صعود

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن
لم يكن يوماً من متسلقي الجبال، ولا من المغرمين بالصعود إلى الأعالي، بل،وعلى العكس، دائماً ما كان يعاني دوار الارتفاعات حال تخطيها حاجز الطابق الثالث، على الأكثر، في بناية حديثة عادية. أمَا لماذا الطابق الثالث، تحديداً، فذلك ما لا يجد عنه إجابة منطقية قاطعة، وإن ظل يفكر بكونه ذات الطابق الذي سكنته الأسرة، لعشرات السنين، في المنزل، القديم الضخم، الذي يحتل زاوية الالتقاء بين شارعي “طه الحكيم” و”هدية” بطنطا.
لذا، فقد استشعر خطراً مبهماً يلف وجوده كلما أوغلت “المرسيدس” السوداء في تسلق “جبال الريف”، دائمة الخضرة، قاصدة “شيفشاون” الصغيرة المنسية قرب الغيوم الداكنة المتفرقة هناك. الطريق الوطني، الضيق غير المعتنى به جيداً، يلتف على خاصرة الجبل، طلوعاً ونزولاً، ثم نزولاً وطلوعاً، فيزداد خفقان قلبه، ويعمد إلى صرف بصره عن الجهة اليمنى، حيث تجلس صامتة إلى جواره تصغي لموسيقى “رودريجو” المنبعثة من الاسطوانة التي كانت قد أهدتها له بداية تعارفهما. كان يمين الطريق مشرفاً على هاوية رهيبة، بعمق الزمن الذي التهمته ماكينة السيارة القوية خلال معراجها الحرج المخيف، أمَا عن اليسار فقد تكاثقت أشجار الغابة، العالية الرشيقة، لتجعل الناظر عاجزاً عن إبصار ما يختبئ فيها، من حيوانات وطيور وحشرات، لمسافة مترٍ أو اثنين، بالكاد. راح يتلهى عن فكرة التسلق، المنذرة بالخطر، بمحاولة تصنيف الأشجار:
– أرز وصنوبر وبلوط فليني غالباً، أليس كذلك؟
مالت بعينيها نحوه، ربما للمرة الأولى، منذ صعودهما معاً، في ذلك الصباح الخريفي المنسي، من “الرباط” إلى الجبال. أجابت بتثاقل:
– والسرو والأكاسيا وغيرها.
صمتت لدقيقة، قبل أن تعاود بتهكم لم تجهد نفسها بمحاولة كتمانه أو تمويهه:
– لم أكن أعرف أنك مهتم بتصنيف شجر الغابة.
حدجها بنظرة، قاسية مستاءة، من جانب عينه، ثم زفر بغيظ:
– ما أكثر ما لا تعرفينه عني، أو عن اهتماماتي.
في المطعم، الصغير الأنيق، الذي يشرف، مباشرة، على ساحة البلدة المركزية، قادهما النادل إلى طاولة، منزوية إلى حدٍ ما، تطل بالمواجهة على الساحة، ويستطيع الجالس إليها رؤية الشلال، الصغير المتدفق من أعلى الجبل، ليصنع غديراً نحيفا،ً تقتعد مصاطبه، الحجرية الملساء، النسوة الأمازيغيات وهن يقمن بتصبين ملابس أسرهن، الملونة المزركشة على طراز أهل الجبال. فكَر بأن النادل قد اختار لهما هذه الطاولة، بالتحديد، لتلائم وضعهما، الاستثنائي، اليوم كعاشقين هاربين من زحمة العاصمة، وعيونها المفتوحة على التهام سيرتهما التي بدأت تروج، الأمر الذي أثار بداخله رغبة، عاتية شريرة، في الاستلقاء على قفاه، والضحك من كل ذلك الهراء، الاعتيادي، حتى الشخير.
بنعومة طامعة، منحه النادل ابتسامة بلاستيكية عريضة، وهو يقول:
– إنها نفس الطاولة التي كان يجلس إليها الفنان “محمود عبد العزيز” الأسبوع الفائت.
– حقيقي؟
سأل بسخرية لم يقدر الرجل على تمييزها في نبرته، التي تتصنع الدهشة والاهتمام، حتى أن الأخير أخذ بهز رأسه له، مؤكداً على ما قاله، بكل الرضا الممكن عن النفس.
– نحن جوعى. لم نأكل شيئاً منذ الصباح، فلندعنا من الفنان، وهات لنا ما نأكله.
راح النادل يتلقى منهما “الأوردر” صامتاً، محبطاً قليلاً كون مفاجأته الصغيرة، للعاشق المصري العابر، لم تحقق الأثر المنشود. رآها تخلع عن عينيها، اللوزيتين العسليتين، النظارات الشمسية، لتحدق في عينيه قبالتها. همست بضيق:
– لماذا تسخر من الرجل؟
ميز نبرة العداء المكتوم في صوتها وكلماتها، على السواء، الأمر الذي، ولعجبه الشديد، سره وأبهجه. لسبب ما، وبطريقة ما، كان يعرف ما الذي يعنيه انقلاب الحب إلى عداوة، وأية لذة، شاذة لكن حريفة، أليمة لكن مريحة، تهبها للقلوب الإنسانية مثل تلك الانقلابات.
– أسخر؟! لكنه من قصد، أولاً، الهزء بنا.
– هل من الضروري أن تنتهي قصص الحب بالعداء والتجريح؟
لم يباغته سؤالها. حقيقة الأمر، أنه ظل يفكر بذات السؤال لأيامٍ، وربما لأسابيع، ماضية. لم يكن صعوده بها إلى هناك، إلى ارتفاع أعلى، بكثير، من الطابق الثالث لبناية حديثة أوروبية الطراز، إلا مخاطرة، ارتضى ركوبها، لا لشئ إلا ربما كي يغدو خفيفاً خفيفاً، كما لم يكن يوماً، كما لن يكون أبداً، ومن ثم يفقد أثقاله وارتكازه الأرضي، فإمَا التحليق عالياً لبعيد، وإمَا السقوط من حالق، ومن يعلم؟ فربما ينشق جنباه وتنبت له أجنحة. ما أغرب أن يحلم، هو بالذات، بالطيران والأجنحة.
– هل تعرفين شيئاً عمَا يوجد وراء هذا الجبل؟
سألها، وشرع يشير لها بأصبعه نحو القمة القريبة المطلة برأسها على المدينة، الخارجة، لتوها، من منامٍ غرناطيٍ بائس وحزين.
– ليس من ورائه إلا الجبال.
صوَب بصره إلى بعيد، ساعياً لتسلق القمة التي ينحدر منها خيط الشلال الدافق، وبدت على وجهه إمارات التفكير العميق، قبل أن يهمس بحزنٍ غريب:
– بطبيعة الحال يا صديقتي، ليس بعد القمة إلا القمم الأخرى المحجوبة، فما أن نصل لهناك حتى يتبدى لنا مشهد جديد لم نره بأعيننا من قبل، طبعاً كنا نحدسه حدساً، بل ونحلم بتضاريسه، بمنخفضاته وذراه، بوعورته ووفرته، بهاويته أو بسمائه، غير أنه سينجلي، بالأخير، عن مشهد لابد وأن يكون مغايراً لكل توقعاتنا، أحلامنا، محاذيرنا، بشأنه.
توقف عن الكلام. أغمض عينيه لثوانٍ، وأخذ يتنفس بقوة وبصوت مسموع، وكأنه يعب الهواء، في رئتيه، عباً. تابع:
– الآن بتُ أعرف سر خوفي من الصعود، نعم، تكمن العلة في أنه لا نهاية، أبداً أبداً، للصعود.
– وأنت تشتهي النهايات.
– نعم، أشتهيها، بكل ما في قلبي من قوة وتوق.
– لذا تنهي حبنا، قصتنا، مثل هذه النهاية البائسة؟
أحس بها جريحة، مكلومة، كما لو أنه ألقى بروحها، مُعراة، على قارعة الطريق. داهمه إشفاق وحنو عليها. فكَر أنه إذا كان من المحتم أن يرضخ لسنن الوجود ويُقر بمحدودية وتناهي كل وجود، فليس من الضروري أن يقسو، على نفسه وعليها، بالتماهي الراضي مع تلك السنن.
انتهيا من وجبتهما، وقاما يطوفان بأرجاء المدينة. اقترح عليها مواصلة الصعود باتجاه قمة الجبل التي يتراءى فوقها مقام عتيق، مبني بالحجارة البيضاء الملونة، من أسفلها، بالأزرق الزهري المميز لكل بنايات البلدة. كان عليهما، أولاً، متابعة تسلق عشرات، بل مئات، السُلمات الصخرية عبر العديد من “الزنقات” الرفيعة، المنتشرة كالشرايين الدقيقة، في جسد الجبل الذي يحتضن البيوت ويجهض أحلام ساكنيها، ثم، وكأنما بغتة، ينتهي كل ذلك اللغط، وينفسح المشهد على خلاء صخري تام، يناطح سماء فسيحة بلا حدود، زرقاء بيضاء على غرار البلدة المقعية عند قدمي الحجر. راحا يغذان الخطو باتجاه المقام المنسي عند القمة، قبل أن يستشعر، بشكل خفي لكن مؤكد، أن ثمة من يتابعهما. توقفا، قليلاً، كأنما لالتقاط الأنفاس، وأخذ يفتش في رائحة الهواء الذي يتنفسه عن أنفاس ملاحقيه.
الآن، وجب عليهم الإعلان صراحة عن وجودهم، واللعب على المكشوف، كما يُقال.
– مرحباً أستاذ. أي خدمة نستطيع تقديمها لكما؟
هتف به رجل ضخم الجثة، بشارب كث، ونبرة تعبر عن السلطة والسيادة. فهم، من فوره، أنه “عون” المنطقة. لام نفسه على استغراقه، الرومانتيكي الساذج، في تأملاته وخيباته بشأن الحب والنهايات والصعود، ونسيانه وقائع السقوط اليومية، العادية جداً، في مجتمعات يتجسس نصف ساكنتها على نصفها الآخر بالنهار، ويعسُ نصفها الثاني على نصفها الأول خلال الليل.
– فقط أردنا زيارة مقام الولي.
– الولي! لا ولي هناك، ولا مقام.
– إذاً، ما هذا البناء؟
أطلق “العون” قهقهة ساخرة من جهل الزائر “البراني”، ثم قال:
– مجرد مقبرة ليهودي “موريسكي” شاء له حمقه أن يجعل نهايته هنا.
وقف الرجلان، في مواجهة بعضهما، صامتين لبضع ثوانٍ، قبل أن يتابع “المخزني”:
– “المرسيدس” بأسفل يا أستاذ، أظنها تخصك.
– نعم، هي سيارتي.
– اسمح لي، لا يصح أن تتركها هناك وتبتعد عنها كثيراً، أخشى أن يعبث بها عابث، خاصة أن أرقامها دبلوماسية، فلا تستطيع النزول.
التقط، على الفور، رسالة التهديد المبطنة لكلمات “العون”. فكر، بمرارة، أن الرجل، وبعد أن أحبط مسعاه لمواصلة الصعود، ها هو يهدده، أيضاً، بمنعه من النزول. ابتسم له واحدة من ابتساماته الساخرة، التي غالباً ما تعقف زاوية فمه فتمنحه شكلاً شائهاً كريهاً. أجاب بحسم:
– معك حق، لننزل، ليس ثمة إمكانية للصعود، أبداً.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون