طاهر شرقاوى.. النباتى

طاهر شرقاوى.. النباتى
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسن عبدالموجود

طاهر شرقاوى الصغير غير طاهر شرقاوى الكبير. الشاب المثالى فى أذهان كثيرين لم يكن مثالياً على الإطلاق. فمثلاً لم يترك نخلة أو شجرة فى بلده إلا وتسلقها ليحصل على ثمارها. أيام المعهد الأزهرى كان يسير فى الشارع بجلبابه النظيف، ولكن بمجرد أن يلمح ثماراً جديدة يتوقف ويبدأ فى جمع الأحجار وقطع الطوب ويرمى منجنيقه باتجاهها. يأكل ويملأ جيوبه، ويعود فى نهاية اليوم بجلباب متسخ إلى العائلة.

كان أنانياً أيضاً، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بثمار أكثر رقياً كالمانجو. تسلّقَ شجرة مانجو فى إحدى المرات، وكان أقرانه، الذين بكل تأكيد لا يجيدون مهارته فى التسلق، يقفون على الأرض منتظرين أن يهزّ فرعاً معيناً بالذات، فرعاً ممتلئاً بالثمار، ولكنه كان يفكر فى شىء آخر، أن يصل إلى ذلك الفرع ويأكل كل ما تصل إليه يداه، وهكذا وبهذه الفكرة الشريرة بدأ يتجه بحذر من جذع الشجرة العملاقة باتجاه الفرع، وبدا أن الأمور تسير بشكل جيد للغاية، وهكذا سيحصل الولد على غنيمته فى السماء بينما يبكى الآخرون على الأرض، وبمجرد أن غادرت قدماه الجذع وأصبح بكامل جسده فوق الفرع، مال قليلاً، وأصدر صوتاً مرعباً، يشبه الأصوات التى تسبق الكارثة، ثم تخلى الفرع عن الشجرة الأم منفصلاً عنها بثقل طاهر، واتجه به إلى الأرض، ولسوء الحظ كانت هناك قوالب طوب، ارتطم بها صاحب الجسد الضئيل، معلناً عن أول إصابة بليغة فى حياته. كُسرت ذراعه، وبطريقة كامل كيلانى، يمكن القول إن “الطمع قلّ ما جمع”!

طاهر نباتى، ولكنه لا ينكر على الآخرين محبّتهم اللحوم، وقد يعزمهم، ويشترى فرخة وينظفها، ويطبخها، ويتحمل رائحتها المؤذية من أجلهم. لم يكن طاهر نباتياً حتى سن الخامسة تقريباً. كان طفلاً مفجوعاً، ويبدأ فى البكاء قبل أن ينضج اللحم على الموقد، وهم كانوا يعلمون أن إسكاته لن يتم أبداً إلا بمنحه أكبر قطعة لحم، يأخذها وينتحى بها جانباً ويبدأ فى التهامها، ولكن ماذا حدث؟! قالت الأم “أكيد حسد”، وهو نفسه لا يجد تبريراً لذلك، سوى أنه قد يكون شاهد “بهيمة” تُذبح وتُسلخ، وهو ما صدمه، ولكن لأن الأمر بعيد جداً فإنه لا يتذكر بوضوح، ما يتذكره أنه توقف عن تناول اللحم منذ الخامسة، يقول “فى بداية تحولى إلى النبات كان البعض ينظر إلىّ بشفقة، وكنت أكره مشاعر الأسى، فأنا كائن حىّ أتنفس وأتحرك وأفعل مثلما يفعل الجميع. كان يروق للبعض سؤالى: كيف تحولتَ إلى نباتى؟ وكان السؤال يضايقنى وأحاول تغيير الموضوع فوراً، ولكن منذ فترة تصالحت مع الأمر، وربما أشارك فى الهزار عن فكرة الشخص النباتى”.

العالم الذى نشأ فيه طاهر يبرر ظهور الكائنات الغريبة فى أعماله. فى إحدى المرات كان يستقل دراجته إلى مكان ما. فى الطريق شاهد “ورنة” (ورل) ضخمة، تشبه تمساحاً، ولها حوافر قوية، وجسدها مغطى بالحراشف، وذيلها طويل، كانت تجلس مسترخية تحت أشعة الشمس الدافئة، قاطعة الشارع الذى يحده “مشروع مائى من جهة”، وتلال التراب الضخمة من الجهة الأخرى،ولكى يعبر كان عليه أن يمر فوقها، وهذا مستحيل، فلا أحد يعلم ما الذى يمكنها أن تفعله به بضربة واحدة. هبط من الدراجة محافظاً على مسافة معقولة بينهما، وبدأ يلقى الأحجار باتجاهها، ولكنها لم تعره انتباهاً رغم ضخامة تلك الأحجار، القادرة على أن تصيب شخصاً بالغاً بأذى كبير، وكأنها لم تشعر أصلاً بتلك الأحجار، لسماكة حراشفها، يقول ضاحكاً “لم تعرنى انتباهاً كأننى لا شىء”، وبعد فترة طويلة من الانتظار، استقل دراجته، ولكن إلى الناحية الأخرى، عائداً إلى المنزل!

كان طاهر يرعى الغنم، ويعرف كل شىء عن الجاموس والأبقار، وبالطبع الجمال. كانت العائلة مثل عائلات أخرى فى موسم كسر القصب تشترى جملاً لتستخدمه فى نقل القصب، وبعد انتهاء الموسم تبيعه “كان الجمل مخيفاً جداً بالنسبة لى، وبعض الجمال تعضّ، ولهذا كانوا يضعون قناعاً من الليف على وجهه، وهناك نوع منها كان يُخرج بالونة حمراء كبيرة من فمه، ينفخها، ويعود ليمتصها، كان هذا المشهد يرعبنا نحن الأطفال، والآن وأنا أسترجع ذلك أحاول أن أفهم ماهية تلك البالونة، ربما كان يستخدمها لإرهاب الآخرين، وربما لجذب أنثى إليه”.

جرب صاحب “فانيليا” تدخين السجائر، ولكنها لم تعجبه، ولكنه لم يحاول أبداً تجريب الخمور. الأمر يعود كما يقول إلى التربية والمنشأ. فالبيئة التى تربى فيها تنظر إلى القاتل بشكل أفضل من شارب الخمور وبائعها، ولكن هناك فكرة أخرى بخلاف كل ذلك “أنا أحترم فكرة العقل وأضعها فى مرتبة عليا كما كان يفعل المعتزلة.باختصار أنا لا أريد أن أفقد عقلى لأى سبب من الأسباب، وهناك من يقول لى عموماً: أنت عقلانى إلى درجة تغيظ”.

المرأة لها مكانة كبيرة عنده “أول حكاية سمعتها من امرأة، أمى، جدتى، وفى فترة المراهقة أحببتُ فتاة، وبالطبع غادرتنى وتزوجت، وحتى بعد مجيئى إلى القاهرة تعرفت إلى أخرى وارتبطنا بعلاقة لم يُكتب لها النجاح، ولكنها تحولت إلى صداقة، ولا أعرف تفسيراً لذلك، ربما لأننى أسمعهن جيداً، ربما لأنهن يعرفن أننى لست مؤذياً. أنا أكره القطيعة، وأن تتحول علاقة الحب إلى صداقة شىء جيد”.

الكاب يميز طاهر، وربما يظن كثيرون يرون لحم رأسه من الجانبين ومن الخلف أنه أصلع، ولكن هذا غير حقيقى “أنا أشعر بأننى تعبان أو مريض لو لم أحلق شعرى. المسألة تشبه قص الأظافر بالضبط، ويهيأ لى أن الشعر يسبب لى بطءاً فى التفكير، وحلاقته على نمرة واحد تبقى ذهنى متوقداً، ولهذا لن ترانى أبداً بشعرى”. يضحك رافعاً الكاب لثانية قبل أن يعيد ارتداءه، ويضيف “آه بالمناسبة أنا لا أتحمل الشمس، ولهذا أرتدى الكاب. جربت ارتداء النظارة لكنها كانت ثقيلة على أذنى”. لا يمكن أن تستمع من طاهر إلى نميمة، لا يمكن أن يخطئ فى شخص غائب، لا يكذب، ولا يبالغ، ويضحك من قلبه، وإذا سمع الأذان يختطف أى جريدة ويفردها ليصلى، ومثل هذا المواطن بالنسبة لكثيرين مثالى، يعلّق “أنا لست مثالياً وأكره تلك الكلمة. أنا إنسان عادى، أخطئ وأحزن وأغضب”، ويكرر “أنا لست طيباً، وأرتكب أخطاء. يمكنك أن تقول إننى أمارس حياتى بشكل عادى للغاية”، ولكنه يعترف “هذا لا يعنى أننى لا أسعى إلى السلام مع نفسى ومع العالم، كنت متعصباً جداً للنادى الأهلى، ولكن بسبب فكرة السلام التى أسعى إليها خلصت نفسى من التعصب، وهذا جيد”.

وساوس صاحب “عن الذى يربّى حجراً فى بيته” خاصة بالمرض. حينما يمرض يشعر بأنه ضعيف جداً، ومثير للشفقة، ويفضّل الانزواء بعيداً. كان فى الماضى يكره الظلام ويخشاه ولكنه تصالح معه، يمكن القول إنه يشبه بطل روايته الأخيرة الذى يعيش حياته بالكامل فى الظلمة “نعم أنا أشبهه، وأستطيع أن أسير فى الظلام”، ولكن كيف تخلص من تلك العقدة؟ يجيب “فى الجيش. عملت محاورة مع نفسى. كانت كتيبتنا بلا سور، أرضها غير مستوية، وهناك أخاديد ومناطق صاعدة وأخرى هابطة، وكانت المسافة بين الخدمة والأخرى حوالى اتنين كيلو، والظلام كان ثقيلاً كأنك تخوض فى بركة مخيفة من الوحل، وبالطبع كان الجنود الأقدم يروون لنا أساطير عن تلك المنطقة، هنا شخص انتحر، وهنا آخر مات، إسرائيل ضربت المنطقة فى 67، المهم أننى قررت إنهاء المسألة تماماً وقلت لنفسى: لو أن شيئاً ما واجهنى، لو أن شيئاً جرى لى، لو أنه مقدر لى الموت فماذا سأفعل؟ وهكذا بدأت أسير فى الظلام بدون خوف”.

كانت القراءة همّه الأول يوماً ما، ولكنها تراجعت إلى المرتبة الثانية لتحتل السينما مكانها “كل يوم ربما أشاهد فيلماً، أو أعيد الفرجة على أفلام قديمة، أحبُّ أحمد زكى ولو أنه جسد أدواراً أنا غير راض عنها، ميريل ستريب وتركيزها، جونى ديب، آل باتشينو، عموماً أعشق سينما أمريكا بقدرتها على الصنعة، أحب فيها قدرتها على الحبكة زى ما بيقول الكتاب، وأيضاً أنا أشاهد سينما العوالم الأخرى، لكنها لا تملك بالطبع إمكانيات السينما الأمريكية، ولكنها تملك روحاً، وأيضاً أكثر تلقائية”.

قرأ طاهر الكلاسيكيين بتوع الأربعينيات والخمسينيات مثل يوسف السباعى ومحمد عبدالحليم عبدالله والمنفلوطى، واكتشف أن هناك أشخاصاً آخرين “تأثرت بإبراهيم أصلان قبل أن آتى إلى القاهرة. شد انتباهى، ومعه أيضاً الغيطانى، فى فترة الثانوية، ثم اكتشفت أمل دنقل وهكذا”، يصمت ويضيف “دينو بوتزاتى أبهرنى، شعرت أنه يقدم عالماً مختلفاً، عالماً يجبرك على الاحتفاظ بتفاصيله، مثل قصته التى تتحدث عن نقطة مياه تصعد السلم كل يوم وتصيب الناس بالرعب. كنت أعرف أن هذا الجو خاص بأمريكا اللاتينية، ولكن اكتشفت أن السحر ليس حكراً على مكان بعيه، وإنه موجود هناك. فى أوروبا أيضاً”. يحب طاهر كذلك كتابات أحمد شافعى “تعجبنى لغته الرائقة. إنه كاتب جيد ومترجم هايل”.

طاهر فى النهاية ليس راضياً عما كتبه: “نفسى أعمل حاجة مختلفة، ولو لم يحدث ذلك سأتوقف. أملى أن أصل إلى روايتى، وحتى هذه اللحظة لا أشعر أننى وصلت إليها”.

 

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم