طارق إمام.. الذي حَوّل الحياةَ إلى شِعـر والجحيمَ إلى غِـناء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 25
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سعيد الكفراوي

الكلام عن “طارق إمام” ينتهي دائماً بأنك تحاول التعرف على أدب يكتبه الكاتب لا يخضع لقواعد ثابتة تحكم الكتابة.

نصوصٌ في فضاءٍ بسردٍ على نحو ما يخلو من البلاغة ويتميز بالإيجاز والتركيز، يحاول طوال الوقت الغوص في المنطقة الغامضة من الواقع، وعبر ولعٍ بتلك المنطقة يستدعي الكاتبُ أشخاصَه وأحوالَه، موضوعه السؤال والمساءلة وإجابته الكتابة.

وسط هوجة من طفرة كتابية تبدو للعين أحياناً أنها تحقق إيقاعها الخاص، أنها تحاول التعرف على إيقاع اللحظة، والقبض على البداهة.. يبدو ذلك الشاب النحيل خارجاً عن هذا الإيقاع ومُنشئاً على نحوٍ خاص عالمه الذي يحاول تجاوز تلك الزحمة ببحثه شديد الخصوصية عن إيقاع يشير نحوه ويتجاوز بإرادةٍ ذاتية ما هو مطروح في السوق.

علينا أن نتأمل ما كتبه، ونتعرف على ذلك الإيقاع الخاص، والإحساس بذلك الإيقاع، الذي يقودنا دائماً إلى بناء جديد لقصص تبدو أول الأمر غير أليفة، ومُعادية، ومعمَّدة بالدم، وبالأشخاص الذين لا انتماء لهم، يصطخبون في عالمٍ تختلط فيه الأحلام، وتتداخل فيه الأزمنة، والماضي دائماً فضاء للمساءلة وعدم التيقن من شيء، ودائماً ما يكون حقيقةً مراوغة!

^^^

من يقرأ طارق إمام يصاب بالحيرة، ثمة متعة ما في تحمّل تلك الصدمات المفاجئة من تأمُّل الجروح النازفة لأشخاص يحملون ألمهم ويجوبون هناك، عبر ضواحي معتمة، يخضعون دائماً لسوء فهمٍ ما، كوّنته حالة من تناقض البحث عن مصير، وربما مأوى، والتشبث بالممارسة الحية لإيمان الكاتب بالحياة.

لذلك، ومن خلال هذا الفهم، كتب طارق: “هدوء القتلة”، “ضريح أبي”، “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”، “شريعة القطة”، “مدينة الحوائط اللانهائية”. وعبر كل هذه الكتابة كان دائماً السؤال المُغوي الذي لا إجابة له: هل للكتابة مرجعية؟ وهل المرجعيةُ ألمٌ ما؟ ألم متفرد مثل ألم صاحب اللعنة القديم “جان جينيه” الذي رأى يوماً أن علينا أن نسعى طوال عيشنا لنكتشف ذلم المكان السرّي داخل نفوسنا، الذي كان من الممكن انطلاقاً منه أن تكون حياتُنا شيئاً مختلفاً، لأنه في واقع الأمر من البداية، الأصل للكتابة.

ذاكرةٌ تحتشد دائماً بتساؤل دائم دون انقطاع حول الخفي، المغمور، الخرافة الفطرية، الأسطورة التي قصّها يوماً الحكاءون الأوائل في “ألف ليلة وليلة”.. الجنيات ومدن الطلسم والمسحورون والغرف المغلقة والكائنات التي لم تعد بشرية، المسوخ، والأصوات على الماء، والإسكافيون والحوريات المغردة لتُخضِع البحّارة.

عالمٌ يتقاطع هو و”مدينة الحوائط” حيث المرأة ذات العين الواحدة تسبح فيها السمكات الملوّنة وجبل الكحل يختلط بالدموع ويكون كحلاً لنساء المدينة، وكتاب الحياة المفقودة، والهيكلُ العظمي داخل تلك المدينة التي تتسم بالغموض وهيكل الكائن يكتسي باللحم رويداً ليتحوّل إلى امرأةٍ فُتِن بها الجميعُ وعاشوا أحلامهم فيما تعود المرأة إلى الحياة شرهة، تُحوّل نسوة المدينة إلى هياكل، في دورةٍ من حياة تلتهم حياة، وليحوّل امرأة الحلم إلى عشيقةٍ وحيدة.

والقرصانة هناك، لينتبه العالمُ لحكاية المرأة الغريقة والتي تحوّلت إلى قرصانة ترجُّ السفن وتلتهم الغرقى.. هي إذن مدينة الحوائط  حيث يتناسل النسل بعد أن غرق الحبيب، سلالةً من سلالة.

والرجل الذي لم يحلم أبداً، لم يعرف الحلم أبداً، أعطته الدنيا تفسيرَ الأحلام ليتحوّل إلى مفسرٍ لأحلام الجموع، آخر أيامه وقبل رحيله شاهَدَ آلافَ الأحلام ومنها مشهد موته. وكأنه رجل “بورخيس” الذي تخيّل رجلاً اقترح على نفسه مهمة رسم العالم، وخلال سنوات عمره الطويلة أثث الفضاء بصور الأقاليم والممالك والجبال والخلجان والسفن والأسماك والمنازل والأدوات والكواكب والخيول والأشخاص، وقبل أن يقضي نحبه بقليل اكتشف الرجل أن متاهة الخطوط الصبور التي دأب زمناً على رسمها، إنما كانت ترسمُ صورةَ وجهه هو.

^^^

شابٌ يكتب ويتصف بأنه رجل أدب. مَغويٌّ بالمستحيل. ثمة صوت يأتي من هناك، يَخرج من القلب ليصنع المتاهة، متاهته، ويُحوِّل ما نعيش من حياة، وما نراه من واقع إلى فنٍ وشعر، وكأنه ينزل الجحيم ويعودُ لنا مُحوّلاً ذلك الجحيم إلى غناء.

لذا.. لسوف يبقى ما كتبه “طارق إمام” على الورق زمناً طويلاً.

مقالات من نفس القسم