“صيّاد الملائكة”.. مهزلة العبث التى تسبق الطوفان

"صيّاد الملائكة".. مهزلة العبث التى تسبق الطوفان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود عبد الشكور

مؤلمة حقاً هذه الرواية لمؤلفها هدرا جرجس، ولكنها حقيقية وصادقة وجريئة، أتحدث عن "صيّاد الملائكة" التى تسقط أقنعة المسكوت عنه فى ما اصطلح على تسميته بالفتنة الطائفية، تنكأ الجرح لتوقظ الغافلين، وتقدم بسخرية مريرة، وقائع يوم عبثى فى مدينة صعيدية منسية، أفضى بشخصيات الرواية العجيبة، المهمشة والمغتربة، الى نهاية كابوسية، المدينة الخاملة قررت أن تدافع عن الأخلاق، أشعلت الفتنة، وحرقت الكنيسة، جاء الطوفان، قادما مباشرة من الملل والعبث والتفاهة والخمول والجهل والتعصب، هل تراه جاء أم أننا فى قلب الطوفان، دون أن نشعر أم نحس ؟! هل نحن موتى أم أننا على ظهر الأرض أحياءُ؟

يمتلك هدرا دوما حساسية فائقة فى رسم شخوصه، ولديه قدرة على اختيار اللحظة واستزاف تفصيلاتها، كما يوسع كثيرا من دائرة الرؤية الخاصة، لتكون إنسانية وشاملة ووجودية أحيانا، حنا دميان بطل روايتنا (أو فلنقل أنه بطل يومنا العاصف الملئ بالغبار الذى تدور فيه أحداث الرواية)، نموذج ناضج جدا للبطل المغترب فى الرواية المصرية الحديثة، ورغم أنه سيعاقب فى النهاية لأنه مسيحى أنتوى أن يضاجع امرأة مسلمة (تحترف الدعارة)، إلا أن اغتراب حنا مضاعف حتى عن أسرته المسيحية، والده وإخوته مثلا، إنه اغتراب وجودى عن عالم يريد أن يهرب منه، ولا يستطيع التوافق معه، حكايته فى طفولته، ورؤيته للملائكة وللجنة، ووصفه لهما، إيمانه بأنه صاحب رسالة يريد أن ينشرها، صمته وسكونه المتواصل، مشيته المتعثرة، رغبته الدائمة فى النوم (كان ينام 12 ساعة كل يوم)، حلمه المتكرر بأن ثعبانا يرقد فوق صدره فيمنعه من الحركة أو حتى الصراخ، انعدام علاقته بالجنس الآخر، فشله فى تكوين صداقات أثناء الجامعة، شقته المتربة المنسية التى تطل على النيل، والتى تشبه سفينة نوح، يعتصم بها من الغرق بلا جدوى، عمله فى سفينة سياحية كبارمان، وتشبيه القبو الذى يعيش فيه داخلها بحوت يونس، مؤهل حنا العلمى الذى لم يعمل به أبدا: ليسانس أداب قسم الفلسفة، كل ذلك يشبه ضربات فرشاة فى لوحة بالأبيض والأسود والرمادى لشخصية مغتربة لاختلافها وتناقضها الحاد مع عالمها كله، وليس مع مدينتها فقط.

ولكن حنا شاب مسيحى فى مدينة مهمشة مثله، إنها المدينة التى تقوم بالتخديم على مصنع السكر العملاق، المكان الذى تخترقه السكة الحديد التى تدفع بأطنان القصب من المزارع الى فوهة المصنع العملاق، مدينة عبور السائحين فى طريقهم الى المعابد الأثرية، شوارع قليلة، وحارات ملتوية وضيقة، حرارة تذيب الاسفلت، وغبار يغشى العيون، ولحظات ملل بلا حدود، وعيون فى كل مكان ، كل شخص يراقب الآخر، الجحيم بالنسبة لحنا هو تلك العيون التى ستوقع به فى النهاية، لم يكن حنا مسيحيا متدينا على الإطلاق، هو تقريبا لا يهتم بشئ سوى عالمه الداخلى، عيناه تنظران الى الداخل وليس الى الخارج، ولكن المدينة وناسها وتلاميذ مدرسته يحسبونه بالضرورة على طائفته، حتى الأطفال يضربونه، يطلقون عليه الاسم البشع الذى يطلقه الجهلاء على الأقباط فى الصعيد، يسمونهم “الخواجات” ليزيدونهم اغترابا على اغتراب، زملاء حنا الأطفال حاولوا أن يجبروه فى طفولته على أن ينطق بالشهادتين، لولا أن أنقذته سيدة من بين أيديهم.

أفضل ما فعله هدرا أنه قدم بطله وهى يعانى اغترابا بسبب وجودى إنسانى ممتزجا باغترابه بسبب سلوك متعصب تجاه ديانته، أصبحت الشخصية شديدة الثراء، فإذا أضفت لذلك وصفه القوى للمدينة  التى حوّلت نافورتها الوحيدة الى بركة لشرب الدواب فى أيام الحر، والبراعة التى رسمت بها الشخصيات الأخرى، فأنت فى الحقيقة أمام رؤية كابوسية كافكاوية لا تقل خطورة عن أحلام حنا بالثعبان الذى يجثم على صدره، أو عن ذلك الأسد الذى التهم إنسانا فى البرنامج الذى يشاهده حنا مع صديقه المسلم منصور، شخصيات كهذه فى مدينة كتلك، لابد أن تكون أحلامها بشعة ومؤلمة، ولابد أنها تنتظر الطوفان.

محيط حنا محدود، فى الطفولة والده الطبيب البيطرى د دميان، الرجل الذى يسير على  الصراط، ويسجل هفواته الصغيرة فى نوتة، والمؤمن الذى مات فى كهف قديس قديم، وهناك إخوة انفصل عنهم حنا فى عالمه الخاص  منذ سنوات طويلة، حتى زملاء المهنة فى السفينة بعيدون عنه، المبرر الوحيد الذى جعله يفوز بوظيفته كبارمان ليس كفاءته، ولكن لأن مسؤول التشغيل أراد ألا يتحمل وزر اختيار مسلم لمهمة تقديم الخمور، بعد أن حذره الشيخ من ذلك، ليس هناك سوى حسين صديق المنزل والطفولة، مبتور الرجلين وسئ الخلق، وليس هناك فى الخارج إلا منصور صاحب الدكان المسلم، الذى سيعزم على صديقه لمضاجعة فتاة عاهرة مسلمة تتخذ من النقاب ستارا لممارسة عملها، ترفض العاهرة فى البداية لأنه تكره مضاجعة المسيحيين،ولكنها توافق أخيرا، عندما تذهب الى شقة حنا، تستيقظ المدينة فجاة، وتقتحم الشقة وتجر حنا الى طريق الآلام الجديد، ينتزعه الأمن ليتسلى به، وكأن حنا ، الذى لم يفعل أى شئ سوى خلع بعض ملابسه، قد ارتكب كل خطايا البشرية، يصلب حنا معنويا على أبواب مدينته، يستدعى صورة أبيه ويسأله: “أبى أبى .. لم تركتنى؟” فى هذا العالم الغريب العبثى، ربما يكون هذيانه ومظهره الرث ماشيا كالمجانين فى شوارع المدينة، نوعا من الخلاص بالجنون، بعد أن فشل اختياره فى الخلاص بالرؤية، أو الخلاص بالنوم، أو الخلاص بالعمل، أو الخلاص بالصداقة.

كل حوداث اليوم العبثية التافهة تآمرت لكى تصنع الدلائل على تورط حنا الأخلاقى: لقاء الصباح مع العاهرة فى دكان منصور، هرولة حنا ووقوعه على السلم عندما سمع مشاجرة  حسين وأمه من خلف باب شقتهما، قطعة الملابس الداخلية التى احتفظ بها حنا عندما سقطت من بلكونة جاره العريس الجديد، عرض منصور بالإشتراك فى مضاجعة المرأة، مشية حنا المرتبكة التى تثير الشبهات ونظراته الخائفة المتلفتة وراءه، وقبل بعد ذلك، الفراغ والملل القاتل الذى يجعل سكان مدينة على الهامش، تبحث عن فضيحة أو حكاية تتسلى بها، يبدو اختلاف الدين مجرد حجة لضخ الغضب والكراهية من نفوس خربة وجاهلة، حتى أسقف المدينة يهرب من مواجهة الطوفان، ويغلق عليه بابه، تتناثر تعبيرات الكتب السماوية وقصصها لتتقاطع مع محنة حنا، تصنع له صليبه وسفينته وحوته وجلجثته وآلامه وتعذيبه وقيامته، ولكن فى سياق آخر أكثر فوضى وعبثية.

هنا رواية هامة للغاية، تشعر بمرارة مؤلفها وكأنه هو الذى يشعر بحجر على صدره وليس منصور، وكأن هدرا هو الذى يطارده حلم الثعبان الذى يجثم على الصدر، وهو الذى رأى الاسد يلتهم المغامر، وكأن المؤلف هو الذى تحرر بالبوح والفضفضة فى مجتمع يدفن رأسه فى الرمل، ويتواطأ فيه الجميع على الإنكار لأسباب أمنية وسياسية، ويبدو أن جنون حنا قد أراح كل الأطراف فى النهاية، لدى فقط ملاحظتان: فى مناطق كثيرة استطرد هدرا فى تأملات أوقفت تدفق الحدث، وبدت كفقرات شارحة ومفسرة، وهو أمر لا تحتاجه رواية متماسكة بها هذه الشخصيات القوية، أما الملاحظة الثانية فهى تتعلق بتقسيم الرواية الى فصول معنونة ومكونة من لوحات مرقمة، فى رأيى أن الرواية ذات اليوم الواحد الذى ينتهى بحدث كبير لا تحتاج الى ذلك، لأنها ببساطة سرد متدفق ومستمر ولاهث بلا توقف أو فواصل، حكاية متصلة تروى مرة واحدة، فتحدث تأثيرها مثل طلقة رصاص.

ربما تكون مأساة حنا فى شخصيته الخاصة، أو فى مدينته، أو فى أحلامه بالجنة والملائكة، أو فى عدم مبالاته بالناس، ولكن الشئ المؤكد أن هذا الوطن لا يمكن فيه، وبحالته التى رسمها هدرا، أن تصطاد فيه ملاكا أو قديسا أو جنة، وأقصى ما يسمح به الجهل والتعصب والملل أن تختار بين أن تكون أسدا يفترس، أو إنسانا يستسلم للإفتراس فى شريط فيديو.

ياله من كابوس مريع، فهل يستوعب ذلك أهل المدينة الغافية؟ 

 

 

مقالات من نفس القسم