شِعريَّةُ البنيةِ العَجَائبيَّة في ” حَيَوات مَفْقُودة” ، لشريف رزق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد السّيد إسماعيل

لا يتعامَلُ شريف رزق ، مَعَ " العَجَائبيِّ " ، بوصْفِهِ مُناقِضًا للحقيقَةِ ، أوْ مَنْطِقِ الوَاقِعِ الاعتياديِّ ، أوْ مَجَازًا شِعريًّا ؛ بلْ يتعامَلُ مَعَهُ بوصْفِهِ وَاقعًا مُوازيًا ، وَمُتداخِلاً ، مَعَ وَاقعِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ ، بهَذا الاعتبارِ تبدو لي كتابَة " حَيَوَات مَفْقُودَة "(1) ، أشْبَهَ بصِنَاعَةِ الأسَاطيرِ الشَّخصيَّةِ ؛ الَّتي يُمكِنُ تأويلُهَا منْ خِلالِ بعضِ الفلسَفِاتِ أوْ الرُّؤى الصُّوفيَّةِ ؛ لكنَّهَا تظلُّ – رَغْمَ هذِهِ الإحَالَةِ – مُحْتفِظَةً بطابعِهَا الشَّخصِيِّ ، حَتَّى يغدو النَّصُّ كُلّه جَدَلاً شِعريًّا مَعَ مجموعَةِ المَرْجِعيَّاتِ المُعْلَنةِ وَالمُضْمَرَةِ ؛ الَّتي تبدأ مِمَّا يُمكِنُ أنْ نُسَمِّيَهُ بـ " السِّحريَّة العرْفانيَّةِ " ، أوْ " الكََرَامَاتِ " ، كَمَا اصْطُلِحَ على تسْمِيتِهَا ، وَتنتهِي – أوْ لا تنتهِي – بالتَّناصِ مَعَ مَقُولاتِ المُسْتقبليِّينَ الإيطاليِّينَ ، وَاللافِتِ أنَّ الشَّاعرَ يتعامَلُ مَعَ كتاباتِهِ السَّابقَةِ ، بوصْفِهَا إحْدَى هَذِهِ المَرْجِعيَّاتِ الفاعلةِ دَاخِلَ " حَيَوَات مَفْقُودَة " ؛ حيثُ نجِدُ اقتباسَاتٍ منْ نصِّ " المُكابَدَاتِ " ، وَنصِّ " مَجَرَّة النِّهايَات " ، فيمَا يُمكِنُ أنْ نُسَمِّيَه بـ " هِجْرَةِ النَّصِّ " إلى صَاحِبِهِ ؛ طِبقًا لمُصْطَلحِ " هِجْرَةِ النَّصِّ " ؛ الَّذي اسْتَخدمَهُ محمد بنِّيس ؛ تعبيرًا عنْ هِجْرَةِ الشَّوقيَّاتِ إلى الشِّعريَّةِ المَغَاربيَّةِ .

فَثَمَّةَ تفاعُلٌ وَاضِحٌ بينَ نصوصِ شريف رزق ، يُجَسِّدُ شِعريَّةَ النَّصِّ الشِّعريِّ الكُلِّيِّ لشريف رزق ؛ الَّذي هُو نَصٌّ شِعريٌّ تشَعُّبيٌّ ، على نَحْوٍ وَاضِحٍ .

وَلعَلَّ أوَّل مَلامحِ هذِهِ العَجَائبيَّةِ ؛ الَّتي أُشِيرُ إليْهَا ، هُو مَحْو التَّسلسُلِ الزَّمنيّ ؛ بوَحَدَاتِهِ المُتَعَاقبَةِ ، وَتفعِيْل ” دَائريَّة ” الزَّمنِ ؛ بحيثُ يتجاوَزُ ” المَاضِي ” مَعَ ” الحَاضِرِ ” ، على مُسْتَوَى الوَعْي وَالاسْتدعَاءِ ؛ هَذا الاسْتدعَاء الَّذي بَدَا – في مَرْحَلتِهِ الأولى – شَبيهًا بمُطَارَدَةِ لحَظَاتٍ هَاربَةٍ ، وَإنْ كَانَ الشَّاعرُ على يقينٍ بهَا :

” أمَدِّدُ جَسَدِي على الأريكَةِ ، مُغْمِضًا عينيَّ ، وَمُسْتَجْمِعًا ، دُونَ أنْ تجِيءَ لحْظَةٌ ، كُنْتُ فيْهَا ديناصُورًا ، أوْ حُوتًا ، أوْ ثورًا ، أوْ شَجَرَةً ، أوْ مَاءً ، قبلَ أنْ أولدَ وِلادتِي الأخِيرَةْ .” (2)

هذِهِ اللحَظَاتُ الهَاربَةُ ؛ الَّتي بَدَتْ –  في أوَّلِ الدِّيوانِ – أقرَبُ إلى الوَعْي ” المُسْتَحِيلِ ” أوْ الفنتازيِّ ، سَوْفَ تُصْبحُ – على مَدَارِ النَّصِّ – وَعْيًا ” مُمْكنًا ” ؛ أليفًا وَحَياتيًّا ؛ يتعامَلُ مَعَهُ الشَّاعرُ تعامُلَهُ مَعَ أشيَائِهِ القريبَةِ :

               ” صَبَاح الخَيْرِ أيُّهَا الحِصَانُ

لا تَسْتَرِبْ أوْ تَتَمَلْمَلْ

تأمَّلْ

ألا تَعْرِفنِي ؟.” (3)

في انتقَالةٍ وَاسِعَةٍ منْ حالةِ الاسْتدعَاءِ إلى حَالةِ المُوَاجَهَةِ وَالخِطَابِ وَالمُشَارَكةِ وَالتَّداخُلِ ، فيْمَا يُشْبِهُ ” وِحْدَة الوجُود ” وَ” الكَائِنَاتِ ” :

” أيُّهَا الدِّيناصُورُ فيَّ

أيُّهَا الحُوْتُ الأزْرَقُ

يَا وَحِيْدَ القَرْنِ

أيُّهَا العُقَابُ

أيُّهَا الثَّورُ

أنْتَ أيُّهَا الفيلُ الاسْتِوائيُّ .” (4)

في آليَّةٍ مُطردةٍ منْ ” الاسْتدعَاءِ ” إلى ” المُوَاجَهَةِ ” ، ثمَّ – أخيرًا – ” التَّوحُّدِ ” ، وَهُو مَا يُعدُّ تمهيدًا لسَيْطرَةِ تيمَةِ العَوْدَةِ إلى ” البَدْءِ ” ؛ حَيْثُ البَرِّيَّةِ وَالعَرَاءِ وَالخَوَاءِِ وَاحْتِدَامَاتِ الخَلْقِ الأولى ؛ بمَا لا يعنِي ” دَائريَّةَ الزَّمنِ ” فقطْ ؛ بلْ تهشِيمِهِ وَإبطَالِ فاعليَّتِهِ المُفترَضَةِ ، وَتَجَاوزه ، وَالعُبور السَّريع فوقَهُ ، منْ الحَاضِرِ إلى المَاضِي ، وَمنْ الطُّفولةِ إلى الاكْتِمَالِ :

  ” وَلمْ يكَدْ شَريف يَخْرُجُ منْ أمِّهِ حَتَّى مَشَى

، وَتَوَقَّفَ ، وَصَاحَ :

 هَذَا أنَا

وَهذِهِ ولادَتِي الأخِيْرَة .” (5)

  ي ن ع ب ي ر غ ي د س ج

  ي ل ا ل م ل ا ع ل ا ا ذ هـ ل ي د س ج

 

هذِهِ العَودَةُ ” البدئيَّةُ ” – إنْ صَحَّ التَّعبيرُ – تَتَوَازَى – في تَصَوُّري – مَعَ آليَّةِ ” تفكِيكِ ” اللغَةِ ، وَرَدِّهَا إلى عناصِرِهَا الأولى (6) :

تَمَامًا كَمَا يَتَوَازَى تأطِيرُ ” البياضِ ” ؛ بمَا يعنِي غيبَةَ اللغَةِ ؛ وَليسَ انْعِدَامَهَا ، مَعَ غيبَةِ الآخَرِ / الشَّبيْهِ / القَريْنِ ، وَاحْتِجَابِهِ ، أوْ ترُاوحِهِ بيْنَ الحُضُورِ وَالغِيَابِ :

” كَانَ طَيْفُهُ على الأرْجَحِ ، في جَسَدٍ مُطَابقٍ ، زَلْزَلَنِي ، لِلَحْظَةٍ ، وَتَوَلَّى ، هُوَ الَّذي لمْ أعُدْ وَاثقًا بوجُودِهِ تمَامًا أوْ غيابِهِ .” (7) 

أوْ :

” أيُمْكِنُنَا أنْ نَظَلَّ هَكَذَا

وَاحِدٌ في الجَحِيْمِ

وَوَاحِدٌ في الأثيْرِ

وَأنْتَ تَطْغَى ؟ .” (8)

هَذِهِ التِّيمَةُ المَرْكزيَّةُ – تيمَة القَريْنِ / الشَّبيْهِ أوْ انقِسَام الذَّاتِ – تَسْتَدْعِي مَا يُؤكِّدُهَا مِنْ نصوصٍ مُوَازيَةٍ ، وَيُمْكِنُ اختبارُ هَذَا فيْمَا اقتبسَهُ الشَّاعرُ منْ ” المِنَنِ الكُبْرَى ” للشَّعرانِيِّ :

” وَجَمَعْتُ في ذَلكَ المَشْهَدِ بَيْنَ شُهودِ نفسِي في مَكَانيْنِ ؛ فإنِّي كُنْتُ دَاخِلَ العَرْشِ بيقيْنٍ ، وَأرَى نفسِي خَارجَهُ بيقيْنٍ .” (9)

أوْ مِنْ قصَّةِ ” الهُورلا ” لمُوبَسَان :

” وَاسْتَطَعْتُ أخِيرًا أنْ أرَى نفسِي تمَامًا ، إنَّنِي رَأيْتُهُ ، وَقَدْ تَمَلَّكَنِي الرُّعْبُ ، وَلازلْتُ أرْتَعِدُ حتَّى الآنَ .” (10) 

أوْ مِنْ ” كتابِ اللا طمَأنينَةِ ” لفرناندو بيسوَّا :

” تَنَبَّهتُ بإلهَامٍ خَاطِفٍ ، إلى أنَّني لا أحَد ، لا أحَد ، على الإطْلاقِ لا أحَد .” (11)

وفي تصوُّري أنَّ هَذا الاقتبَاسَ – تحدِيدًا- لا يعنِي العَدَميَّةَ –  طِبْقًا لمَا تطرحُهُ دَلالاتُ ” حَيَوَات مَفْقُودَة ” – بقدْرِ مَا يعنِي عَدَمَ ” الوَاحِديَّةِ ” ، وَيُؤكِّدُ تعدُّدَ ” الحَيَوَاتِ ” ، وَانتقالَهَا منْ هيئَةٍ إلى أخْرَى ، وَمِنْ جَسَدٍ إلى آخَرٍ :

” لاشَكَّ أنَّ كثيريْنَ ، مِنْ قبلِي ، عَاشُوا في هَذا الجَسَدِ ، وَأنَّنِي ، بالتَّأكيدِ ، عِشْتُ قبْلَ هَذا الجَسَدِ ، في كَائنَاتٍ أخْرَى مِنْ قبل .” (12)

وَهَكَذا تَخْرُجُ ثُنائيَّةُ ” المَوْتِ وَالحَيَاةِ ” عَنْ طبيعتِهَا الضِّديَّةِ المُعْتادَةِ ، وَتُصْبحُ الحَيَاةُ نوْعًا منْ ” المَوْتِ ” ، في حَالةٍ منْ التَّمازُجِ وَالتَّداخُلِ ، وَتفتقِدُ الذَّاتُ اكْتِشَافَ وَضْعِيَّتِهَا وَتَرَاوحَهَا بيْنَ الطَّرفيْنِ ، وَسُقُوطهَا في تلكِ المَسَافةِ البينيَّةِ الغَامِضَةِ :

” أنَا حَتَّى الآنَ لا أسْتَطِيْعُ  أنْ أُجْزِمَ تَمَامًا إذَا مَا كُنْتُ في الأصْلِ حَيًّا ، وَينتابُنِي مَوْتٌ مُؤكَّدٌ ، أمْ أنَّنِي في الأصْلِ مَيِّتٌ وَأصْحُو على فَتَرَاتٍ قليْلا .” (13)

نحنُ إذنْ أمَامَ مَا أسْمَاهُ الشَّاعرُ ذاتُهُ بـ ” أسْطُورَةِ الذَّاتِ الَّتي لا تنتهِي ” ؛ الذَّاتِ الَّتِي تَمُوتُ في جَسَدٍ لتَحْيَا في غيْرِهِ ، وَمنْ هُنَا تنحَلُّ غَرَابَةُ وَصْفِ المِيْلادِ – مَثلا – بأنَّهُ ” المِيلادُ الأخِيْرُ ” ، أوْ وَصْفِ الجُثَّةِ بأنَّهَا ” الجُثَّةُ الأخِيْرَةُ ” ؛ لكنَّ هَذَا الوَصْفَ يستوقِفُنَا – منْ ناحِيَةٍ أخْرَى -أمَامَ دَلالَةٍ مُهِمَّةٍ  ؛ هِيَ أنَّ هَذِهِ الذَّاتَ لنْ تشْهَدَ مِيلادًا آخَرَ ، وَأنَّ دَوْرَةَ الحَيَاةِ وَالمَوْتِ المُتَعَاقِبَةِ ، سَوْفَ تنتهِي بهَا ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ اللافِتِ أنَّ الشَّاعرَ يسْتخدِمُ – لِلتَّعبيْرِ عنْ انْتِهَاءِ هَذِهِ الدَّورَةِ – دَالةَ ” الفنَاءِ ” ؛ بمَا يعنِي أنَّ ” الفَنَاءَ ” – وَليسَ المَوْت – هُو نقيضُ الحَيَاةِ :

” على يقينٍ بأنَّنِي لمْ يَعُدْ مِنِّي سِوَى يقينِي بهَذا الفَنَاءِ .” (14)

وَكَمَا تتجلَّى البنيَةُ العَجَائبيَّةُ ، على مُسْتوَى الزَّمنِ ، وَمُسْتَوَى انشِطَارِ الذَّاتِ ، تتجلَّى كَذلكَ ، على مُسْتَوى الفِعْلِ النَّاتجِ عنْ هَذا الانشِطَارِ :

” هَلْ يُصَدِّقُ أحَدٌ أنَّنِي رَأيتُهُ أمَامِي ، خَارجًا مِنْ المِرْآةِ ، في قُدْرَةٍ هَائلَةٍ ، على التَّشَبُّهِ بي ، وَلكنَّنِي لمْ أنْخَدِعْ ، حَدَّقتُ في عيْنيْهِ ، فحَدَّقَ ، رَفَعْتُ يُمنايَ ، فرَفَعَ ، في المُقابلِ يُمنَاهُ …”(15)

كَمَا تنعكِسُ هذِهِ العَجَائبيَّةُ على وَصْفِ ” المَكَانِ ” ؛ الَّذي يبدو كَمَا لوْ كَانَ مِرْآةً للذَّاتِ ، أوْ صُورَةً أخْرَى مِنْهَا ؛ على سَبيْلِ المَجَازِ المُرْسَلِ ، وَلنتأمَّلْ كيْفَ يبدو ” السَّريرُ ” في هَذِهِ السّطورِ :

” سَريرُكَ المُسْتجِيْرُ مِنْكَ برَمْضَائِكِ ، سَريرُكَ هَذا ، الفَوْضَويُّ ، ذُو القَمِيْصِ المُضَرَّجِ بدمَاءِ الحَدَاثِةِ وَصِرَاعِ الحَضَارَاتِ ، مَنْفَاكَ وَقبْرُكَ ، صَديْقُ الكَوابيْسِ وَالاشتِهَاءَاتِ المُريعَةِ ، قريْنُ الوَحْشَةِ ، سَريرُكَ هَذَا ؛ الَّذي يَتَوَهَّجُ في السَّمَاءِ ؛ مُقَطِّرًا دَمًا عليْكَ ، سَريرُكَ . “(16)

وَغنِيٌّ عنْ الذِّكرِ أنَّنَا أمَامَ صِفاتٍ إنسَانيَّةٍ مُشْترَكَةٍ ؛ تُوَحِّدُ بيْنَ السَّريرِ وَصَاحِبِهِ ، أوْ لِنقُلْ بيْنَ الذَّاتِ وَمَا يقعُ خَارَجَهَا ، أوْ بيْنَ الذَّاتِ وَمُصَاحَبَاتِهَا الحَيَاتيَّةِ ؛ السَّريرِ ، المِرْآةِ ، المَدْرَسَةِ ؛ بمَا يعنِي أنَّنَا أمَامَ رُؤيَةٍ ذاتيَّةٍ للوجُودِ ، تنخلِعُ على الزَّمَانِ وَالمَكَانِ ، وَتجْمَعُ بيْنَ دَائرتِهَا وَدَائرَةِ العَالَمِ الوَاسِعِ ، وَلْنَتَأمَّلْ – على سَبيْلِ المِثالِ – حَرَكَةَ ” العَصَافيْرِ البَهيَّةِ الخَضْرَاءِ ” (17) ؛ الَّتِي تُزاوجُ بيْنَ صُعودِهَا في شَهْقَةِ الفَضَاءِ وَوُقوفِهَا على أغْصَانِ القَلْبِ ؛ وَعلى هَذَا يُمْكِنُنَا القَوْلُ إنَّ اسْتِشرَافِ ” الذَّاتِ ” هُوَ – في الوَقْتِ نفسِهِ – اسْتِشْرَافُ ” العَالَمِ ” ، وَمُحَاوَلَةُ إدْرَاكِ حَقيقَةِ الكَوْنِ ، على نَحْوِ مَا نفهَمُ قوْلَهُ مَثلاً :

” إنَّنِي

وَاقِفٌ في فَضَاءِ وَرِيْدِي

وَحِيْدِي

 أُطَالِعُ فيَّ البَعِيْدَ

أُنادِي عليَّ .” (18)

في النَّصِّ حِسٌّ سِياسِيٌّ لاتُخْطِئُهُ العَيْنُ ، يبدو في صُورَةِ إشَارَاتٍ سَريعَةٍ ، شَديدَةِ الذَّكاءِ ؛ وَهِيَ إشَارَاتٌ تزدَادُ وُضُوحًا ، بصورَةٍ مُطَّردَةٍ ، وَقدْ آثرْتُ اقتِبَاسَ هَذِهِ الإشَارَاتِ منْ سِياقاتِهَا ؛ لندرك هذا الاطراد ؛ الذي أشير إليه :

” سَريرُكَ هَذَا ، الفَوْضَويُّ ، ذُو القَمِيصِ المُضَرَّجِ بدِمَاءِ الحَدَاثةِ وَصِرَاعِ الحَضَارَاتِ .” (19)

” مَرَّةً وَاحِدَةً رَأيتُهُ ، يتكلَّمُ مُحْتدًّا وَصَاخِبًا

     وَمِنْ فَرْحَتِي ، كَتَبْتُ على الحَائِطِ بجانِبِهِ

     تَاريخَ ذَلكَ اليَوْمِ :

    الحَادِيَ عَشَرَ مِنْ سِبتَمْبِر .”(20)

” كُنَّا على هَذيْنِ المقْعَدَيْنِ مَعًا

     أنَا وَشَريف

     مُحَاصَريْنِ بإرْهَابِ مُحَاربَةِ الإرْهَابِ .”(21)

” قَرَّرتُ في هَذِهِ الليْلَةِ أنْ أُجَمِّعَ كُلَّ الأنَاسِيِّ الَّذينَ عِشْتُهُمْ    مِنْ قبْل

     في وَليمَةٍ عَامِرَةٍ ، فَوْقَ هَذِهِ الأنقاضِ

    احْتِفَاءً بانْهيَارِ النِّظامِ العَالمِيِّ الجَدِيْد . “(22)

هَذِهِ الاقتباسَاتُ تدفعُنَا إلى مُحَاولَةِ اختبَارِ نوعيَّةِ الكِتابَةِ ، في ” حَيَوَات مَفْقُودَة ” ، وَسَوْفَ أسْتَجِيبُ لرغبَةِ الشَّاعرِ في رَفْضِهِ ” التَّجنيسَ ” النِّهائِيَّ لِلنَّصِّ ، وَ” أنْ نَعِيشَ النَّصَّ ، كَالحَيَاةِ ، أحْرَارًا أحْرَارا .” (23)

لكنَّ ذَلكَ لا يمنعُنَا منْ مُحَاولَةِ الوَصْفِ ، وَفي تَصَوُّري أنَّ النَّصَّ ينطوي على مَجْمُوعَةٍ مِنْ الأسَاليْبِ وَالآليَّاتِ المُتعَدِّدةِ المُتداخِلَةِ ؛ حَيْثُ يمزِجُ الشَّاعرُ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ أنْ نُسَمِّيَهُ بـ ” بنيَةِ الدَّفقةِ الشِّعريَّةِ ” المُكثَّفَةِ ؛ المُكتَمِلَةِ وَالمُغْلقَةِ على نفسِهَا ، إلى ” بنيَةِ الكتلةِ الشِّعريَّةِ السَّرديَّةِ ” ، وَرُبَّمَا كانَ هَذَا مِمَّا يُفَسِّرُ كثرَةَ التَّأطِيرَاتِ المُربَّعةِ وَالمُسْتطِيلةِ ، وَلنقرَأْ منْ النَّمَاذِجِ الدَّالةِ على بنيَةِ الشِّعريَّةِ الأولى قولَهُ :

” لِكُلِّ صَبْوَةٍ وَاشتِهَاءْ

     طَلْقَةٌ في مَنَازلِ الأحْشَاءِ .” (24) 

” أنْتِ عَاصِفَةٌ تُجَمِّرُنِي هُنَا

     وَأنَا انْفِجَارُكِ تَحْتَ جِسْمِي

في المَدَى .” (25)

تَتَجَاورُ هَذِهِ البنيَةُ الشِّعريَّةُ ، مَعَ البنيَةِ الشِّعريَّةِ السَّرديَّةِ ؛ سَوَاء كَانتْ اعتياديَّةً أوْ عَجَائبيَّةً ، وَهذِهِ البنيَةُ الشِّعريَّةُ الأخِيْرَةُ تصْنَعُ تقابُلاً وَاضِحًا مَعَ مَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ بـ ” إيقَاعِ التَّعويذَةِ ” ؛ القَائِمِ على تواتُرِ التَّقفِيَةِ :

” لا أسْتَطِيْعُ ، رُدَّنِي

إليَّ ، مِنْكَ

 فيْكَ ، رُدَّنِي

، إليَّ ، سُلَّنِي

 مِنْ الجَحِيْمِ ، ضَمَّنِي

وَضُمَّنِي

وَألْقِنِي عليَّ .”(26)

يَتَّبعُ الشَّاعرُ أسلوبًا آخَرَ ، يقومُ على تعمِيْقِ ” الإيهَامِ ” بازْدِوَاجيَّةِ الذَّاتِ وَانقِسَامِهَا ؛ حِيْنَ يتَّخِذُ مَوْقعَ “الرَّاوِي” الخَارجِيِّ المُرَاقِبِ للذَّاتِ الشَّاعرَةِ الحَقيقيَّةِ أوْ الوَهْمِيَّةِ ، وَالَّتِي نُطَالعُ نَصَّهَا الحَالِيَّ ؛ ” حَيَوَات مَفْقُودَة ” (27): 

” خُلْسَةً تَوَلَّى ، وَلمْ يَعُدْ ؛ تاركًا على الطَّاولةِ أوْرَاقََهُ المُنْتَظِرَةََ ، أوْرَاقَهُ الَّتِي حِيْنَمَا اقترَبْتُ مِنْهَا قَرَأْتُ :

 

إنَّ جَدَلَ هَذِهِ الأبنيَةِ المُتَعدِّدةِ ، يَصْنَعُ شِعريَّةً مُتميِّزَةً ؛ تَخْرُجُ عَنْ أُحَاديَّةِ الصَّوتِ ، وَتُقدِّمُ تركِيبًا شِعريًّا لافِتًا ؛ يجمَعُ بيْنَ آليَّاتٍ شِعريَّةٍ وَسَرديَّةٍ وَبَصَريَّةٍ مُتنوِّعَةٍ ، في بنَاءٍ شِعريٍّ مُتنوِّعِ الأسَاليبِ وَالطَّرائقِ ، وَهُوَ مَا اسْتَطَاعَ شريف رزق تَحقيقَهُ في هَذَا النَّصِّ ، وَفي غَيْرِهِ من الأعْمَالِ الشِّعريَّةِ السَّابقَةِ ، وَلاشَكَّ عِنْدِي أنَّ هَذِهِ السِّمَةَ البَارِزَةَ : سِمَةَ التَّركيْبِ ، هِيَ مَا تُحقِّقُ لهُ تميُّزَهُ الوَاضِحَ بيْنَ أبنَاءِ جِيْلِهِ .

 

الهوامش

 شريف رزق – حيواتٌ مفقودَةٌ – الطَّبعة الأولى – مركز الحضارة العربيَّة – القاهرة –2003 ، والطَّبعة الثَّانية – مكتبة الأسرة ، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب – 2010 .

السَّابق – ص : 13 .

السَّابق – ص : 14 .

السَّابق – ص : 15 .

السَّابق – ص : 11 .

السَّابق – ص : 14 .

السَّابق – ص : 20 .

السَّابق – ص : 34 .

السَّابق – ص : 16 .

السَّابق – ص : 53 .

السَّابق – ص : 18 .

السَّابق – ص : 39 .

السَّابق – ص : 44 .

السَّابق – ص : 45 .

السَّابق – ص : 42 .

السَّابق – ص : 18 .

السَّابق – ص : 23 .

السَّابق – ص : 24 .

السَّابق – ص : 18 .

السَّابق – ص : 51 .

السَّابق – ص : 55 .

السَّابق – ص : 57 .

السَّابق – ص : 54 .

السَّابق – ص : 16 .

السَّابق – ص : 17 .

السَّابق – ص : 22 .

السَّابق – ص : 25 .

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم