صاحب الغليون الذهبي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 54
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد شداد الحراق

إذا ظهر طيف (السيد أحمد) في شوارع المدينة ودروبها، وجدت الناس يطيلون النظر إلى هيأته الغريبة وإلى لباسه المهلهل وشعره المنفوش المجعد المنتصب دوما نحو الأعلى. ينظرون إليه وهو يمشي بخطوات بطيئة رافعا رأسه نحو السماء، مرددا مقاطع من أغان غربية شهيرة، لا يكترث لأحد من الناس، ولا يبالي بتلك الغابة من العيون الفضولية التي تراقبه وتتابع حركاته وسكناته باهتمام بالغ. يجر جسمه المكتنز الأسمر البارز العضلات، ويستعرض آيات النعمة وعلامات الثراء. حزامه المرصع بالجواهر وغليونه الطويل المصنوع من الذهب الخالص يزيدان من فضول المارة. كان شخصا غريب الأطوار، يخالف بلباسه المثير وحليّه الثمين ونمط عيشه الشاذ أعراف المجتمع وتقاليده، ويعيش حالة استثناء في مدينة عتيقة محافظة تنفتح على الحداثة باحتشام شديد. صارت سيرته حديث العام والخاص وموضوعا مغريا للجدال والسجال في كل المجالس والمجامع والمسامرات. الكل يتساءل عن مصدر الثروة التي يمتلكها هذا الأسمر الغامض المسيل لكثير من المداد واللعاب. كان الناس في قرارات أنفسهم يرددون: (يا ليت لنا من المال مثل ما أوتي السيد (أحمد). إنه لذو حظ عظيم).ولكن هؤلاء الناس في علانيتهم يتصنعون العفة والقناعة، فيتبادلون علامات الاستفهام فيما بينهم، فيعبرون عن حيرتهم القاتلة بسؤال واحد مشترك ينمّ عن فضول قوي يتنامى يوما بعد يوم، وعن انشغال حاد يشاغب في أذهانهم المستفَزّة، ويترجم نواياهم غير البريئة : (من أين يحصل هذا الرجل على كل هذه الأموال؟ لا شك أن في الأمر سرا)…  هو سؤال مطرد يجري على كل الألسنة، طرحه البسطاء والأغنياء وانشغل به جهاز الأمن أيضا.

   يمضي (السيد أحمد) يومه جالسا بمتجره المتواجد بقلب المدينة، وسط أكوام من التحف النادرة والألبسة الجلدية المستوردة من الضفة الأوروبية، وتحت إبطه تتدلى حقيبة قديمة يدوية الصنع قد امتلأت بأنواع شتى من الأوراق النقدية من العملة الصعبة. يجلس فوق كرسيه الخشبي ساعات طوالا صامتا منتشيا بجرعات الكيف المهيجة لخلايا الدماغ، لا يكلم أحدا ولا يعير اهتماما لتلك النظرات المتربصة الحائرة المتقصية للأخبار. يشعل النار بأسفل الغليون لتلتهم كمية الكيف المدسوسة فيه بإحكام، فيستنشق دخانه ملء أنفاسه، ويبتلعه بانتشاء كبير،  ثم يتركه ينساب بحرية داخل القنوات المؤدية إلى تجاويف صدره البارز المشعّر. وما هي إلا لحظات قليلة حتى يطرد ذلك الدخان دفعة واحدة، فتراه ينبعث من جوفه عبر ثغره الداكن الذي تحوّل- مع مرور الأيام – إلى شبه عادم صدئ متفحّم لسيارة قديمة مهترئة أو لقطار بخاري عنيد يرفض الاستقالة والانسحاب من دنيا الناس.

   مرت السنوات متشابهة رتيبة و(السيد أحمد) لا يبالي بأحد، وأغلب أصدقائه أناس عبثيون وسياح عابرون من طائفة (البوهيميين) الثائرين و( الهيبيز) المتمردين على المَدَنِية والرافضين للنمطية والعاشقين للحرية والحياة الطبيعية. يظل سابحا في فضاء العبث واللامبالاة، يحلق وراء سحب كثيفة متوالية تحمله بعيدا إلى عالم خاص به. إلى عالم استثنائي لا يدرك تفاصيله إلا هو.. عالم سريالي ارتجالي عشوائي لا مجال فيه للنظام والتخطيط. تؤثثه أشياء قليلة معدودة ولكنها مثيرة للاهتمام، مستدعية للفضول؛ غليونه الذهبي الذي لا يفارق يده،  وحزامه الثمين الذي يحيط بخصره، وهالة كثيفة بيضاء تطارد ظله حيثما تحرك،  وكرسي خشبي منقوش الأطراف موضوع بعناية قرب باب المتجر بجانب التحف والملابس.

بعد حياة طويلة رتيبة رفض (السيد أحمد) الاكتفاء بما لديه في هذا العالم الخاص،  وفكر في تحقيق المزيد من التميز والاستثناء، وتعمد إثارة حساده واستفزاز حساسية الحاقدين عليه. فأضاف إلى عالمه الغامض محلا جديدا، كان عبارة عن مطعم راقٍ متخصص في تقديم أطباق السمك. صار – مع مرور الوقت- مقصدا مفضلا لدى عشاق فواكه البحر وخيراته الشهية. ثم ما فتئ الرجل أن اقتنى سيارة فارهة أمريكية الصنع من نوع (كليزلر) حمراء اللون، باهظة الثمن، مكشوفة السقف. وهو صنف نادر كان الحصول عليه حلما يراود الأعيان وأصحاب الجاه في سبعينيات القرن العشرين. سيارة جذابة تسرّ الناظرين وتغيض المسؤولين والأثرياء الذين يتطلعون إلى نيل حظوة امتلاكها. كان يجوب بها شوارع المدينة كل مساء، ويستعرض جمالها الأخاذ، فيبهر الجالسين والواقفين، ويزيدهم جرعات إضافية من الحيرة والتساؤل والفضول. وكان استعراضه المستفز هذا  يحرك حماس الناس ويدفعهم  إلى اختلاق القصص والحكايات وإلى التفنن في صياغة الاحتمالات والتأويلات.

وفي يوم، وصلته رسالة خاصة من محافظ المدينة يدعوه فيها إلى التبرع بتلك السيارة الجميلة والتنازل عنها وجعلها في متناول رئيس المحافظة. لكن الرجل انتفض بقوة ورفض هذا الابتزاز البائس، واعتبر هذا الطلب تعديا مباشرا على حقوقه وخصوصياته واستدراجا مقصودا لصراع محتمل مع جهاز السلطة بالمدينة. فقد كان على علم تام بأن هذا الطلب لن يكون وحيدا إن هو رضخ واستسلم، بل ستكون له متوالية من الطلبات الأخرى. ولذلك أصرّ على عدم الاستجابة والرضوخ مهما كانت العواقب. وبعد أيام قليلة زاره في متجره مبعوث المحافظ، دخل عليه بشكل غير لائق، وقد ارتسمت على وجهه علامات تترجم ما يضمره من شر دفين:

ـ السيد المحافظ يكرر الطلب نفسه، ويعتبر رفضك تمردا عليه وتحديا له. وهذا السلوك لن يكون في صالحك. لن تنجو من عواقبه، ولن تخرج من عنادك سالما.

ـ ولكن هذا ظلم وتعدٍ على الحقوق وتجاوز للقانون.. هذه السيارة لي ولعائلتي. اشتريتها من مالي وعرق جبيني. وبأي حق تطلبون مني أن أتنازل عنها؟

ـ ليس عندي كلام آخر أقوله لك.. نحن نعلم مصدر ثروتك. ونعرف أيضا كيف نجعل منك مجرما خطيرا قابعا في غياهب السجون. ولذلك أنصحك بالاستجابة والمرونة حفظا لسلامتك وحفاظا على مصالحك.

ـ هل أعتبر هذا الكلام تهديدا صريحا؟ أحقا أنتم رجال القانون أم عصابة ؟؟

ـ افهم ما تشاء.. ولكن عليك أن تعلم أن بيتك من زجاج. وسوف يأتيك الخبر اليقين في الوقت المناسب.

ـ اقض ما أنت قاض أنت وصاحبك. ولا يغرنّكم ما تملكون من سلطة، فهناك شيء اسمه القانون. وهناك أيضا شيء آخر أسمى من القانون.( لي ما عنده باباه عنده سيده)

بات (السيد أحمد) تلك الليلة يتقلب فوق فراشه كأنما هو داخل حوض من جمر حارق وشوك موجع.  خاصمه النوم واستبد به الأرق. بات ينسج سيناريوهات كثيرة لما يمكن أن تصير إليه الأمور. فهو يعلم أن المستبد الظالم لا حدود لدسائسه ولا نهاية لمؤامراته، وأن له ألف طريقة وطريقة للإيقاع بضحاياه. فكم من بريء أدين بجرم لا يد له فيه، وأمضى زهرة حياته وراء قضبان القهر والحرمان.  ولكن (السيد أحمد) لم يكن ذلك الغر الساذج القابل للانقياد، ولم يكن من السهل إرهابه أو ترويعه بمثل هذه التهديدات البليدة. كان صاحب نفس عنيدة وكبرياء حاد، وله علاقات عميقة ومصالح مشتركة مع جهات نافذة في البلاد، يستنجد بها كلما استعصت عليه الأمور. فقد علمته الحياة كيف يحمي ظهره ويحصن نفسه، وكيف يرد على مثل هؤلاء المبتزين المتدثرين برداء القانون.

عند انبلاج نور الصباح تداعت إلى ذهنه الطريقة المثلى للرد على ذلك الطلب الجائر . غادر بيته باكرا.. أخرج سيارته الفارهة من مستودعها. شغّلها وهو يكلمها ويودعها ويعتذر منها. قادها نحو الحي الإداري، وركنها على مقربة من قصر المحافظ. قبّلها قبلة الوداع الأخير، ثُم أحرقها. جلس على حافة الطريق باسما يراقب الدخان الأسود الكثيف واللهب الأحمر المتصاعد من أجزائها المحترقة. وما هي إلا دقائق معدودة حتى أسرعت أجهزة الأمن والإطفاء وبعض المسؤولين الآخرين يستفسرون عن أسباب الحادث. لم يحضر المحافظ شخصيا، ولكنه بعث بعض عيونه لاستطلاع الأمر ولصياغة تقرير شامل لما حدث بالقرب من قصره.

أكدت التقارير البوليسية أن فعل الإحراق عمل مقصود متعمّد، وهو جرم يعاقب عليه القانون، ولذلك فإن صاحب السيارة مطلوب للعدالة وللمتابعة بسبب هذا الجريمة المتعمدة. وبالفعل ألقي القبض على (السيد أحمد) ووضعت الأصفاد في يديه. لم يبد أي مقاومة كأنه غير مكترث لما سيحدث، وغير مبال بنظرات التشفي الصادرة من بعض من حضر إلى عين المكان. أدخل السجن على ذمة التحقيق، ولم تكن تظهر عليه علامات الندم أو ملامح الخوف. كان يعلم أن هناك سلطة أخرى فوق سلطة القانون هي سلطة المال وسلطة الأعيان والعلاقات الخاصة. وأن الفساد يستطيع تغيير الأحكام ويجعل المذنب ضحية والضحية مذنبا.

بعد يوم من دخوله السجن حضر مبعوث شخصي من أحد القضاة يساومه في أمر إطلاق سراحه بشرط أداء كفالة مالية كبيرة. رفض (السيد أحمد) هذا العرض، وطلب من زائره أن ينصح السيد القاضي بعدم توريط نفسه بهذا السلوك المشين الذي لا يليق بموقعه وبمقامه، وأخبره أن المال سيصرف فعلا، ولكنه سيصل إلى جهة أخرى. إلى من يملكون سلطة القرار الحقيقي.

بعد أسبوع من الاعتقال خرج (السيد أحمد) من السجن دون محاكمة، بل باعتذار خطي من طرف الجهاز المشرف على اعتقاله. لم يبح قَطّ بالجهة التي حركت مسطرة الإفراج عنه، ولم يفصح قَط عن الاسم الذي تدخل لصالحه وسيطا في هذه القضية. وعاد إلى شوارع المدينة مزهوا بلباسه المثير وحليه الثمين، وممتشقا غليونه الذهبي الطويل. يحشوه بالكيف علانية، وينفث دخانه في كل اتجاه، ويستهجن نظرات الفضوليين والمسؤولين الذين صاروا – منذ ذلك الحادث- يحترمونه ويقدرونه ويخافون منه.  

 

  

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون