طرقات المحبة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة : أميمة عز الدين *

اجعلني كخاتم على قلبك

كخاتم على ساعدك، لأن المحبة قوية كالموت

الغيرة قاسية كالهاوية، لهيبها لهيب نار لظى الرب (الإصحاح الثامن : نشيد الإنشاد)

 

لما استيقظت من نومها مبكرا جالت  بعينيها في أرجاء الغرفة، الرؤية مازالت مضببة .. فركتهما بضعف .. تبحث عن وجوده ..مازال الفراش دافئا والمكان تلفه الرائحة .. كان وعدها أن يظل معها لنهاية الأسبوع ويترك طفلهما البالغ من العمر ست سنوات لدى أمها.

حدث هذا بعدما تشاجرت معه كثيرا لأنها أحست أن  قلبه مازال معلقا كأرجوحة هواء ساخن بالبيت الآخر والذي يعتبره الأساس، خاصة أن أطفاله الثلاثة قد كبروا وأصبحوا على أعتاب رجولة مبكرة ويحتاجون لوجوده بينهم .

حتى بكاؤها لا يُجدى .. فقد اعتاد عليه وتوعدها بالهجر في الفراش أو التسريح بمعروف، وذكرها بما حدث بينهما منذ عشر سنوات وإنها هي  من توسلت إليه أن يتزوجها ويأتيها يوما أو يومين في الأسبوع وأوحت إليه بفكرة زواج المسيار ، قائلا حين لمح جرح قلبها يسيل على وجهها المصقول بالفتنة :

ـ لا أنكر أننى أحببتك ومازلت، لكن دعيني أتنفس قليلا .

فنجان قهوته دافئا وأعقاب سجائره متوهجة، استبشرت خيرا وحدثت نفسها إنه مايزال بالبيت .

ظلت تبحث في المطبخ والغرف الأخرى، تصطدم بالأثاث بقوة غير مبالية بألم الخبطات .. حتى عندما اصطدمت بكرسيه الخشبي الهزاز ووقعت فوقه، لم تجد غير احتضانه رغم موجات الألم التي تجتاح جسدها الضئيل، خرجت للشرفة الواسعة فلم تجد أصيص زهرة عصفور الجنة الذي يشرف بنفسه على رعايتها .. افترشت الأرض وهى تلملم ذرات الطين المتناثرة الجافة، تحتضنها بيديها.

فى نفس المكان كان قد حكى لها عن نبات عصفور الجنة وكيف أن اسمه أسطورة يصدقها .. على عكس زوجته الأولى التى تراه تخريفا وعبثا .. تنصت إليه و تتابع حركة شفتيه وهو مسترخ ، يقول:

ـ عصفور الجنة رجل مدفون بحديقة تدعى الجنة، قتله غريمه فى عشق زوجته بالحيلة والسم، لما مات دفنته زوجته المُحِبَّة بفناء الحديقة وبالليل حينما باح  جسدها للمسة يده وتاقت روحها للقاء المودة ذهبت تجلس عند حافة قبره تنظر للقمر وتبكى وانتبهت على زهرة  تبدو كأنها عصفور رمادى نبتت  للتو على حافة القبر.

اقتربت منها وحاولت تحسس وريقاتها الضعيفة .. عندئذ تحولت الزهرة التى تشبه العصفور الرمادى الضئيل الى طائر ضعيف لكنه كان يملك منقارا قويا مكنه من نقر زجاج القاتل عدة ليالٍ حتى جُنَّ القاتل وهام على وجهه هربا من النقر المتواصل الذى يُشبه النزيف بأذنه، أمّا الزوجة المحبة لم تتحمل فراق حبيبها فماتت ودُفنت بقبر زوجها وعاد الطائر الرمادى ليستقر على حافة القبر وقد تبدل لونه إلى اللون البرتقالى وتبدى كعصفور أنيق فارد جناحيه على الدوام .

قالت:

ـ سأكون لك عصفور الجنة وأتطوح عند قدميك علك تأتى و تمسح عنى ضعفى و تعالج ريشى المتساقط منذ أن غادرت الشهوة جسدك وتركت رضابك فوق شفتى وسأزهو عندما تنعتنى بامرأتك الخلاسية ويختلط عليك لون بشرتى بين البياض والسمار وتحتار فى وصفه وينتهى الأمر بأن أركض إليك، فى حضنك وأتشمم رائحتك طويلا حتى أشعر برغبة حقيقية فى النعاس .

لما أعياها البحث عنه ، أيقنت أن طائرها فر بعيدا وأنه لن يعود إليها أبدا، على مائدة الطعام وجدت مظروفا أصفر بلون المرض .. كان منتفخا قليلا .. تقدمت فى توجس نحوه ويدها ترتعش خائفة من فضه .. تراجعت للوراء. هى تدرك معنى أن يترك لها ظرفا منتفخا .. تطل منه أطراف وريقات مالية فئة المائة جنيه ، وتخشى أن تكون ورقتها مدسوسة وسطهم .

لم تصدقه حين قال لها ذات يوم :

ـ لن يدوم الحال، لقد ظلمت نفسى وظلمتك وأخشى أن أظلم أولادى الثلاثة .

لما ألمحت له بولدهما هز رأسه فى أسف :

ـ لكل معركة ضحية، وضحية واحدة غير ثلاثة .

خرجت الكلمات متحشرجة وقد  أسندت رأسها على كتفه:

ـ دعنا نطوف أنا وأنت طرقات المحبة، يوما آخر لن يضر.

ثم تغنت بما يحب قائلة:

ـ اجعلنى كخاتم على قلبك

كخاتم على ساعدك ، لأن المحبة قوية كالموت

مرر يده على جبينها وتسللت أصابعه لما وراء أذنيها وابتسم يوارى حزنه .

قال :

ـ الغيرة قاسية كالهاوية، لهيبها لهيب نار لظى الرب

شعور الغيرة كان يجعلها تنتفض وهى تتخيله بعيدا عنها فى أحضان امرأته الأولى، تهرع إلى التليفون وتبثه رسائل قصيرة ثم لا تلبث أن تعود لابنهما تحمله وتهدهده وتضمه لصدرها وتنظر لبندول ساعة الحائط .. يمر الوقت كسلحفاة مريضة بالزهايمر، تنتظر انفراج الباب بين لحظة وأخرى حتى تضج رغبتها وتتسول وجوده بالتصفح الهادىء لصوره القليلة.

قال لها :

ـ اجعلى حبنا سرَّنا الصغير وانتبذى به مكانا قصيا ، فلا يطلع عليه أحد .

ـ كأنه سوءة .

لم تندهش حين وافقها قائلا :

ـ  أجل .

لملمت حزنها وارتدت ملابسها على عجل ، ورغم أنها تعرف عنوان بيته الأول إلا أنها ظلت كالمحمومة تردده بصوت خافت.

ظلت واقفة أمام البيت بالساعات، تنتظر خروجه ، شمس النهار حارقة، تسبح بعرقها المالح حتى مضى النهار وأرخى أول الليل ستائره .

تنتظر عله يحس بوجودها الذى بدأ يتلاشى حينما ترك لها مظروفا أصفر اللون مفخخا بالكثير من النقود وأوراق أخرى، اشتاقت لأن تشبك يدها بيده وهى تسير به فى طرقات المحبة ويكون لها حلم الليل وأمنية النهار .

ـــــــــــــــــــــــ

* روائية مصرية

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون