طارق إمام: مجموعاتي الأولى كانت أشعاراً وضعت عليها لافتة قصص

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورته :عناية جابر

طارق إمام، قاص وروائي مصري شاب (مواليد 1977)، يعمل صحافياً في مجلة الإذاعة والتلفزيون القاهرية. لإمام سبعة كتب نال عن بعضها جوائز أدبية (جائزة ساويروس في الرواية عام 2009 عن «هدوء القتلة»، المركز الثاني) الى جوائز أخرى عن وزارة الثقافة المصرية. يكتب إمام من فكرة الشك بأن الوجود الإنساني في حقيقته مدين للعبث أكثر مما هو مدين للمنطق. من هذه الفكرة وما ينسحب عليها يكتب إمام بكل التجريب والسوريالية الممكنين، لاعباً على أن لكلّ منا لعنته الخاصة التي يخشاها، ولا علاقة لهذه المسألة بالتأثرات الدينية بقدر ما هي «قدرية» صرفة. عن روايته الأخيرة: «هدوء القتلة» وعن أمور ثقافية أخرى كان لنا مع الكاتب طارق إمام هذا الحوار:

ـ اللعنة بمعناها الماورائي والميتافيزيقي حاضرة بقوة كخيط يربط بين كثير من قصص مجموعتك «حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها»، لماذا هذا الحضور، وهل يرجع لتأثيرات دينية ما؟

^ اللعنة مفردة ميتافيزيقية، تلائم العالم الذي عايشته من خلال المجموعة.. وهو عالم تحتله شخصيات شبحية او اقرب للشبحية…. وبشكل ما، وليكن ذلك أقرب لقناعة شخصية، أرى أن لكل شخص لعنته الخاصة التي يخشاها، حتى ان الأشخاص العقلانيين لديهم هذا الهاجس الماورائي.. المسألة بالطبع لا علاقة لها بتأثيرات دينية، فكرة اللعنة بطبيعتها، في الفن كما في الحياة، فكرة قدرية.. والقدر موجود في النهاية، وليس شرطا ان يكون مكتوبا سلفا، بحسب الرؤية الدينية، كي يكون موجودا.. هو كامن في أشد اللحظات عادية.. وأنا بشكل ما مؤمن بأن الإنسان في النهاية كائن ميتافيزيقي، حتى علاقتنا بما هو متعين ومتجسد كالمكان هي علاقة ميتافيزيقية فما بالك بما هو أشد ابهاما كفكرة الزمن، أو كالمشاعر؟ من ناحية أخرى أنا مؤمن بأن الوجود الإنساني في حقيقته مدين للعبث أكثر مما هو مدين للمنطق، وكل شيء في هذه الدنيا لا يخلو من صدفة تحركه أو تؤثر فيه.. كل الماورائيات تعيش جنبا الى جنب مع الظواهر.. وأرى أن الفن فقط هو ما يعطي العلاقات حتمية في تحققها ويوجد منطقا للدنيا.. الفن لا يعمل دون بنية، بينما الحياة في كثير من الأحيان تفتقر للبنية وبالتالي تفتقر للمبرر..

÷ في روايتك «هدوء القتلة» ثمة تضفير للعجائبي والمتخيل مع مفردات الواقع اليومي المعيش، لكن في «حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها» الأجواء عجائبية بالكامل والقصص تميل أكثر نحو التجريد، ما السبب؟

^ بشكل عام، أتحرك بين هذين المنحيين وأراوح بينهما.. المزج بين الواقعي والمتخيل أو الاشتغال أكثر على المتخيل، وطبيعة النص هي التي تقودني وتدعوني لاكتشافها أثناء الكتابة.. هي التي تفرض النسب وتهذبها.. من ناحية أخرى لا أنكر أن الطبيعة النوعية تمنحك أشياء وتحرمك من أشياء وتفرض عليك أشياء.. القصة بالنسبة لي أقرب للشعر، ومتحررة من شرط روائي جوهري هو ضرورة التشخيص أو الإيهام بالتشخيص.. الرواية يلزمها، في ظني، قدر من الاتفاق، وقدر من الاحالة للواقع.. هذا جزء من خلطة الرواية الناجحة فضلا عن كونه جزءا من وظيفتها.. قارئ الرواية قارئ يريد أن يصدق ما يقرأ، حتى لو كان لامعقولا.. وكذلك كاتب الرواية في ظني.. يخلق كذبة ويستمتع لو صدقها وجعلها مبررة لأن ذلك سيجعل كليهما يكمل فعلته: ككتابة وكقراءة.. أما قارئ القصة فيبحث عن القصة المسلية بمنطق آخر، لن يبحث عن مصائر أو حيوات ممتدة في بضع صفحات.. ولن يكون مشغولا تماما بالتأسيس لمنطق شامل يعينه في رحلة الرواية الطويلة.. وكذلك كاتبها أيضا. الخطر الداهم في العمل الروائي، من وجهة نظري، على الكاتب والقارئ معا، هو نفاد الصبر.. بينما هذا العنصر ينتفي عند كليهما أيضا في القصص.

أشباح

استدرجت كفافيس وبورخيس إلى قصص المجموعة، لكنهما ظهرا كأشباح «مخيفة» ومهددة أكثر منهما أسلافا لك ككاتب، ما سبب هذا؟

^ ظهورهما كأشباح هو نفسه تجسدهما كأسلاف لي.. بل إنهما بدوا لي، كلما قرأتهما وقرأت عنهما، أكثر فنية والتباسا في حياتيهما من كتابتهما نفسها!..فهما من أكثر الشخصيات التي أشك طوال الوقت في وجودها الواقعي الذي قدمتا به.. كفافيس وبورخيس من الشخصيات التي خلقت لتُكتَب بنفس القدر الذي خلقت به لتَكتُب.. ماركيز مثلا هو كاتبي المفضل، لكنني طوال الوقت أستطيع أن أتخيل وجوده كشخص.. أما هذان الشخصان فأشعر بالفعل بأنهما شبحان.. وبالمناسبة هذا يلائم كثيرا كاتبا مثلي.. أنا مغرم بالشخصيات التي تحمل قدرا من السمات الشبحية، التي يمكن أن توجد وألا توجد على الإطلاق بنفس القوة.. احتمالات وجودها تساوي تماما احتمالات استحالة وجودها. مثل هذه الشخصيات أبحث عنها في الكتابة، وتلائم مزاجي المولع بالمزج بين الواقع والخيال.. كما أنها، على مستوى أعمق، من وجهة نظري.. تمثل الإنسان .. فكل انسان هو حياة وموت، تجسد وشبح.. كل انسان هو معجزة في ذاته وصاحب معجزات وهو في الوقت نفسه محض مخلوق ضعيف شاءت الصدفة أن يأتي إلى الدنيا.

الشعر

ألمح حمولة شعرية عالية في جملتك، هل بدأت بكتابة الشعر؟ وألا تقلق من أن تعيق الشعرية العالية حركة السرد أحياناً؟

^ سأبدأ من الجزء الثاني من سؤالك، وأقول: العكس تماما هو الصحيح.. أقلق عندما أكتشف أن السرد ابتعد بي عن مناطق الشعر.. أقلق من أن يعيق السرد حضور الشعر.. الشعر بالنسبة لي ليس بنية لغوية تنزاح عن لغة النثر التداولية والإخبارية.. لكنه أحد أهداف كل فن.. هو الطاقة الإيحائية.. حتى ذاكرتنا، وهي كل ما نملك في الحقيقة كون الحاضر ينفلت فور النطق باسمه، هي ذاكرة شعرية.. لأنها تنتقي اللحظات وتعيد ترتيبها ليس وفق المنطق الزمني التعاقبي بل وفق علاقات مكانية تجاورية، هي علاقات الشعر في الحقيقة.. الشعر ليس فنا منافسا لجيرانه من الفنون.. بل هو إحدى غاياتها.. وهذا ربما يفسر كون الشعر ليس وسيلة للتواصل، لأنه بالفعل مرحلة متقدمة على ذلك.. نحن في حياتنا نسرد حكاياتنا كي نصل في النهاية إلى أثر شعري.. كل لوحة عظيمة أو رواية أو قصة او فيلم طموحه النهائي شعري، وهو نفس طموح القصيدة نفسها .. ومن جانب آخر انا قارئ نهم للشعر، وتأثراتي الأولى، لا أنكر، جاءت شعرية.. أنا مفتون بالشعر.. بالعالم الذي يتجاوز حده التقريري ليتحول إلى محض احتمال.. أنا مغرم بالحكاية التي تترك أثرا يتجاوز أحداثها.. جميعنا نملك حكايات، لكن القليلين منا يملكون قصائد!..

بشكل ما بدأت بكتابة الشعر، هكذا يرى أغلب من قرأوا نصوصي الأولى التي حوتها مجموعتاي «طيور جديدة لم يفسدها الهواء»، «و» شارع آخر لكائن».. لكني وضعت على ما أكتب ببساطة لافتة قصص.. لأنني رأيت أنني يجب أن أحكي هكذا.. ورفض ناشر مجموعتي الأولى»طيور جديدة لم يفسدها الهواء»، التي صدرت عن دار شرقيات بالقاهرة عام 1995، أن يسميها قصصا، فتركها بلا مسمى نوعي، بل نشرها في قطع كان مخصصا وقتها للمجموعات الشعرية.. وكانت النتيجة ان عددا من المقالات كتبت عن «ديوان قصيدة نثر» في منتصف تسعينيات القاهرة التي كانت تعج بنقاشات قصيدة النثر.. بل ترجم بعض نصوصها وقتها إلى الإنكليزية كقصائد.. في تلك اللحظة فقط فوجئت بأن ثمة ارتباكا حدث.. لكن هذه كانت طريقتي في كتابة ما أراه قصة، رغم اعترافي الآن بأن كتاباتي الأولى كانت بالفعل قصائد.. لكنني أصررت على تطويرها وإعادة تشكيلها من داخلها وليس مخاصمتها.. الكثيرون في بداياتي راهنوا على تحولي للشعر، غير أنني تحولت إلى الرواية.. واكتشفت، مأخوذا، أنها أشبعت الشاعر الذي بداخلي أكثر!

عنوان المجموعة لافت للانتباه بطوله، كما أنه يبدو كقصة قصيرة جداً في حد ذاته، هل قصدت به أن تهيئ القارئ لانحيازك في هذه المجموعة للحكاية/ الحدوتة، أم ماذا؟

^عنوان هذه المجموعة فيه أكثر من إشكالية.. كان أخطرها بالنسبة لي أنه يشير لقصة بعينها، لحكاية بذاتها توجد في المجموعة، وهذا أربكني لأنني لا أريد ان اوحي بأن تلك أهم قصة مثلا.. فضلا عن أنها أطول قصة وبالتالي فهي تحتل مبدئيا ثقل المجموعة.. لكنني أحببت هذا العنوان لأني رأيته جذابا لقارئي ولقارئ الصدفة.. أنا من الذين يرون أن العنوان لا بد من أن يكون جذابا ودافعا للفضول حتى عند من لا يقرأ إذا واجهه مصادفة.. أيضا، كما أشرت، هو عنوان مستقل، أقرب لنص صغير.. وهو بالفعل يمثل المجموعة في اكثر من منحى: يعكس عالمها العجائبي، وحضور الحكاية في نصوص عدة، خاصة أنني خضت في المجموعة تجربة سرد حكايات بالمعنى الحرفي للكلمة.. وكذلك حضور فكرة الموت والشيخوخة، وهما عنصران مسيطران في المجموعة كما أرى. إجمالا أنا أرى عنوان المجموعة القصصية تحديدا مثل عاصمة الدولة.. هي تبقى واحدة من مدنها لكنها ليست مجرد مدينة أيضا.. وهي تدل على الدولة لكنها ليست الدولةّ!

هذه المجموعة هي العمل السابع لك وأنت من مواليد 1977، ما سبب هذه الغزارة؟ وكيف بدأت علاقتك بالكتابة والنشر؟

^ نشرت أول قصة عام 1991 في مجلة أدب ونقد، كان عمري حينها 14 عاما.. أنا بهذا المنطق كاتب عمري الأدبي نحو عشرين عاما وسبعة كتب في عشرين عاما ليست بالشيء المرعب.. لكنها قد تبدو كذلك بالنظر إلى عمري.. على جانب آخر نشرت آخر 3 كتب في ثلاث سنوات متتالية.. أي أنني كنت قبلها أملك 4 كتب فقط منها كتاب صغير للأطفال.. بهذه الحسبة تبدو الغزارة متسقة.. بالمناسبة.. أنا كتبت رواية شريعة القطة بين عامي 1996 و 2000.. وهدوء القتلة كتبت في خمس سنوات.. والمجموعة الأخيرة عمر بعض نصوصها أكثر من عشرة أعوام وهي مجموعتي الأولى منذ عام 1997..

إلى جانب الكتابة الإبداعية، تكتب أيضا النقد، وتعمل بالصحافة، إلى أي مدى أفادك هذا الوعي النقدي كمبدع؟

^ لا أتخيل أن يكتب شخص الإبداع دون توفره على وعي نقدي، وبالطبع لا أقصد أن يتحول ذلك بالضرورة لممارسة نقدية على مستوى الكتابة، فهذه ملكة أو غواية مختلفة.. لكن امتلاك الوعي النقدي ومحاولة تطويره أمر في ظني جوهري.. ولا أستطيع أن أستوعب أن يكتب شخص ما رواية أو قصيدة دون هذا القدر من «العلمية».. هل يستطيع مخرج مثلا أن يخرج فيلما دون أن يكون تقنيا ملما بأبعاد الكاميرات وامكاناتها؟.. هل هناك رسام مهم لا يلم بالتشريح؟ هل يستطيع لاعب الكرة حتى من اللعب دون حصص أثقال؟ .. كل فن له بعد علمي ، لكن عندنا تسيطر على كتاب كثيرين خرافة أن الالمام بالنقد مفسد.. وان الكاتب لا يجب أن يعرف بالضبط ماذا يفعل.. وهذه صورة كلاسيكية تجعل المبدع يرى نفسه صورة من النبي الأمي.. دراستي للأدب الانكليزي أيضا أفادتني عندما اكتشفت ان عددا من أعظم المنظرين لفنون الكتابة هم من أعظم المبدعين في الوقت ذاته.. وممارستي للنقد جعلتني أتمرن مرة بعد أخرى من تفكيك النصوص لبناها المجردة.. هو بالنسبة لي درس»ابداعي» في الفك والتركيب..في التحليل.. في تطوير أسئلة «الصنعة»، الجوهرية في ظني لأن الأدب في النهاية صنعة، تحتاج إلى موهبة، وليس موهبة تحتاج إلى صنعة.

مقالات من نفس القسم