على برج  أو فوق صومعة ، يتحيّن الفرصة المناسبة  ليقدّم لها الزّهرالنّادر كي ترشف نداه المعسّل ، ولم يتح له ذلك إلى الآن وهذا سرّ حزنه التّاريخي وهو ما يزال يمنّي النّفس كي ينفرد بها ويطلبها للزّواج من جديد بعد أن غيّر من شكله الأوّل الذّميم  … إلخ  وعندها أمرت العرّافة بالكفّ عن بناء المنازل ببيض الغربان المخلوط بالتّبن والحجر وروث البهائم ، ونادت في جمع النّسوة أن يبنين في كلّ ذكرى للحرب صومعة لطائر غريب أطلقت عليه اسم اللقلق ، وسردت عليهنّ رؤيتها وقامت بتأويلها في الحين ، وأقنعتْ كل النّساء بأنّ رجال البلدة مسخوا وتحوّلوا إلى لقالق ولا يتعلّق الأمر بموت جماعي ، لذلك عليهنّ أن يذهبن إلى الرّبوة التي شهدت الحرب الأخيرة بين القبيلتين ، ليقطفن تلك الزّهرات البديعة أي دموع أزواجهنّ وأبنائهنّ من كلّ ربيع موسم ، وطلبت منهنّ أن يُخرجن قدر القبيلة الكبير المخصّص لولائم الحصاد ، ويطبخن فيه تلك الزّهرات لاستخراج عسل الّلقالق ، من أجل أن يدهنّ به وجوههنّ وأجسادهنّ عند كل استحمام من يوم الأحد ، فهو عسل سحريّ سيجعل بشرتهم تؤول إلى بياض أشدّ يلقا من الثّلج أو الشّمع ،  وعندما يتحوّلن كلّهن إلى بيضاوات لحظتها سيعود رجال البلدة  إلى أعشاشهنّ على الصّوامع وبرشف عسلهم المدّخر لهم سيرجعون أيضا إلى هيئتهم الطّبيعية الأولى ويزول عنهم أثر المسخ اللّعين … )

 

ما كادت المرأة العجوز تنهي الحكاية الشّهرزاديّة حتّى تدفّقتْ زغردات نسوة من الأزقّة ، عائدات من الرّبوة وهنّ محمّلات بسلال الزّهر الغريب ، مائة امرأة من مختلف الأعمار تحلّقن حولي ، وهنّ يلمسنني بذهول ، ويرشقنني من سلال الزّهر وحملنني يحوّمن بي حول القدر الهائل ، وشرعن يتبارزن ويتخاصمن ، وكلّ واحدة تصرخ بحقّ نومي معها في أوّل ليلة ، وما أن هدأ الصّراع بقرار الإحتكام  إلى المرأة العجوز ، وقبل أن تنطق هذه بأوّل كلمة ، امتلأت سماء البلدة بأسراب طيور الّلقالق وهي تعرّش تلك الصّوامع والسّقيفات والسّطوح وتطقطق بمناقيرها كما لو تعزف داخل سمفونيّة رعويّة 

 

استيقظتُ على وقع سقوط شيءٍ في الشّرفة ، وكنت أتوسّد ربوة كفلها المترف بالحرير ما أزال ، وأثار انتباهي وجود أكثر من زهرة عسل اللّقلاق على ردفها بل كلّ جسدها الطّاعن في ثلج البياض ، وطفقت أحصيها ووجدت أن عددها مائة كما عدد نساء الحلم ، ونهضتْ  فزعةً إلى الشّرفة والتحقتُ بها ومعا أخذنا نرنو بذهول إلى لقلاق جريح  تحت مصطبة الشّرفة  هو من ارتطم بأصيصها من دقائق عندما سمعنا سقوط شيء غامض ، وفي سماء المدينة تحلّق أسراب كثيرة منه وهي تطقطق بمناقيرها كما لو تعزف داخل سمفونيّة رعويّة …

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عسل اللّقلاق : زهرة برّية ، مترجمة عن الأمازيغيّة وإسمها : ثمّن أوشْفْشَاقْ ،  هي زهرة فيرونيك في الفرنسيّة والأنجليزيّة .

* قاص من المغرب           

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون