شهادة نادرة لعادل كامل: نجيب محفوظ أو الشخصية المكتملة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عادل كامل

ما هو السر الكامن وراء تهافت أصدقاء نجيب محفوظ ومريديه على تكريمه بالرغم منه…

إنها ليست مجاملة، وليست مجرد رغبة، وليست عرفانًا بالجميل فحسب، ولا هى شهوة عارضة. إنها عاطفة جياشة صادقة تغلى فى صدور أصحابها – أشبه الأشياء بالإلهام الجماعى الذى يسعى إلى الانفكاك والتجسد فى شخص نجيب محفوظ عن طريق تكريمه، كما لو كان بطلاً أدبيًّا وإنسانيا تتشابك حوله أمانى المثقفين وأحلامهم، فهم يحققون ذواتهم به وفيه.

والمسلّى فى الأمر هو موقف نجيب محفوظ من هذا التكريم؛ إنه مذعور ملتاع كأن ثمة مصيبة توشك أن تقع على أم رأسه. ولولا أن هذا الشعور عنده يبلغ حد المأساة، لكان فيه إغراء شديد على محاولة وضع سيناريو سينمائى عن بطل يكرم بالرغم منه، فهو يزوغ من المكرمين ويختفى فى قمم الجبال أو فى بطون الريف، وهم يطاردونه من مكان لآخر مستعينين بكلاب الشرطة للعثور عليه وإحضاره مكبلاً بالأغلال إلى تكريمه، حيث يحكم عليه بسماع أقوال الخطباء وقصائد إعجاب المريدين، وهو موثق إلى مقعده يتلوى ولا يستطيع فكاكًا، ومن هناك ينقلونه فى صحبة حرس مدجج بالسلاح كى يفتتح معرض رسوم أبطاله، ويضعون المسدس فى ظهره حتى يقص الشريط، وكلما خر مغشيا عليه أسعفوه بالكلونيا والنشادر….

ولعل هذا هو سر إعجاب الناس بنجيب محفوظ.

فكثير من الكتاب مروا فى طريق الأدب فقطعوا فيه أشواطًا متفاوتة، وحققوا أمجادًا متباينة، وحازوا إعجابنا بل وولهنا، ولكن جيلنا لم يشعر من قبل بهذا الإحساس المتفرد من أننا إذ نكرم نجيب محفوظ فإنما نكرم ذواتنا؛ نكرم فيه ما نتمنى وما نستطع تحقيقه وما نرجو أن نصل إليه؛ فنجيب محفوظ ليس كاتبًا كبيرًا فحسب، وإنما هو رمز جيل.

فكيف كان ذلك…

عندى أن مرد ذلك شخص نجيب محفوظ أولاً وأدبه ثانيًا.

ولأبدأ بأدبه الذى أصبح كأنه ملك عام انفصل عنه بالنشر من حق كل امرئ أن يغوص فيه كما يشاء.

إن نجيب محفوظ فى الأدب هو سيد درويش فى الموسيقى – مع هذا الفارق الكبير وهو أن عمره امتد إلى الخمسين – ونأمل أن يمتد خمسين أخرى – فأتيح له ما لم يتح لسيد درويش من فرص النضج والاكتمال والتبلور، وهو فى ذلك يشارك أم كلثوم فيما حققته فى فن الغناء – تلك التى كانت فاتنته فى شبابه واسمًا لكبرى بناته حين أصبح رب أسرة.

فنجيب محفوظ معدن أصيل جدًّا لأنه مصرى قاهرى مائة فى المائة، إنه شجرة السنط أو الجميز أو نبات الملوخية التى لا تنبتها سوى أرضنا، والذى يرفض أى غذاء إلا من ترابها وماء نيلها. فهو لا يتغذى بالكافيار والجامبون والسجق، ولا يسكر بالفودكا والويسكى والنبيذ والبيرة، وإن كان يتذوقها جميعا تذوق الخبير الواعى لمختلف أنواعها المدرك لنواهى أصالتها، المقدر لكل مزاياها. ولكنه يتذوقها بالشعيرات الدقيقة لغلافه الخارجى ولا يسمح لها بالتسرب إلى معدته إلا إذا سقت تربته واختلطت بها حتى إذا وصلت إلى جهازه الهضمى لا تكاد تتميزها فى الوجبة المصرية العميمة التى لا يأكل غيرها. إن كل ما يغير من الخارج لا يعدو أن يكون سمادًا لغذائه الروحى، أو توابل تضاف لتبرز مزايا هذه الوجبة، أو لونًا أزين بها.

ألم تر أنه – رغم الفرص العديدة التى أتيحت له – لم يغادر أرض مصر سوى مرة واحدة – وكان ذلك بعد أن حوصر فى ركن ضيق لم يستطع منه فكاكًا.

ألم تر أنه – رغم دراسته للفلسفة باللغتين الفرنسية والإنجليزية – قليل الاحتفاء بهاتين اللغتين، قلما يستعمل كلمة أو تعبيرًا بلسانهما ما دام له مقابل فى اللغة العربية – وفى نفس الاتجاه اللاشعورى تراه يفضل قراءة الأثر الأجنبى مترجمًا إلى لغته العربية. وهذا ليس من قبيل التعصب – فما أبعده عن ذلك – وإنما لأن هذه الشجرة المصرية تفضل أن تتلقى الأطعمة الذهنية للغتها العربية حتى – تستطيع أن تهضمها فى يسر وأن تتمثلها فى أناة، فثمة خطر بالغ على الجسم الأجنبى إذا توغل داخل نجيب محفوظ لابسًا قبعة من أن يخرج منه معتقًا بشرب الجوزة فى قهوة بزقاق المدق.

أجل – لا مجال للقبعة فى أدب نجيب محفوظ – ولذا فقد بدأ يقبل عليه أصحاب القبعات بشغف، وسوف يقبلون عليه أكثر وأكثر فى السنين المقبلة القادمة. فنجيب محفوظ هو مصر الصافية النقية دون استعارة أو نقل أو اقتباس؛ إنه لا ينفعل بالآثار الأجنبية فيبادر إلى محاكاتها شأن الكثيرين، ولكنه يترك الانفعال يتغلغل إلى أعماق نفسه – حيث يدخل فى مطبخه الفكرى فيأخذ منه رئيس الطهاة القدر المناسب الذى يمكن أن ينسجم مع مطبخه الشرقى، وإلا لفظ بعيدا أو أعاده للسيد نجيب مؤشرًا عليه بأن ليس له مكان لديه.

لهذا يمكن القول فى غير إسراف إن نجيب محفوظ لعله الأديب المصرى الوحيد الذى له طابع مميز لا يتغير، وآية ذلك هؤلاء المريدون العديدون الذين يلتفون حوله، هؤلاء النقاد الذين لا يرضون عن طابع أدبه، فيسخرون بمريديه وينعتونهم بأنهم أتباع “مؤسسة نجيب محفوظ”.

ويستطيع المرء أن يفهم وجهة نظر أولئك وهؤلاء “ولكنى أرى أن النقاد يظلمونه حين يصفون واقعيته بأنها “طبيعية” فحسب. فمن المحقق أن نجيب محفوظ – وإن احتفظ دائمًا بطابعه المميز – إلا أنه تطور كثيرًا فى نطاق هذا الطابع. فإن صح أن رواياته الأولى يمكن أن تندرج تحت مدرسة الطبيعيين، إلا أن واقعيته ما لبثت أن تطورت إلى الواقعية النفسية وآيتها (اللص والكلاب)، كما أنها تتطور أحيانًا إلى التعبيرية أو الواقعية الرمزية – إن صح هذا التعبير – كما فى بعض قصصه القصيرة. كذلك مر أسلوبه الفنى بتطور مماثل من الأسلوب الصحيح إلى الأسلوب الجزل إلى الأسلوب الدقيق المحكم الذى بلغ ذروة فنية رائعة فى (السمان والخريف).

أما ما يذهب إليه بعض النقاد من أنهم لا يرضون عن ذات طابعه الأدبى فهذا شأنهم، وإن كان من المناسب الإشارة إلى أن هيئة أدبية سوفييتية وافقت أخيرًا على ترجمة “الثلاثية” إلى اللغة الروسية باعتبارها تمثل نوعًا من الأدب التقدمى فى نطاق المجتمع المصرى.

وتبدو حالة نجيب محفوظ كذلك فى أنه رغم ملكاته المتعددة الجوانب، ورغم قراءاته المحيطة المنوعة، ورغم حاسته النقدية التى لا تكاد تخطئ، ورغم سعة أفقه الذى هضم كافة المدارس الأدبية سواء المتناهية فى القدم أو الموغلة فى الجدة.

رغم هذا جميعه مما يؤهله لأن يكتب فى أى موضوع يشاء، نراه لا يتعدى بقلمه حدود القصة وحدها – فهو لا يكتب المسرحية ولا يكتب المقالة بأنواعها، ولا يمارس النقد الأدبى ولا غير ذلك من فنون الأدب المختلفة.

 

***

هذه الأصالة الأدبية تنبع فى الواقع من شخصية نجيب محفوظ الإنسان. إنه إنسان مقتصد فى كل شىء إلا فى فنه كروائى. ومن هنا كان تكامل شخصيته المعجز. فنجيب محفوظ من الشخصيات القليلة جدًّا التى استطاعت أن تقهر تيارات الحياة المغرية والبغيضة على حد سواء، وأن تقول لها: “قفى عند حدك وابحثى عن غيرى فلست من زبائنك”. تناديه: “تعال فأعطيك تفاحة” – فيقول لها: “إنى فى غنى عن تفاحتك ويكفينى خبز يومى…”.

تزأر فيه صائحة: “لسوف أهرسك بقدمى فى الأرض”، فيبتسم قائلا: “لتفعلى ما تشائين فما أنتظر منك سوى ذاك، ولكنى لن أخضع لك أيتها المصيبة فما أنت بمصيبة ولكنك لون من ألوان الحياة”.

بهذا استطاع نجيب محفوظ أن يحقق لنفسه طمأنينة ذاتية جعلت منه صوفيًّا متحضرًا من طراز فريد. ولم يكن ذلك بالأمر السهل، كما لم يكن الاحتفاظ بهذا التوازن الشاق بين تلك القوى المتصارعة ميسرًا له دائمًا. ولكن إن حدث أن مال الميزان مرة فلا يكون ميله على حساب مبادئه قط، وإنما على حساب نفسه وصحته كما حدث مؤخرًا، شفاه الله وعافاه.

ولهذا كانت صحبة نجيب محفوظ الإنسان أجمل صحبة يطمح إليها صديق. إنه بر الأمان، فلو لم يكن روائيًّا لكان درويشًا عتيدًا أو وليًّا متفلسفًا ممن يحق لهم أن يشاركوا المسيح فى ندائه: تعالوا إلىَّ أيها المتعبون وأنا أريحكم…

فنجيب محفوظ وإن كان يجامل أحيانًا إلا أنه لا يكذب، وعندى أن هذا أكبر معيار لقوة الشخصية. إن من لا يكذب إنسان نادر الوجود. إنه قيمة عالية نسعى إليها نحن اللاهين المضيعين من أصدقائه ومريديه فنجد عنده الراحة والرشاد فى عصر قلَّت فيه حتى القمم الدنيا؛ فكم من أديب رفيع فى فئة وليس كذلك فى شخصه. أما نجيب محفوظ فرفعته فيه تتبارى مع رفعة إنسانيته بحيث يوقعك فى حيرة لا تدرى معها أى الذروتين أرفع.

من هنا كان التكامل البديع لشخصية نجيب محفوظ.

ولقد حيرنى هذا التكامل فعلاً فى مبدأ الأمر. فنجيب لا يندفع ولكنه يقتصد وإن اندفع فبحساب. لا يجوز عنده أن يقتات قطاع على آخر ولا أن يتأخر عمل من أجل عمل سواه. وكنت فى جهلى أحسب أن الفنان هو من يجرى وراء السانحة ويغوص إلى القرار حتى يتضمن فيفرغ التجربة من جوفه أدبًّا وفنًّا، ولكن نجيب محفوظ علمنى أن الضياع ليس فنًّا بل عربدة، وإن أحوج الناس إلى الساعة والنظام هو الفنان لأنه لا بد أن يقتصد فى كل شىء ليكرس جماع إمكانياته لفنه وحده.

فالفن حياة لا مهنة. الفن تعيشه أربعًا وعشرين ساعة لا خمس ساعات فى مكتب، لهذا لا بد من الملاءمة بين الفن والحياة وإلا ضاع الفن وتبددت الحياة. وقد نجح نجيب محفوظ فى عملية الملاءمة هذه لدرجة أنه رغم كونه أكثر الناس بذلا لفنه فهو أيضًا أكثرهم استمتاعًا بالحياة. إنه يتنزه فوق كوبرى قصر النيل صباح كل يوم ومع ذلك فهو أول من يحضر إلى مقر عمله. إنه يسهر مع الحرافيش مرتين فى الأسبوع ويمضى مع أصدقائه ومريديه صباح كل جمعة، ويتردد على السينما والمسارح، ويقضى بالإسكندرية شهرًا ونصف شهر بالتمام والكمال كل عام – ومع ذلك فهو أوفر الكتاب إنتاجًا. إنك لا تستطيع أن تتعجله فهو متعجل، ولا أن تتمهله لأنه متمهل، فلا يبقى أمامك سوى أن تشد شعر رأسك وتضرب بكفيك عجبًا من أمر هذا الرجل.

والأشد عجبًا هو أن هذا الرجل الطيب فى شخصه نجده شديد المكر فى فنه؛ حيث يجمع بين شقاوة الأطفال ودهاء الشيوخ.

فلنتمن لهذا الرجل الطيب المؤثر عمرًا مديدًا وصحة مواتية ليزيدنا من طيبته وليغمرنا بفيض من مكره.

…………

*شهادة لعادل كامل نشرت بالعدد الأول من دورية نجيب محفوظ

 

مقالات من نفس القسم