شهية الجلوس مع باولو كويلهو…!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 نعيم عبد مهلهل

 ( ليس سهلاً أكتشاف حجر الفلاسفة ، ، تحدث الإنكليزي : لقد ظل الكيميائيون سنوات في مختبراتهم يراقبون تلك النار التي كانت تطهر المعادن . وبقدر ما كانوا ينظرون الى النار ، كانوا يصلون في داخلهم الى التخلي من كل أباطيل العالم ، ثم ما لبثوا أن لاحظوا ذات يوم ، أن تطهير المعادن قد طهرهم ، هم بالذات في نهاية المطاف ).

تأخذ المرأة هذا المقطع من رواية الخميائي لباولو كويلهو ، انها تحث الخطى ذاهبة لتحاوره وهي تدرك مسبقاً أن حديثها معه سيجعل الرجل يفتح ذاكرته على مصراعيها وأنها بأسألتها ستصل الى ماهو خفي من أبتكارات( باولو) وهو يمدنا بتلك الغرائبية الشفافة التي تبني شخوصها على ممتلكات الروح الدينية للمسيحية التي قدم بها كولومبس الى الساحل الأمريكي اللاتيني ، لقد كان حديث باولو كويلو مستفزاً لأحلام كل قارىء يريد أن يكون يقظاً وهو يعي الفكرة اللامرئية التي أراد باولو أن يصنعها في واحدة من أهم رواياته وأكثرها شعبية وهي ( الخيميائي ).

وبعيداً عن مشاعر المرأة وهي تتحفز للقاء الروائي بعد أن أخبرها بالهاتف أن بأمكانها أن تصل اليه : ــ أذهبي الى تارب ( بلدة في الريف الفرنسي ) وأنزلي في فندق هنري الرابع ، وانتظري أتصالي .

وتقول المرأة في وصف مشاعر الوصول أليه:صعدت التاكسي ، وسألت السائق بلهفة :هل تعرف باولو كاويلهو؟

نظر اليَّ بعتاب وأجاب : سيدتي  لانعرف أحدا سواه هنا !

بعد حميمية اللقاء أظهر الروائي للمرأة حميمية المشهد والأرث الذي ملكه من رواية الخيميائي .

فيشعرها هاجسه :

ــ تصوري أني ألتقي تماماً مع ماأحسه الكاتب لقدرة التملك التي تحمله مناخات الرواية في تلبسها الشكل الأوبرالي . فهي رواية مفتوحة على الكون بشتى طبقاته ، كذلك هو صوت الأوبرا ومادتها الأدبية والموسيقية .

وقد توافق ذلك مع ذهنية ماردده باولو في اللقاء : تعالي أقرأي ماقاله عني الممثل راسل كرو في حلقة الأمس من برنامج أوبرا الشهير : يبدو أن الخيميائي ، هو كتاب أوبرا الأثير . لكني لم أتمالك أن أفكر أنه ربما الكتاب الوحيد الذي قرأته فعلاً مقدمة البرنامج الأمريكية التي تحب أن تدعي الثقافة الى حد تأسيسها ناديا للكتب.

وهكذا كما رأت المرأة في مقدمة الأفكار التي طرحها باولو أو تعمد في طرحها أن يكشف شيئاً من ذهنية الثقافة لديه ، ويبدو أن الف ليلة وليلة مرجعية مشتركة لدى فتوة وطفولة الكثير من الكتاب وهو يحذو حذو بورخيس في الارتماء الى المرجعية الحسية للشرق، ولكنه يضيف الى هذه الحسية المشتركة تفرداً جديداً حين يعلن في اللقاء أعجابه المنقطع النظير بجبران خليل جبران ..

ولكي تجعل لقائها طعماً مستفزاً ، ابتدأت معه مع ( صورة الجنس والرغبة ) في واحد من أعماله المتأخرة الموسوم ( أحدى عشر دقيقة ) وكانت رؤى تحمل فهماً مستعاراً لتلك العلاقة من خلال لقاءه بالمرأة التي شكلت رؤى الحدث ( ماريا ) . لقد بدت وجهات النظر أتجاه الجنس عند الروائي تمثل نمطاً متعارفاً أزاء ذلك الفعل المشحون برغبة للأندفاع صوب الأخر من أجل الممارسة ، ولكنه بالرغم من ذلك كما بدا من خلال حديثه لم ير الأمر هكذا عندما يقول :

ــ الجنس هو أحدى الطاقات الحيوية الأكثر قدرة على تغيير التأريخ ، وهو في مفهومي لايُمارس فحسب ، لذلك لا أحبذ عبارة ( فعل الحب ). ! الجنس ليس فقط ما نفعله ، بل ما نكونه أيضاً.

وعلى ذات السياق حاولت بذكاء امرأة مثقفة أن تكتشف المزيد من وعي الرجل ( الروائي ) أتجاه هذا الهم الجسماني والروحي بعد مداخلات تهم وضع الحب والمشاهد الجسدية في سيناريوهاته التي لا تنتهي عندما جاء سؤالها على هذه الشاكلة : لكننا غالباً ما نفوت هذا الاكتشاف ، أي قبول واقع اننا مختلفون ، ومشاركة هذا الاختلافات مع شريكنا وحبيبنا . أليس هذا التناغم الكامل بين الجسد والروح رؤية تبسيطية ومثالية عن علاقة بالغة التعقيد ؟

أجاب باولو كويلهو : مثالية! لاأعتقد . المطلوب فقط أن نحاول دائماً إعطاء أفضل ما عندنا ، أن نحارب لكي نصل الى الحب الحقيقي .

وهكذا كان وضوح الدلالات عند باولو يصنع فهماً مشتركاً بين الكاتب وقارئه ، وبين المحاور والروائي ، أن الأمر بدا كما يقول الأرجنتيني ( بورخيس ) : وضوحاً يعادي المتاهة . وكان رد الفعل أزاء مشاعر المرأة الرقيقة يحمل توازناً طيباً من الأفكار الجاهزة ، فالكتاب يضعون أجوبة مسبقة لمختلف الأسئلة وهذا ما فعله تماماً عندما أرادت  أن تظهر شيئاً من قدرة أمراة أن تكون رائية للآخر الذي تتحاور معه ، ولأن الجنس شكل مشهداً متسعاً في حوار يراه باولو كويلهو : يناغم أزمنة التذكر في ريو دي جانيرو حيث ولد ، وليظهر لمحاورته أنه جزء من الذات البشرية الأخرى المنتشرة بين قراءه وانه كان حقيقياً وصادقاً في كل الحكايات المهمة التي قادها الى ساحة الكتب ولتظهر للناس على شكل روايات عندما قال جازماً ، وهو يرد على تساؤلها: هل عندك ظمأ ملح الى الكشف عن نفسك ؟

يرد الكاتب : كل كتبي محاولات لكي أجيب عن أسئلتي الخاصة حول الحياة . أنا كاتب صادق جداً وقرائي يعرفون ذلك ، وإلا كانوا ليتوقفوا عن قراءتي لو شعروا أني مزيف .

تقول المرأة : في قراءاتي لأجوبة باولو تجدد معي الاعتقاد أن الكتاب الكبار يصلون الى الغطرسة دون أرادة منهم ، فالنمط الجديد لهذا الكاتب عندما يصير معروفاً ومسوقاً كما السيكار الكوبي ، يخلق ميل غير مخطط له أتجاه التنظير في الردود مهما تكن مستوياتها ، وفي هذا اللقاء فعل كويلو نفس الشيء ، أن الأمر بالنسبة له أعلانا جديداً لمنجز  لم  يرَ النور بعد لكن اللقاءات الصحفية قد تمهد له . وهو يلتقي في ذات الفكرة التي قالها ماريوفارغاس لوسا ذات مرة رداً على صحفي : لأنك لست بيروياً فأنت تمدني في رغبة جديدة لتحضير شيء .

وقد ينطبق ذات الشيء مع المرأة التي تحاوره ، ولكنه كان يقف عند حدود مقصودة  ليظهر لمحاورته حجم الحلم الذي يمتلكه أزاء الآخرين ومنهم قراءه الممتدين على سعة العالم . ولكنها في ذات اللحظة تفاجأت بشعوره البسيط أزاء هذه الهالة الكبيرة من الموهبة التي يمتلكها عندما يقول : في وسعك أن تقولي أني اكتب لكي اخاطب الطفل الذي نحمله في داخلنا .

وعلى هاجس الطفولة هذا بان الاشتغال الحقيقي لأدب كويلهو فقد وضحت رؤيته وصارت هنا عندما أظهرت الذات الطفولية لحظة الكتابة وتأثيرها وكانت اجابته حول سؤالها  والقائل : غالباً ما تتحدث عن الطفل . بلغت للتو السادسة والخمسين . ألم يشخ باولو الذي فيك ؟

عبرهذا التساؤل الذي لا يبدو معقداً كشف الروائي عن ماهية الرؤى لديه .

تذكرت المرأة مقطعاً لحوار الشاب مع الخيميائي والذي يقول فيه : بينما كنت أبحث عن كنزي ، كانت كل أيامي مشرقة لأنني كنت أعرف كل ساعة هي جزء من الحلم بإيجاده . اكتشفت في طريقي أشياء لم أكن أحلم يوماً أن أصادفها لو لم تكن لدي الشجاعة لأحاول القيام بأشياء تستحيل على الرعاة .

أنطلق باولو في الإجابة من هذه الفكرة كما نظن أنه يرى في المكتشف وطبيعته السهلة طريقاً الى تمجيد منجزه وكسب احترام القارئ وكان هذا شيئاً مهما بالنسبة له عندما يرد على السؤال : سأقول لك أن النضج هو بالنسبة لي الوقت الذي تبدأ فيه الثمرة في التعفن .أن القادرين على فهم الحياة هم الأطفال . الطفل الذي فينا هو الذي يشعرنا أن كل شيء ، كل شيء هو أمامنا .

وتسأله المرأة  ثانية وهي بذلك تريد أن تصل معه الى وضوح الهاجس الذي يشيد عليه منجزه الأدبي : وهل هذا الطفل الذي تخاطبه هو السبب في استخدامك لغة بسيطة ومباشرة الى هذا الحد ؟

فكان رده توضيحاً لكل الرؤى التي يكمل عليها أشتغالاته : وراء كل تعقيد فراغ مرعب . قد يبدو أسلوبي سطحياً لكني أتقشف في لغتي الى أبعد حدود …. كل الناس يريدون أن يكتبوا عوليس ، ولكن أذا قمت باستفتاء لمعرفة عدد الذين قراءوا عوليس كاملاً ، ستجدين أنهم قلة . لست أكتب وفق شروط المؤسسة إلا أني واثق من أن هذه اللغة العصرية هي أداة لغة المستقبل .

أذن باولو هنا يرينا أشبه ببيان جديد عن رؤى الكتابة ومساراتها القادمة وهذا ما يحققه ويتحقق منه من خلال سبع روايات هي كل ما أنجز خلال عمر الكتابة لديه مع مؤلفات أخرى .

بدت أسئلة المرأة شخصية أكثر من أن تكون ضمن كون الروايات لأنها بدأت تقرب من الكاتب كشخص . وهذا قد يهم الكثيرين إلا أنه لا يغني أولئك الذين يريدون فهم البعيد الذي يشيد عليها الكاتب مدنه وكانت نمطية أسئلة المرأة بدأت في : مم يخاف باولو كويلهو  ياترى ؟

 يرد الكاتب : جميعنا نخاف ، أنه فعل غريزي .

 فتسأله: وماذا عن الموت ؟ إلا تخاف الموت؟

من هذا السؤال صنع الروائي مزحة مقصودة ولكن ببناء أدبي جميل يتواز تماماً مع حجر الفلاسفة الذي صنع لديه كيمياء البحث في متاهات القلوب والصحارى عندما أجاب المرأة عن سؤالها هذا : الموت ؟ الموت بالنسبة لي امرأة جميلة جالسة بقربي ، تغازلني وتريد تقبيلي ، لكني أقول لها : لا ، ليس الان ، إصبري قليلاً يا امرأة ، أقبلك فيما بعد ..

الأسئلة المتأخرة في ذاكرة المرأة كانت ذكية ومسيسة ، مرت على رؤى الأيمان لدى الكاتب كما أرادت فيها المحاورة أن تضع الكاتب داخل المعاش الحقيقي لأنسان الكون وهي متغيرات العولمة وأحداثها ، مثل الحرب على العراق وأحداث سبتمبر وماتلاه ، على أساس ان تلك الإشكاليات المفخخة مربوطة بخيط واحد ولايمكن تجاوزها مادامت باتت تهم الجميع .

كانت حكمة أجوبته تدلل على سعة الوعي لديه. لقد فسر الأمر برمته بطريقة علمية وفلسفية وصوفية ايضاً، وأجابها : كل الأشياء المهمة في الحياة ، كالحب، والدين والحرية والحقيقة ، يمكن أن تستخدم للخير كما للشر . منذ اللحظة التي بدأ فيها الانفتاح على العالم الروحاني ، يولد فينا الخوف من المجهول ، وهناك أشخاص على هذا الكوكب بارعون في استثمار هذا الخوف من المجهول لدى الآخرين .

يستمر حديث باولو كويلهو مع المرأة في متعة لا تتوقف حتى وأنت تعيد قراءتها في ذات اللحظة التي ينتبه كويلهو الى أن المساء قد أسدل بعضاً من عتمته على الغرفة فيسأل المرأة أن كانت تحتاج الى نور الكهرباء ، ثم يردفُ قائلاً قبل سماع أي رد : لا ، لابأس ، دعينا هكذا فالسحرة يفضلون الظلام…! !

 

دوسلدورف في 18 فبراير 2014

 

خاص الكتابة

 

 

مقالات من نفس القسم