طارق إمام: التاريخ وهم ينبغي أن نجيد اختراعه

طارق إمام
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: جريدة الخليج

طارق إمام، ليس مجرد اسم لروائي شاب، بل هو الاسم الذي يحيلك إلى متعة تلازمك وأنت تقرأ أعماله، ولدخولك لعوالم خاصة يمتزج فيها الواقع بالخيال، ببساطة هو صاحب البصمة الخاصة في عالم الأدب، وفي روايته الجديدة الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس يتخلى إمام عن عوالمه الضبابية ولغته المزخرفة من أجل عالم واضح وملموس ولغة بسيطة لا تخلو من الشاعرية، ويستعيد حياة الشاعر الإسكندري اليوناني قسطنطين كفافيس (1863- 1933) الذي ولد ومات في الإسكندرية وقضى بها حياته، ويرصد سبعين عاماً عاشها الشاعر، راسماً في الوقت نفسه صورة واسعة للمدينة بين أواسط القرن التاسع عشر إلى العقد الثالث من القرن العشرين، كما يقترب من كفافيس المتخيل بقدر ما يعيد استقراء ومراجعة سيرته الذاتية المعقدة والغامضة في الكثير من جوانبها . . طامحا في طرح قراءة مراوحة بين الواقع والخيال، وبين التأريخ ووهم التأريخ .

الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس لماذا اخترت سيرة هذا الشاعر مسرحا لروايتك الجديدة؟

سيرة كفافيس تشغلني منذ سنوات طويلة، ربما منذ تعرفت إلى شعره وحياته للمرة الأولى إنه شخصية فنية، شعرت بها تناديني لأعيد كتابتها . . شعرت وأنا أقرأ سيرة كفافيس، بكل ما فيها من تناقضات وتشوشات ومناطق كثيرة غائبة وتواريخ غير متفق عليها، أنها قابلة لأن تكتب مئات المرات . . كفافيس أيضاً، وبغض النظر عن كونه شاعراً عظيماً أو مؤثراً، هو شخصية إشكالية، هو شخصية روائية مثالية، بكل ما تنطوي عليه من تناقضات ثرية، بين الرفعة والابتذال، بين التحقق العقلي الثقافي في أرفع حالاته والانخراط الغريزي في أعمق صوره . في الحقيقة استفزني في كفافيس جمعه بين عدد هائل مما نحسبه تناقضات أو حتى ثنائيات، من دون أن تستطيع أبداً فض ذلك الالتباس أو الوقوف عند الحدود التي تنتهي عندها الشخصية الواقعية لتبدأ الشخصية الفنية، أو الفاصل بين التاريخ الحقيقي والمختلق .

أنا أيضاً كروائي مفتون بفكرة الفرد القادر على كشف مدينة من خلفه، وبدورها المدينة القادرة على كشف عالم . لهذا استفزني في روايتي هدوء القتلة مثلاً، ،2007 شخصية سالم غير الموجود في الواقع، لكنه القادر على كشف القاهرة في سياق المدينة الفنية التي بوسعها أن تكون صورة العالم . في كفافيس، الموضوع متشابه، حيث الإسكندرية، المدينة الخاصة جدا، والقادرة على تجاوز نفسها في الوقت نفسه لتصبح صورة للعالم . . ثانياً، لأن كفافيس كشخصية روائية كان رهاناً كبيراً ومثالياً لفكرة الشخصية التي تناديني لإعادة كتابتها وتأويلها حتى لو وجدت، لأن حياته الحقيقية هي في الحقيقة حياته السرية غير المعلنة . والبحث عن كفافيس هو البحث عما لم يقله أحد عن كفافيس . العتمة والسر هما مفتاحا شخصية الشاعر السكندري كما رأيته، وهما مفتاحان في لعبة الكتابة كما أراها وكما أحبها .

تطرح روايتك العديد من الأسئلة حول مفهوم الهوية متخذة من الشاعر المثير للجدل نموذجا لقدر غير قليل من الأسئلة المعقدة، منها طبيعة علاقته كمغترب بثقافة المجتمع المحيط فهل الهوية وصراعاتها تشكل هما شخصيا لك كمبدع؟

الفن الروائي هو فن الفرد والفرد في الرواية كثيراً ما يعبر عن العديد من الأفكار التي تبدو للوهلة الأولى مجردة وغير قابلة للتجسيد . وجزء من عمل الروائي في ظني، قدرته على شحن أشخاصه بأفكار من دون أن يكونوا مجرد أشباح تنقل هذه الأفكار . . يجب أن تكون الشخصية مجسدة، ونابضة، ذلك أنك في نهاية المطاف توهم بشخصيات من لحم ودم . لكن عليك أيضاً أن تختبر أفكارهم ووعيهم بالوجود عبر أصواتهم الخاصة، المختلفة والمتنوعة، وليس صوتك الواحد كروائي بالنسبة لكفافيس، الفرد هنا يعكس أفكاراً، يعكس علاقة لا تنفصم في مدينة هي الإسكندرية في تعقدها وتشابك عناصرها في لحظة تاريخية محورية مقسمة على القرنين التاسع عشر والعشرين . كما يعكس رؤية بالعالم والوجود، وهو يسأل طوال الوقت: من أنا؟ وما الإسكندرية؟ من هنا يتخذ سؤال الهوية أبعاده في الرواية، من خلال شاعر يبحث عن مدينته، ومدينة تطارد شاعرها حد الرغبة في قتله وتدميره .

في سياق كهذا، يجد سؤال الهوية لنفسه ملعباً مثالياً، هذه رواية عن الإسكندرية بقدر ما هي رواية عن أحد شخوصها الاستثنائيين، ما الذي يمكن أن تقدمه لك مدينة على ذلك القدر من الاتساع والتشوش والسؤال عن الطبيعة الأصيلة لها؟ كيف ترى المدينة نفسها من خلال شاعرها الذي لا تنتمي لغته لها، وكيف يراها شاعرها ومراياه؟

– شخصية مثل كفافيس لا يمكن أن أقاربها من دون مقاربة ذهنها ووعيها المجرد بالوجود والفن وتأملاته . كل هذا جزء من العمل الروائي ولا يقع خارجه . لم تكن لهذه الرواية أن تكتمل من دون الصوت النقدي: كفافيس يقرأ رواية مكتوبة عنه، وبالتالي، لا يمكن أن يفعل ذلك دون تقديم رؤيته الجمالية والثقافية . وكانت إحدى رهاناتي في الرواية ليس تقديم كفافيس وهو يكتب، بل كفافيس وهو يقرأ . ما الذي يمكن أن يقوله كفافيس عندما يجد نفسه متورطاً في لحظة في نص لا بد أن يقرأه؟ ما ملاحظاته الفنية والنقدية الممكنة؟ بتقديم كفافيس القارئ، طرحتُ سؤالي: هل يمكن أن تكون الرواية التي يكتبها عشيقه عنه حقيقية؟ وهل تصلح مرجعاً عنه؟

السؤال نفسه يطرحه كفافيس الفرد، بينما كفافيس الشاعر يسأل سؤالاً أعمق عن وجود شيء حقيقي من الأساس، وهو ما يبرر الصراع المستمر بينه وبين إلكسندر، كاتب المسودة، ومحاولات إيذائه والسعي لتغيير أدواره من عشيق لخادم لشاعر مبتدئ لابن صديق قديم، بحيث كلما صارت مسودة رواية إلكسندر عن كفافيس متجسدة، خفت وجود إلكسندر نفسه .

هناك شعور عند قراءة أعمالك بأنك تكتب بوجدان شاعر فهل لك تجارب شعرية لم تر النور أم أن لك علاقة وطيدة بعالم الشعر والشعراء؟

– الرواية الحديثة ذوبت فوارق كثيرة وهمية بين الفنون، واستفادت من جيرانها، ومن وجهة نظري، فالرواية التي تكتفي بالبعد التقريري لأحداثها، والقابلة للتلخيص، هي رواية فقيرة، الشعر ليس فقط اللغة المتغيرة بطبيعة الحال من رواية لأخرى كضرورة لعمل الروائي لكنه طاقة الإيحاء التي تستبعد المعنى الجاهز والقريب والاتفاقي لمصلحة ظلال المعاني، النسبية والموحية، المغزى الشعري في ظني هو البديل المثالي في عصرنا للمغزى الأخلاقي، والشعر في ظني ليس اللغة في حد ذاتها، لكن الأفق الذي يمكن أن يرسمه السرد في نهاية المطاف، الانزياح عن المعاني التقريرية، الانفتاح على طاقات الإيحاء عوضاً عن السير في الطريق الممهد للمعنى المتاح والمبذول . . اللعب مع الزمن السردي التقليدي، التعاقبي والأفقي، لتتداخل الأزمنة، المونولوج الداخلي، كل هذه تقنيات أعرفها في السرد، وأعتقد أنها تلعب دوراً شعرياً لا ينفصل عن القماشة الروائية المتراكبة .

الرواية تقدم قراءة لحياة شاعر وتدور بين الواقع والخيال، وبين التاريخ ووهم التاريخ فكيف راوحت بين التاريخ والخيال في ذاك الوقت؟ وما الكتب التي عدت إليها ومدة الكتابة كم استغرقت؟

– التاريخ في نهاية المطاف قصة، أي أنه، بشكل ما، كذبة التصقت بها قداسة كونها آتية من الماضي، وعندما يعيد الروائي كتابة قصة تاريخية عليه أولا أن يسأل نفسه: هل حقاً وجدت؟ وكيف وجدت؟ وهل تحققت كما قرأتها؟ التشكيك في ما حدث هو، في ظني، البوابة المثالية لإعادة تأويله بغية اختبار وجهة نظر أخرى . لا أستطيع مثلاً أن أتخيل أن تجذبني قصة وقعت في لحظة زمنية ما، مفارقة لوجودي، أو وقعت قبل أن أولد، فقط لكي أقول من خلال الرواية: انظروا لقد حدث ذلك مثلما قرأناه! من المثير أن حياة كفافيس، وهي تنتمي للتاريخ الحديث حيث عاش في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تشهد كل ذلك اللغط الكبير حول تاريخه الخاص، ما منحني فرصة ذهبية لأحقق طموح الروائي لإعادة كتابة حياة أخرى تحققت في الواقع .

بالنسبة لي، كفافيس الحقيقي هو شعره، هذا هو الشيء الوحيد الذي أنا متيقن من وجوده . لقد قرأت سيرته في أكثر من مصدر، وفوجئت بأشياء مذهلة، منها أن أغلب التواريخ المفصلية في حياته غير متفق عليها: موت أمه، تاريخ ميلاده أيضاً مختلف فيه . لذلك، على المستوى الدرامي، أنت مضطر للبحث عن تاريخ يناسب رؤيتك، وبالتالي اخترتُ أن يكون يوم ميلاده هو يوم رحيله . هكذا، جزء من لعبة الوهم جاءني من اللحظة الأولى، من معطيات سيرته ذاتها . أضف إلى ذلك أن التاريخ المحدد لعمله في البورصة أو الصحافة كان مختلفاً فيه طول الوقت .

هل الشك في التاريخ وفق ما تقول، مدخل رئيسي لك في الكتابة؟

– رأيي أن الشك هو المفتاح الأساسي الذي يجب أن يستخدمه الفن الروائي عند تطرقه للتاريخ سواء من خلال شخصية تاريخية أو حدث تاريخي . التاريخ وهم ينبغي أن نجيد اختراعه، والتخيل في الحقيقة هو ابن الشك . بهذا لا أتصور أي عمل فني قائم على خطاب جمالي ورؤية فردية يقترب من التاريخ ليتصالح معه، أو يقول ما قد قيل بالفعل، أو ليؤكد ما هو مؤكد تاريخياً . وهذا هو مدخلي للرواية التاريخية قارئاً وكاتباً . أما الإسقاطات فهي، في رأيي، ترجمة بسيطة أنا ضدها في الفن، وأرى أن مشكلة الرواية التاريخية العربية أنها تعاملت مع التاريخ باعتباره نصاً مقدساً .

وأنا بدوري أسأل: عندما يكون تاريخ شخص مثل كفافيس أو سيرته المثبتة على كل هذا القدر من التناقضات والتشوشات وغياب الحقائق والفجوات . . فأي أمانة، بالمقابل، يمكن أن نطلبها من الروائي أو الفنان؟ وكذلك أسأل: إذا كان التاريخ هو في نهاية المطاف وجهة نظر المؤرخ المرتبطة بأيديولوجيته وأفكاره وانحيازاته . . ألا يكون من حق العمل الفني أن يجادل وجهة النظر تلك حد دحضها إذا لزم الأمر لتقديم تصور آخر .

لماذا فضلت أن تستهل كل فصل في الرواية بمقطع شعري لكفافيس، الذي وجدت أشعاره طريقها إلى العربية بجهود لافته من عدد من المترجمين؟

– لأن كل فصل كان أقرب لترجمة سردية لجزء من عالم كفافيس، كأن الرواية على مستوى أشمل هي ترجمة سردية لعالم كفافيس الشعري، وهذه مغامرة أخرى أجهدتني وأمتعتني .

يشعر قارئ الرواية بأنها رواية داخل رواية ويقول :أي رواية نتحدث هنا؟ عن رواية إلكسندر سينغوبوليس، التي يريد لها أن تكون مخطوطاً يلائم المدينة، أم الرواية الإطارية الأخرى، التي تقدم إلكسندر شخصية روائية، فلماذا لجأت إن جاز السؤال لهذه الحيلة الفنية؟

– الحبكة تؤكد المعنى، هي التباس كفافيس بين كل وجهات النظر والأصوات التي تقارب، فكل مستويات اللغة نابعة أولاً من مستويات السرد، فالحياة الثانية هي في الحقيقة رواية داخل رواية داخل رواية داخل أخرى أي ثلاث روايات متداخلة، تنتهي من الواحدة منها لتواجهك الأخرى . . والحكاية هي التي فرضت عليَّ هذه البنية، فهناك حكاية إطارية، تتبع كفافيس وهو يتلصص على المخطوط الذي يكتبه ألكسندر عنه، ثم: هناك مخطوط كما في نفسه الذي نقرأه مع كفافيس داخل الرواية، والمخطوط بدوره يقوم على مستويين، مستوى يبدو حقيقياً، يفكر فيه ألكسندر في الرواية التي يطمح في كتابتها، بمنطق تأملي، ومستوى تخيلي هو الرواية التي يكتبها، هذه البنية المركبة تفترض أكثر من لغة . . خاصة أنني لجأت إلى الكتابة على الكتابة، أو تعرية الكتابة، لأنني رأيتها الطريقة المثلى لما أردت أن أفعل . . ولعلك تلاحظ أن الرواية فيها أربعة مستويات طباعية على مستوى البنط، هي في الحقيقة أربعة مستويات لغوية .

أحببت في بنية الرواية أن يكون كل شخص هو كفافيس ما بمعنى من المعاني . لذلك فكل الشخصيات أقنعة أخرى لكفافيس ومرايا له . كنت أريد، كما كتبت في مكان ما من الرواية، أن يتفرق وجهه على وجوه من يتصلون به، كأنه موزع على برك ماء صغيرة متماسة، ألكسندر يكتب عن كفافيس، وهو يتقمصه . فتنة تتقمص دور أمه، كلوديا تمثل دور أمه، ديمتري يمثّل كفافيس على خشبة مسرح . ومن خلال كل هذا نكتشف كفافيس . ومع كل هذا، نجد هيليني (أخته التي ماتت قبل أن يولد) هيليني أيضاً، التي تقدمها الرواية كشبح، تحمل وجه كفافيس العجوز، رغم أنها تظهر كرضيعة، لهذا أيضاً هناك مشاهد داخل الرواية لكفافيس في حفلات تنكرية، هناك طول الوقت تنكر وأقنعة، وأنا أكتب عن شاعر لا أرى سوى أقنعته المتعددة . لهذا فعنوان الرواية هو الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس هذه الحياة المقنّعة والخفية.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم