شوارع سالم

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة.. محمد إبراهيم محروس

لا أعرف لماذا اختار شوارع سالم لتكون بداية لقصتي هذه ، ولكنها هي من بدأت من عندها الحكاية ، شوارع سالم منطقة أعرفها وأحفظها كظهر يدي ، عشت فيها مجمل حياتي متنقلا من مكانا للآخر بانسيابية ثعبان حاذق ، طفلا مشاكسا كنت ، طفت شوارع سالم كما يطوف النسر حول فريسته ، اقتنصت منها لحظات حياتي تقريبا ، هبطت إليها من أعلى ، من منطقة شرقية في حضن الجبل حيث الهدوء الذي تتنفسه كل صباح ، كانت شوارع سالم مكتظة بمئات من الأشكال والبشر ، في تلك المنطقة من شوارع سالم وفي بلوكات قديمة انتشرت حياة جديدة عليّ ، وبالنسبة ليّ كانت جديدة كل حياة ، في وقت تمردتُ فيه على حبسي في البيت تهربا من اللعب مع العيال؛ لأنني كنتُ أبدو أمامهم ضعيف الحيلة ، وكنتُ معرضا دوما لعلقة من أي أحد في معاركي التي أدمنتها ، وكانت أمي شديدة الفزع عندما تراني مصابا بجروح جديدة ، ولكنني غلبت أن أفهمها أنها ضريبة التواجد في شارع سالم

في تلك البلوكات نبض داخلي نبض جديد في الحياة، كنت في العاشرة وقتها من العمر، أطوف الشوارع كالمجذوب يبحث عن شيء ما ، لا أخفي عليك أنني كنت أعبث في القمامة وأستخرج من وسطها ألعابا عديدة، أخرها كان سيارة “أتومبيل ” نحاسي كدت أن أموت وأنا أوصل له سلك كهربائي، وأوصله ” ببرايزة” الكهرباء، لينتفض جسدي بشدة مرتطما بحائط غرفتي ، وقتها منعتني أمي عن النزول للشارع لمدة بدت لي أطول مما ينبغي ،ولكن المدهش حدث ليّ بعدها، بعد أن تسربت الكهرباء إلى جسدي ، فجأة أصبحت أمسك أسلاك الكهرباء بيدي دون خوف ودون مبرر ، وكأن جسدي تحول إلى شيء خاص آخر ، كل هذا ليس بمهم قدر أهمية شوارع سالم ليّ ، وحي الأفرنج ، حيث يقبع في نهايته بلوكات القوات الدولية التي كانت ما تزال مرابطة في بلدتنا بعد الحرب ، يومها وفي أحد المعارك مع أحد أبناء عثمان بائع الذرة ،والذي كان معاق ذهنيا ،وبعد أن أمتعني بعلقة خاصة وجدتها أمامي وأنا مطروح على الأرض ،طفلة مثلي، تكبرني بشهور قليلة أتت مع أبيها وأمها ، اللذين كانا ضمن قوات حفظ السلام الدولية ، لم أشعر بكم الألفة التي شعرت بها يومها مع أي كائن آخر في الحياة ، كانت بيضاء ، بياض لم أره ولن أراه في حياتي بعد هذا ،عينان زرقاوان واسعتان ، قامة مشدودة في قوة واعتداد ، دفعت هي ابن عثمان عنيّ ، وضربته وهي تشتمه بألفاظ لم أفهم معظمها ، حينذاك بدوت أمامها كشيء آخر لا أعرفه ، فقدتُ كل الشقاوة المحبوسة في دمائي وأنا أهمس لها شاكرا ، بينما تهزّ هي رأسها وترحل ، أصيبتُ بعدها بمرض غريب؛ كنتُ أشاكس الأطفال بعنف وشدة وأسحبهم إلى أسفل بيتها؛ كي يضربونني ، بينما أحدق أنا إليها مستغيثا بها ، تهبط بعد تؤدة ، وقد سحبت في يدها كلب أبيض ” لولو” اسمه شاكي ، تنهر العيال وبطريقتها الغريبة، يخشونها ويهربون ، وأظل أنا أحدق في وجهها في وله ،يوما بعد يوم عرفتْ دائي وعرفتْ دوائي ، بينما كان أبوها يتركنا أحيانا نلعب ضاحكا ، وكأنه يشعر بحاجتها إلى دمية خاصة ، بعد فترة كففتُ عن هذه اللعبة المميتة والتي كادت أن تهلكني .. أصبحت شوارع سالم بكافة ناسها مجرد ذكريات ، بينما ظل حي الأفرنج مساري الدائم إلى بيتها ، خطواتي التي أعرفها وأحسها جيدا ، “جسكا” ، كان اسمها ، تعلمتْ بعض العربية هنا ، تهمس أحيانا ليّ : أنت جبان ؟!

أخاف أن أجيبها، انسحب من أمامها فزعا من تصوري نفسي جبانا، أخاف علي نفسي من الخوف، أرى في عينيها أحيانا تساؤلات عديدة.

أسحبها إلى غابة البوص لنسلخ أعوادا منه ونهبط إلى الحلقة لنصطاد سمك،تتحرك حولي ولا أشعر أنها تتحرك ، تتأمل السمك الذي نصطاده ، وتعيده لمياه الحلقة بعد فترة ، ضاحكة ،أدمنت اللعب معي وأدمنتها ، كنتُ أحاول كل يوم اختراع لعبة جديدة؛ لتشدها نحوي ..ولكنها هي هذه المرة من اختارت اللعبة

وبدأت لعبة أخرى تظهر في حياتي بغتة ، كانتْ تملك قفازين ملاكمة ، وكانت تدعوني دوما إلى أن أرتدي أحدهما ، وأدخل معها في شوط طويل أخرج منه وقد أحمرت عيناي ، وارتج مخي في رأسي ، كانت تضحك وهي تقول كلماتها العربية القليلة وتصبها في أذني : أنت جبان ؟!
لم أعرف للحياة وقتها طعما سوى نظرات عينيها الخائفة أحيانا ، والمرتعشة أحيانا ، والولعة أحيانا عليّ ، أتذكر أصابتها المباشرة في رأسي في أحد الجولات ، وأتذكر وقوعي على الأرض الآن وكأنه كان بالأمس ، وأتذكر شفتيها وهما يقتربان من وجنتي لتطبع قبلة سريعة معتذرة ..
أتذكر دبيب العشق في روح طفل صغير كانت تحمله شوارع سالم إلى فوق وفوق..
وجاء اليوم الذي لم أكن أحسبه ضمن الأيام ، كنت ارتدي قفازي الملاكمة ، وأحاول أن أحافظ على وجودي واقفا أمامها ، تلقيت عدة ضربات ،ولكنني قاومت الوقوع ، الذي لم أتصوره أن يقتحم ابن عثمان السور ويهبط بيني وبينها ، ثم يضربها بيده؛ لتقع أمامي على الأرض وهي تصرخ ، وأقف أنا أمام ابن عثمان موقف الخائف لأول مرة، أتذكر كل “علقاته” ليّ .. أضربه في وجه بعنف بقفازي الملاكمة ، يشتد الجنون أمامه ويجز على أسنانه قبل أن يهبط علي كالطوفان ، انهالت ضرباته علي بجنون لم أتصوره قط ، وانهارت مقاومتي بعد لأي ،آنذاك كانت “جسكا” تحاول الوقوف ، ولكنها تعرضت لضربة قوية من ابن عثمان الذي فر بعدها هاربا ، تاركا أثاره على وجهينا وجراحا للزمن .. يومها نظرتْ ليّ جسكا نظرة غريبة ..
وهي تقول : أنت جبان

..
بعد فترة حاولتُ الرجوع إلى بيتها، حاولتُ أن أسلم على أبيها، والذي لم يعطّ لي أدنى اهتمام، وكأنه عرف أن ابنته ملت لعبتها..وكأنه هو الآخر متفهما لطبيعة علاقة ابنته بي وانتهائها.. وأخذت الأيام تدور؛ لتختفي جسكا من حياتي ..وتختفي بلوكات قوات حفظ السلام ، وتتغير شوارع سالم بأهلها وسكانها ، وتختلف الوجوه ، ولكن دوما أتذكرها وأنا أقطع شوارع سالم عندما تصطدم عيناي بابن عثمان واقفا أمام عربة خشبية يهزّ منشة خاصة أمام وجهه ، وتلتمع جمرات الفحم ، وتطقطق حبات الذرة ، وأميل عليه هامسا :فاكر جسكا

 ..
يأتي صوته فرحا وسط جنونه: ضربتها صح، ضربتها صح وضربتك، أنا بطل ضربت الإنجليز..أنت جبان تلعب مع الإنجليز

.
أناوله جنيها وآخذ كوز الذرة ، وأنا انسحب ضاحكا بالمثل ، ووجه جسكا يتمثل أمامي ، وعينيها الزرقاوين يلمعان وسط شوارع سالم لمعان طيف ..وأنا أهمس لنفسي : صح ..أنا جبان ..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون