عرض أخير للشيطان

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة : شريف الغرينى *

كانت الساعة تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل و انا جالس على مقعد من خشب البامبو فى شرفة منزلى وأمامى طاولة بعثرت عليها أوراقى وقلمى وسجائرى ، بالرغم من تأخر الوقت إلا أن القاهرة لا تنام أبداً ، وخاصة ميدان التحرير الذى تطل عليه شرفتى .

داهمتنى ريح لا اتجاه ولا أوان لها ، أطاحت بكل أوراقى وبعثرتها كما بعثرت رماد السجائر الذى كان ساكنا فى الرمّادة التى أمامى ، و جعلته يدور فى موجات دوامية صارت تكبر وترتفع وتزداد سواداً حتى تشكلت كائناً على المقعد المقابل لى .

كان ضيفى الذى أتى بلا دعوة منى ينظر فى عينى مترقبا ثم تحول الترقب إلى تعجب عندما لم يجد منى إكتراثاً ولا وجلٍ بعد كل هذه المؤثرات السينمائية التى سبقت نزوله بساحتى.

كان سعيدا لما علم أنى أعرفه جيداً ، لأنى بذلك أكون قد وفرت عليه مشقة كبيرة ، أوضحت له وقتها أنى أّمُّر بمرحلة من حياتى لم أعد أشعر فيها بالخوف وأكدت له أنى لم أعد أتعجب كثيراً وذلك من كثرة ما عرض لى من رعب و دهش فى هذه الدنيا . جذب سيجارة من علبتى كمن يحتفل بشىء وقال بعد أن نفث دخاناً كثيفاً

ماتت جدتك منذ دقائق

أعتذر لى ولكنه صرح لى أيضاُ بأنه كان يكرهها بشدة . الهواء الخانق المشبع بعوادم السيارات لم يمكننى من سحب ما يكفى منه لأعبر عن صدمتى وحزنى ، بكيت عائدا بذكرياتى إلى هناك حيث كانت تعيش ثم فقدتُ العلة فى البكاء ولم أعد أعرف هل كنت أبكيها أم كنت أبكى ذكريات المكان الذى غادرته مهاجراً إلى القاهرة للدراسة والعمل؟ ؛ كان بيتا فسيحا منفصلاً عن القرية تمامًاً ينظر الى الحقول من بوابته الخلفية ومن الأمام يفصل بينه وبين غابة النخيل الرائعة ؛ باحة حوت كل طفولتى بمرحها وأنطلاقها ، كان ذلك بيتها الذى أحتوانا أنا و أمى وأبى وبقية العائلة.

قال لى ضيفى العزيز وكانما كان يقرأ ما يدور برأسى

كانت جدتك تصر على البسملة والحوقلة كلما تذكرت ، كانت تطردنى بعيداً بكلماتها ، لم أكن أضمر لأيكم شراً ، كنت فقط سعيدا بوجودى هناك.

حقاً كانت جدتى تفعل ذلك و تذكرنى قبل الطعام وتقول:

سم الله وإلا شاطرك الشيطان طعامك

كنت أتعمد الجهر بالبسملة امامها قبل الطعام ، كانت تجزل لى العطاء لقاء ذلك ، وأذكر انها كافأتنى على ذلك بسخاء غير مسبوق ذات مرة ، دست فى جيبى ثروة قوامها عشرة جنيهات .

كان ضيفى ينظر فى وجهى وكأنه يشاهد عرضا لشريط ذكرياتى التى يعتبرها ذكرياته هو الآخر بل ويتدخل فى أوقات معينة معلقاً كما فعل عندما تذكرت العشرة جنيهات وما فعلت بها ، قال لى : توقف عند هذا اليوم بالذات ، وتذكر ما فعلته ، والجيلاتى أو الأيس كريم كما يسمونه فى القاهرة.

كنت قد قطعت المسافة من البيت إلى القرية ثم البقالة التى كانوا يسمونها الوكالة ، اشتريت اشياء كثيرة و انتظرت صيحة بائع الجيلاتى التى فشلت فى فك تراكيبها إلى اليوم و لكنها كانت صيحة مميزة لا تعنى إلا أن عربة الجيلاتى قد حلت بقريتنا. التهمت ثلاثة كونات من الجيلاتى ثم ابتعت لجدتى التى كانت تحبه واحدة ، عدت لها راكضاً ألعق ما سال على ظاهر يدى ، عندما أيقظتها اختطفت منى الجيلاتى راحت تلعق بنهم وعندما انتهت نبهتها

لم تقولى باسم الله يا جدتى

قال لى ضيفى :

اتذكر ماذا قالت وقتها ؟

تعودت جدتى أن تبرر نسيانها بأن تدَّعى أنها قالت فعلاً ولكن سراً

ولكنها فى هذه المرة قالت لى :

لم يكن هناك داعٍ يا ولدى ، فالشياطين لا تحب المثلجات

عندما ذهبت للقاهرة دعانى زملائى لنأكل البيتزا وكانت المرة الأولى ، ترددت قبل أن أقول ” بسم الله ” فأنا لم أكن اعرف هل تحب الشياطين البيتزا أم تكرهها ، تماماً كما ترددت أمام أول سيجارة ، هل ينفع أن نبسمل قبل التدخين وهل سترضى الشياطين مشاركتنا الضرّ لو لم نقل بسم الله ؟!

ضحك ضيفى وهو يشاهد حيرة أفكارى وبعد ذلك إعتدل فى جلسته وقال:

جدك وجدى ُطردوا من الجنة فى أول الزمان ، مات جدك وإستراح ، وبقى جدى يتعذب بذكرياتها بعد ان كان يرفل فيها ، وانا اليوم فى القاهرة أتعذب مثله وأبكى جنتى التى نشأنا فيها أنا وأنت … إذا كان قد قدر لى ان أظل مصاحباً لك كظلك وإذا لم يكن هناك فكاك من ذلك فلن أكون سلبياً مثل جدى الذى أضاع جنته لذلك سأعرض عليك إتفاقاً … لماذا لا تترك ميدان التحرير والقاهرة ونعود إلى قريتنا ؟ لو عدت بنا فإنى أعدك بل وأقسم لك أنى سأتوقف عن غوايتك …أنا لا يعنينى هلاكك بل تعنينى الجنة ، هل ستعود ؟ فكر فى العرض….

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* قاص مصري

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون