عادل سعد يرصد مشانق البامية الخضراء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

نعم هي المجموعة القصصية الأولى لكاتبها، ولكنها قادرة على الكشف عن تجربة شديدة الخصوصية وعن قلم موهوب يعرف كيف يقيم عالمه السردي بطريقته الخاصة وهو ما يتكشف عبر مجموعة من النصوص السردية، تتشكل من نص طويلا بمثابة النوفيلا شديدة التركيز، إضافة إلى  عشر قصص قصيرة تأخذك إلى مساحات تبدو للوهلة الأولى تمتلك خبرة السرد واختيار زاوية وضع الكاميرا وتحريك الشخصيات واختيار من يتصدر المشهد ومن يبقى هناك حتى يحين دوره لتقديم جملته السردية.

للوهلة الأولى سيأخذك العنوان “مشانق البامية الخضراء” بوصفه يتكرر مرتين، عنوانا لأطول نصوص المجموعة، وعنوانا للمجموعة بكاملها، والقصة التي تعد الأبرز حجما ونوعية تأتي في خمس وخمسين مقطعا أو مشهدا سرديا تتضام جميعها لتشكل لوحة سردية كبرى يتحرك السارد فيها عبر عالم يبدو ضيقا على مستوى المساحة المكانية لكنه شديد الاتساع على مستوى الدلالة، فالسارد يبدو كالمخرج الذي يحسن تحريك الجموع على مسرح الأحداث، وبانسيابية شديدة يتحرك السرد في مساحات تمنحه الحيوية لتجعل المتلقي مستمرا في الوقوف على تفاصيل العالم المعيش، سمها الواقعية المغرقة في قاع العالم، أو سمها واقعية العالم الأكثر قذارة، والقذارة هنا لا تعني افتقاد المكان للنظافة وإنما هي تعرية مجتمع بالكامل، فقاع المدينة يكشف عن ظاهرها وليس العكس، فالظاهر سطح لامع قد يعكس نفسه فقط خلافا للباطن الذي يعري الظاهر والقاعدة السردية تحكم بأنه كلما اعتمد السارد على شريحة اجتماعية تقترب من البدائية كانت الرؤية شديدة الدلالة على المجتمع بكامله ذلك المجتمع الأكثر بروزا في نص يعتمد شريحة اجتماعية (ولا أقول طبقة اجتماعية) شريحة لا تكشف عن دلالات اجتماعية وأخلاقية شديدة القسوة ولكنها ليست من إنتاج النص بقدر ماهي نوع من اختزال أدران المجتمع في صيغة سردية دالة تضع القارئ أمام شخصيات صادمة في تصرفاتها ووقائع صادمة فيما تصوره ولكنها الصدمة ذات الأثر التطهيري، ذلك الأثر الذي يبدو صادما في البداية لكنها صدمة سرعان ما تكشف أن الفن لا يختلق وأن السارد لا يدعي على المجتمع شخصياته ولا يزيف الواقع المتمكن في مكانه وأن تقصير المتلقي في إدراك واقعه ليس مشكلة النص بقدر ماهي مشكلة المتلقي ذاته، فالنص يعمل على كشف واقع قد لا يراه متلقيه بقدر يجعله مدركا تفاصيله الدالة.

يطرح النص واقعا منهارا أخلاقيا تنعدم فيه كل مقومات الأخلاق والقيم ولافرق بين متعلمه ومثقفه وأميه (الصحفي يحتمي بوظيفته، والأمي يحتمي بقوته المزعومة المصطنعة بالمخدرات )، عالم تشعر معه أن الحياة تخلو من كل قيمة.

تعتمد القصة على تصوير المشاهد المتوالية في غياب الحوار، ذلك المشير إلى ان العلاقات القائمة بين الأشخاص تفتقد لأي نوع من أنواع التواصل الإنساني، السارد يقدم حياته بصورة تبدو تقريرية (يكتشف القارئ في نهاية القصة أن كل ماذكر سابقا هو جملة ماذكره السارد في قسم البوليس ) :

” بعد الضرب والتلطيش، والكهرباء، تأكدوا من براءتي من الانتماء لجماعات إرهابية، او حمل متفجرات، وصرت متهما فقط بانتحال صفة أنثى.

ولسعني الضابط كرباجين، وقال لي : احك ياروح أمك، كان يتحسس ليونة الكرباج، وآثار النار على ظهري وهو يسأل : اللي يكذب يروح فين ؟؟

فبدأت أحكي ” (ص 60) والمشهد الأخير يضعنا إزاء دائرية تجعل المتلقي فور وصوله نهاية القصة يعود لأولها مستكشفا طبيعة ما يقره السارد الذي يسرد تحت تهديد القانون وتحت ضغط الأوامر مما يجعل المتلقي يداخله اعتقاد بأن ميلاد الحكاية جاء نتيجة ضغوط سلطوية وأن الناس لا تحكي إلا للاعتراف، وعندها يكون للجانب الأخلاقي المنهار تفسيراته، فالمشاهد الأكثر قسوة جاءت اعترافا من سارد في وضعية المتهم الذي يسعى لتشويه البيئة التي يعايشها ليكون له مبرره للبحث عن البراءة فهو لم يكن ابن نفسه وإنما هو ابن منظومته الاجتماعية مما يجعل لسان حاله ينطق بالجملة التبريرية :جعلوني مجرما، كما أن الحكي بطريقته هذه يقيم فاصلا بين عالم السلطة الأعلى وعالم القاع،  وجميعها معطيات تصب في فكرة إدانة مجتمع لا لتطويره أو لإخراجه من عثراته وإنما لتبرئة نفسه فمادام المجتمع مدانا فلست مدانا وحدي.

والدائرية بوصفها واحدة من تقنيات السرد لا تقف عند النهاية وإنما تطرح نفسها مرات سابقة أبرزها ما يطرحه السارد من علامات  في المقاطع الأخيرة، في المشهد الثالث والخمسين يكشف السارد للمرة الأولى عن العلامة المتعلقة بالعنوان، حين يحكي عن حماته التي ” تستغل بناتها وتقعد لتقمع مائة كيلو من البامية وتسلكها في خيوط وعقود وتبيعها للعلاف بامية ناشفة وتكسب، وأنا طوال الوقت مستمتع بالإجازة وسط الخيوط لأنثى العنكبوت…… وزوجتي تنتظر مثل عناقيد البامية أن تنخرط في هذا السلك الطويل من النسوان المحنطة ” (ص 58)وهو ما يكشف عن رمزية العنوان وقابلية الرمز للانفتاح على العالم عبر الاستعانة برمز العناقيد بوصفها نساء محنطة، وفي المشهد قبل الأخير ( 54 )عبر الزوجة التي علقت صورة السارد على الجدار لينام تحتها الأطفال،في إشارة سابقة إلى صورة الأب (في المشهد الحادي والعشرين حيث يمارس الأب سطوته من صورته المعلقة ) ويكون على المتلقي الربط بين الإشارتين الدالتين على تكرار المشهد وتعاقب الأجيال المكررة للأحداث دون تغيير فالعالم عبر أشخاصه لا يملك إرادة التغيير إذ هو يدور في دائرة مفرغة تماما.

ووفق قانون أن إيقاع السير في أي طريق محكوم بأبطأ السيارات وليس بأسرعها، فإن الشخصيات القابعة في قاع المجتمع هي التي تحدد إيقاع حركة المجتمع، وتحدد مسار الدلالة فيه، والنصوص تضع محددا يتحرك بين نصين :

  • نص القاع وتمثله مجموعة نصوص منها : مشانق البامية الخضراء – كلب الزعيم – يوميات طرح النهر- البابا مات وغيرها من النصوص.
  • نص القمة وتمثله مجموعة أخرى : حذاء – رسالة أب، والنصان يقدمان شريحتين اجتماعيتين أولاهما القمة وثانيتهما المتطلعة للقمة الصاعدة من القاع، أو الباحثة عن فرصة للصعود ولكل منهما أزمتها الخاصة ومشكلاتها المزمنة.

والنصان يشكلان معا لوحة سردية قادرة على أن تشي بطبيعة العالم المرسوم بعناية بقلم كاتب لم يقرر البدء في كتابة فعل السرد إلا بعد أن اكتنزت خبراته بالواقع من أقصاه إلى أدناه حتى إذا ما قرر الكتابة وضعنا أمام خبرات اجتماعية شديدة الثراء جعلت النصوص بمثابة البيانات الاجتماعية شديدة الدلالة التي قد تأخذك إلى مساحة تكاشف فيها البشر مجتمعين (مشانق البامية الخضراء )حيث لا بطولة لإنسان ولا سطوة إلى للفقر في كل شيئ، وقد تأخذك إلى شخصية بعينها تتابع عالمها بشغف المستكشف (كلب الزعيم )، وقد تصنع لك غلافا مخادعا إلى حين قبل أن تكتشف أن العالم في باطنه غير ما يبدو عليه في الظاهر، وهي واحدة من الألعاب التي يمارسها السارد المغاير (السارد ليس واحدا في كل مرة حيث يتخلص الكاتب من ديكتاتورية السارد لصالح ديكتاتورية الواقع )، لعبة القناع أحيانا أو لعبة ممارسة الخداع الاستراتيجي التي تتجلى في عدد من النصوص في مقدمتها القصة التي يتصدر عنوانها عنوان المجموعة بالأساس ” البابا مات ” حيث العنوان يأخذك إلى مفهوم الشخصية الدينية او المعنى المطروح للمصطلح الديني، غير أن مكاشفة النص تفضي بك إلى مكاشفة ما وراء القناع أو ماوراء العالم الظاهر لتكتشف ان البابا ماهو إلا بابا نصي أو البابا المستخدم بوصفه قناعا لنموذج من البشر يعيشون حياة ظاهرها الإنسانية وباطنها الرزيلة.

 النصوص تفرض علينا قراءتين : أولاهما قراءة الانفصال، حيث كل نص يمثل ذاته ويعتمد على شخصيته المنفردة في تقديم عالم، وثانيتهما قراءة الاتصال حيث كل نص يمثل جملة سردية تتضام مع غيرها من النصوص لتقدم نصا أكبر هو جامع النصوص،في القراءة الأولى تكون مساحة حركة المتلقي بين نص واحد له قراءتان، قراءة من السطح للداخل حيث النص ينفتح على نفسه، وقراءة من الداخل إلى العالم، حيث النص ينفتح على العالم طارحا أسئلة لا إجابة عليها إلا بالوقوف على تفاصيل التشابه القائم بين النص وعالمه بوصفه المرجعية الأساسية له،  وفي قراءة الاتصال تتسع مساحة حرية القارئ في الربط بين النصوص ذات العلاقة، مثلا لك أن ترى هذا البابا ابنا للمجتمع الذي صورته قصة ” مشانق البامية الخضراء ” ويكون لديك خياران:

  • أولهما : الربط على أساس المواد الخام المشكلة لعالم النصوص،  الشخصيات والوقائع ليكون البابا العماني الأب والكويتي الأم نموذجا يتضام مع شخصيات خارجة من البيئة المصرية المشار إليها لنكون أمام شريحة عربية بامتياز، شريحة يعضدها ويساند دلالتها قصص أخرى تأخذنا إلى هذه الحالة، ومنها : حذاء – شعبولا – تبول لا إرادي.
  • ثانيهما : الربط على أساس المنتج الاجتماعي، أو تلك الصورة المستخلصة من تفاصيل عالم أحسن السارد رسمه وتقديمه متحركا بين مجموعة من الأمكنة المتقاربة والأزمنة الأكثر تقاربا لنكون أمام لحظة عربية بامتياز لا تختلف عن سابقتها سوى أنها تزيد عليها وتضيف لها أسئلة من شأنها مكاشفة الواقع في مأساويته، تلك المأساوية الممررة عبر طريق من السخرية، فالسارد يعتمد أسلوبا ساخرا قد تعتقد بداية أنه إنما جاء للتخفيف من حدة الواقع ولكنه أيضا يعتمدها لإنتاج كوميديته السوداء التي تنساب في بساطة إلى لغة المشهد بوصفها كوميديا الموقف التي يحسن الكاتب توظيفها لإنتاج سرديته الخاصة وعلى مدار مساحة القصة الأطول يجد القارئ نفسه أمام الكثير من علامات السخرية التي من شأنها وضعه في عمق التجربة السردية.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)