شعرية ملامسة الحواف في “ما لم يذكره الرسام”

شعرية ملامسة الحواف في "ما لم يذكره الرسام"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تتنوع صور الذات وأسئلتها في ديوان الشاعرة عزة حسين «ما لم يذكره الرسام»، بين فضاءات الطفولة والأسطورة والواقع المعيش. وفي كل فضاء تبحث الذات عن تشكيل خاص لوعيها بالنص الشعري والعالم والعناصر والأشياء، وإيجاد ملامح إدراك جديدة لها، تجعلها أكثر امتلاء بالنص وبالذات معا.

وعلى عكس ديوانها الأول «على كرسي هزاز» الذي اختبرت فيه الأشياء في عجينتها الرخوة، وبعين مسكونة بمجاز المفارقة وفجوات اللغة والرموز والدلالات، تضع الشاعرة في ديوانها الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، خطوطا تحت هذه الفجوات، تتسم بقدر من الحدة، وتدفع نصوصه إلى منطقة شائكة يتبادل فيها الحلم والذاكرة الأدوار، ويراوحان تداعيات الزمان والمكان، بحثا عن لغة خاصة للنص وطرائق أخرى للمعرفة والإدراك.

في ظل هذه المراوحة تخشى الذات الشاعرة من فكرة الإقامة الطويلة داخل الأشياء، وما تخلفه من رتابة العادة والتكرار، وهروبا من كل هذا تلجأ إلى نوع من السفر الخاص العابر، داخل النص، وداخل العناصر والأشياء، يوفر لها حيوية الدخول والخروج، من الداخل إلى الخارج والعكس أيضا، وكأن النص، بل كأن فعل الكتابة نفسه، هو بمثابة محطات متقطعة على جسد الكون والشعر واللغة والحياة.

ومن ثم، تتشكل نقطة الانطلاق الأساسية لفضاء الرؤية في الديوان، وتبرز فيما أسميه، «شعرية ملامسة الحواف والأطراف»، فليس ثمة قبول منطقي لدى الذات الشاعرة بفكرة الهدم الناقص، أو إشاعة نوع من العبثية الفارغة في التعامل مع العناصر والأشياء. هناك دائما هاجس المناوشة، مناوشة الأسطورة في حافتها وأطرافها الخرافية والمجازية، لتظل محض علامة وإشارة في النص، مفتوحة بخفة على تخوم البدايات والنهايات معا.

فالنص لا يقيم في الأسطورة، لا يتماهى معها، وإنما يتقاطع مها بشكل خاطف، يصل أحيانا إلى حد السخرية منها، وإبرازها كسؤال ناقص، لا يزال يبحث عن حكمة ضالة، عن سر مشوه، وصراع مبتور، لا يزال قابعا في ظلالها كنافذة إدراك خاصة للوجود والأشياء.

ومنذ النصوص الأولى للديوان تطالعنا هذه المناوشة لمجاز الأسطورة، ففي نص بعنوان «جحيم» تسبقه عبارة استهلالية لآرثر رامبو، تتناثر خيوط الأسطورة، ما بين الميثولوجيا الإغريقية ممثلة في الإلهة «هيرر» زوجة زيوس، كبير آلهة الإغريق، ثم جان بول سارتر، فيلسوف الوجود والعدم، ثم سانشو صديق دون كيخوته، وحامل درعه في الملحمة السردية الشهيرة «طواحين الهواء» لسيرفانتس، حتى إبليس رمز الشر والغواية، في الميثولوجيا الإسلامية، ولو تساءلنا: ما الذي يوحد بين كل هذه العناصر الأسطورية أو التي يكتسي بعضها بزي الأسطورة: هل هو الوجود والعدم، مدار فلسفة سارتر الشهيرة، أو الشر المطلق كما في رمز إبليس، أو الشر المعلَّق كما في رمز هيرا الحمقاء التي عاقبها زوجها زيوس بتقييد أرجلها بخلخال من الذهب لتظل معلقة بين الأرض والسماء، لا إجابة محددة يمكن الركون إليها في النص، بل أيضا تتناثر الإجابة، وتومض بشكل خاطف في جماع كل هذه الدلالات والرموز. وهو ما يشير ضمنيا إلى أن نص الشاعرة لا يسعى لأن يكون كتلة واحدة مصمتة وفي اتجاه معين، وإنما يشكل كتلته من خلال تنوع مدارات الرؤية، والعلامات والإشارات والأسئلة والرموز، ليحتفظ النص بزوايا متعددة لفعل الرؤية، لعملية الدخول والخروج، فلا يسجن هذا الفعل في ثبات الرأس أو فوضى الأطراف، ولا يتعامل مع العناصر والأشياء باعتبارها حقائق مجردة مكتفية بذاتها، وإنما هي أشياء تبحث عن تكاملها داخل النص وفي الوقت نفسه، يبحث النص عن تكامله فيها، وسيلته الوحيدة في ذلك، هي أن تظل الأشياء نفسها صالحة لإثارة الدهشة والأسئلة.

تقول الشاعرة في قصيدة «جحيم»:

أيهما أكثر وخزا يا «سانشو»

الحقيقةُ أم زبدُ السخرية

أنا أعرف أن الطواحين أطيبُ من القتل

وأنك أطوعُ من المصارحة

لكنه الدُّوار..

الدُّوار يا «سانشو»

والرأس الـ«إبليس»

يتستر على أنين القنبلة

هذا الدّوار الذي يكتنز في ثناياه صرخةً مكتومة أو مقموعة في جراب الذاكرة الإنسانية، يتردد صداه كحلم، يناوش معظم نصوص الديوان. فيما تخفف فكرة ملامسة الحواف، من أحادية وجع الذات، وتدفع النص لأن يصبح نقطة التوازن المركزية، بين تعارضات الجسد والروح، الحلم والواقع، الذات والموضوع، وهنا يحيل النص إلى مفارقته الخاصة النابعة من نسيجه الداخلي، بعيدا عما هو مقحم عليه من الخارج.. متشبثا بمراوحة الحواف، وإمكانية العيش في ظلالها، حيث تبدو الظلال هي منطقة الحياد الساكنة المحببة لمغامرة الكتابة لدى الشاعرة، بحثا عن بقعة ضوء خافتة، ربما لأن في الخفوت تستطيع الذات أن تنصت إلى نفسها، وهو ما تشير إليه الشاعرة في مقطع لافت من قصيدة بعنوان «ثالوث» في الديوان، تقول فيه:

سأسمي القصيدة روحا مشتعلة بخفوت

وأسمي روحي قصيدة

وسأقضي ليلة كاملة

في محاولة إقناعكم

بأنه كان لدي شيءٌ خافت

وترشح فكرة ملامسة الحواف دائما بأن هناك تسميات أولية للأشياء، هي المجال الأوفر حظا للعب مع الشعر والحياة، مع الذات والموضوع، حيث تصبح اللغة ثمرة من ثمرات الطفولة، وأحيانا يصبح التكيف مع إمكانية فعل قطف الثمرة بديلا أقوى دراميا من مغامرة ارتكابه. وهو ما تتجسد مظاهره شعريا بشكل لافت في نص بعنوان «نورا»، تشف فيه اللغة، وتتخلص من ربكة المواضعات البلاغية التقليدية، وتصبح مفردة حياة تمشي بحيوية وسلاسة على أرض الواقع، تاركا للقارئ مساحة متوترة، ليؤول في ربكتها ما هو مهمش ومنزاح ومسكوت عنه.. تقول الشاعرة في هذا النص:

بلا ثرثرة

بلا كراهية

بلا محبة

سأتركك..

سأترك الكرسي الهزاز

والستار

وزجاجة العطر الجديدة

وساعة الحائط

ساترك الوداع أيضا

وسلة الخبز والخوخ المسلوق

سأترك التلفاز مشعلا

وحاوية الأحذية ينقصها زوج لي..

سأترك خاتم زواجنا

ومشطي الخشبي

والدولاب مفتوحا على غيابي

والملاءة الزرقاء لفراغ جسدي عليها.

وتغلف الذات الشاعرة صراعها أو حيرتها بين الفعل ورد الفعل، بغلالة تناص شفيفة، مع ديوانها الأول «على كرسي هزاز»، ثم مع «نورا» بطلة مسرحية هنريك إبسن، الشهيرة «بيت الدمية»، كرمز للتحرر والانعتاق من قسوة الزمن والبشر، فتأتي لطشة النص الأخيرة على هذا النحو:

سآخذ جسدي نظيفا من وخزك

وأصفع الباب

بنشوة (نورا) بطلة هنريك إبسن

في وجهي..

وتبرز الذاكرة، كوعي النص المستتر في عنوان الديوان، فلم تقل الشاعرة مثلا «ما لم يقله أو يشكله أو يرسمه الرسام»، لتستدعي وبشكل ضمني الطرف الغائب في واحدة من أعقد ثنائيات الوجود، وأعني بها ثنائية «الذاكرة والنسيان»، ثم تتجاوز هذه الثنائية، مقدمة لها حلا جماليا ناصعا، حيث تصبح طفولة الذات الشاعرة والعناصر والأشياء، هي الآخر، أو بمعنى أدق، هي الأنا التي تحولت إلى آخر، وهو أمر يصعب أن تلتقط حيواته ريشة الرسام.. تقول في النص نفسه الذي وسم عنوان الديوان:

على صدري الآن كرةُ رماد

وهمٌ لم يعد – بعد – ذكرى

كان دخانٌ طعمه حلو

والنسوة يرتدين العرقَ خلف أواني الطهي

أنا جائعة لألوانك يا أمي

ورائحتي أقلام رصاص

المدرسة أعلى اللوحة

وظهري للماء والجسر

بقرة مبهجة لا تخيفني

في الحواديت..

عجوز تقرص خدي

وتشد رباط الحذاء.

ومن ثم ينفتح النص، على مناخات الطفولة، كمرآة، مفتوحة على فضاء الحلم والذاكرة معا، لا ينعكس عليها النص كحقيقة مجردة، وإنما كفعل حياة مبثوث بحيوية في مفردات الطبيعة، وتراث ومقومات البيئة الخاصة، ليس فقط باعتبارها حاضنة للذات، بل محطة طفولة لن ينتهي السفر منها وإليها.

مقالات من نفس القسم