شعرية الألفية الثالثة: الشاذلي القرواشي.. شاعر “الارتفاع الأملس”

موقع الكتابة الثقافي writers 5
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.مصطفى الضبع

الشاذلي القرواشي، شاعر تونسي، من مواليد تونس العاصمة ( أكتوبر 1965)، تنتمي تجربته إلى الشعرية العربية متجددة الملامح، متعددة الرؤى، عميقة الطرح، الباحثة عن جمالياتها الخاصة في محاولتها إنتاج ملامحها الخاصة والمميزة، صدر له ثلاث مجموعات شعرية :

  • بردة الغريب ( 1998).
  • ظلال الحروف الرائية ( 2003).
  • الارتفاع الأملس (2009) .
  • له قيد النشر “الحُداء “
  • أصدر 16 عنوانا في أدب الطفل .
  • على الجائزة الأولى وطنيا مرتين .
  • كتب للمسرح والأغنية * كتب المقالات النقدية بالصحف والمجلات المحلية والعربية .
  • شاعر نشط شارك في كثير من الفعاليات الشعرية ، كما نشرت قصائده في كثير من الدوريات العربية.

تجمع تجربة الشاعر بين ثقافتين: عربية وغربية تتبلوران فيما اعتمده من أشكال لقصيدته في طابعها العام ، ويقوم نظام القصيدة لديه على تجريب أشكال من الكتابة متعددة الأشكال ، يجمع بينها نظامان أساسيان: نظام القصيدة القصيرة ، ونظام القصيدة ذات الحجم المعروف والمتداول بين جمهور الشعراء في العصر الحديث ، والنظامان كلاهما يقومان على تشكيل صورة تتحرر في مجملها مما يربطها بواقعها المباشر فليس هناك اتجاه لتصوير أحداث حياتية أو وقائع قريبة الصلة بما يتابعه المتلقي من أحداث عصره بحيث تكون القصيدة تعليقا على حدث أو تسجيلا لواقع متعدد الوجوه والأحداث ، وهو ما يوسع من دائرة عمل الشاعر ومن ثم دائرة أفق المتلقي الذي يجد نفسه إزاء قصيد لها مذاقها الخاص ولها أفقها الأخص الذي تتحرك فيه بحثا عن مساحات عملها النموذجي لإنجاز خصوصيتها .

نظام القصيدة القصيرة

القصيدة القصيرة أو قصيدة الومضة أو ماتعورف عليه بالأبيجراما هي أقرب الأشكال لتجربة الشاعر في ديوانه “الارتفاع الأملس” تلك التي جاء على نظامها (48 نصا شعريا، لها نسختان: غربية وهي الأصل ([1])، لها طابعها وسماتها الأسلوبية التي بدأت بالأساس معتمدة على المفارقة قبل أن تتخلص منها منطلقة إلى آفاق أوسع مما بدأت به ، وعربية لها ما لسابقتها مما يخصها وما يميزها.

النسخة العربية تنتهي بمفارقة تمثل الأساس في تركيبها والأساس في إدراكها ، خلافا للنسخة الغربية التي قامت على المفارقة بداية قبل أن تفتح لنفسها آفاقا أخرى اعتمدت على الصورة الناعمة وعلى الحد الأدنى من المفارقة .

الشاعر يطرح تجربته وفق النسخة الغربية المتطورة في تجاوزها للمفارقة ولشكلها القديم الذي بدأت عليه ، و الشاعر يقيم ديوانه الثالث على طريقة الومضة التي اعتمدها شكلا لقصائد ديوانه .

في القصيدة الأولى من الديوان يفتح الشاعر لمتلقيه أفقا فلسفيا يكون له أثره على تجربة الديوان في مجمل قصائده :

حال

” تنشطر الذات إلى نصفين

ويظل النصف على النصف

يدور …

آه كم ألهاني الاسم عن المعنى

كم ألهاني الذكر عن المذكور “([2])

 

لك عندها رصد الحالة بوصفها طريقة للتعبير عن وضع الإنسان في عصره ، أو رؤية للذات حين تبحث عن وفي ثنائياتها ، كما يكون لك أن ترى الأمر معنيا بما يخص انشطار الذات في محاولتها الانعتاق .

القصيدة ذاتها تنشطر مطابقة التعبير عن حالتها مما يقربها – بدرجة ما – من حالى التعبير البلاغي ، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال وفق مصطلح البلاغة ([3])، فإذا كانت القصيدة في شطرها الأول (المقطع الأول ) تؤسس لحدث يبدو نظريا يقوم على ثلاثة أفعال متراتبة (تنشطر – يظل – يدور ) فإن الشطر الثاني يقوم على حدث يبدو تعبيرا تطبيقيا على النظرية السابقة مكررا فعلا واحدا مرتين (ألهاني ) تعبيرا عن فعل الذات في تأثرها بالحدث السابق طارحا قضية تجريدية أكثر منها ملموسة .

غير أن الشاعر لا يقف عند حد التجريدي المختلف حول معناه والطارح المعنى في تعدده ، وإنما يعمد إلى طرح أشكال أخرى تقترب بالمتلقي من المتداول من أفكار تخص تجربته الحياتية دون أن تتخلص التجربة من فضائها الأقرب للتجريد ، يقول الشاعر في قصيدته : ” حرب ” :

” لم يبق من الحرب سوى

خوذة عامرة بالنواح

 

وحذاء جندي

يتزاوج عليه الذباب الموسمي

 

وامرأة نسيت شالها

عند انعطاف الضريح

وعادت وحيدة في المساء ” ([4])

على ثلاثة مقاطع تقوم القصيدة ، يعتمد كل مقطع فيها على ثنائية عنصرين يربط بينهما علاقة الصفة بالموصوف :

  • خوذة + النواح .
  • حذاء + الذباب .
  • امرأة + الوحدة .

الخوذة علامة على فقد صاحبها وبقاء النواح الذي لم يحدد الشاعر مصدره إذ هو متعدد المصدر ، مجهوله غير أن التعدد والمجهولية لصالح الشمول واتساع الدلالة ، والحذاء في كونه مكانا صالحا لتزاوج الذباب يمنحنا الإيحاء باطمئنان الذباب في تزاوجه المنذر بتعدد عناصره وتكاثر أعداده وهو ما يؤهل لتكرار الحالة حالة التزاوج المؤسسة على تكرار حالة الفقد ، فقد الجندي بوصفه علامة على حرب متكررة الأسباب ، متكررة النتائج وهو ما يدعو الشاعر لمقاربتها وطرحها على متلقيه / متلقيها بوصفها واحدة من نقاط العلاقة بين رؤيتين : رؤية الشاعر ورؤية المتلقي .

العنصر الثاني من الثنائية يتكرر بوضعية الصفة في المقطعين الأول والثاني غير أنه في الثالث يكون بصيغة الحال (وعادت وحيدة في المساء) يضاف إلى ذلك حضور المساء بوصفه علامة على زمن محدد خلافا لما هو بصري (دليل على نهارية التوقيت ) في المقطعين السابقين حيث يختفي التوقيت الممتد بامتداد الحدث ، حدث الحرب وهو ما يعني انفراد المرأة بحالة الوحدة (تدشينا للعلامة المؤسسة على المرأة نفسها بوصفها العنصر الأبرز للتعبير عن ضعف ضحية الحرب .

المساء يعني استهلاك الحرب للزمن السابق للمساء ، زمن النهار ، زمن الوضوح والرؤية كما يعني فقدان المرأة لذاكرتها عند الضريح بوصفه علامة على غياب النصف الآخر للوجود الإنساني (الرجل ) .

ما يتبقى من الحرب هو أشياء تعلن عن فقد الإنسان ، أشياء يصرح بها الشاعر في نص آخر ليس منبت الصلة عن النص السابق :

الغناء

” ألقيت بضلعي في الأرض

رميت بعيني في الماء ،

فتت جسمي ،

ووزعت دمائي في كل الأرجاء .

وقلت لها غني عني ..

غني أيتها الأشياء ” ([5])

يبقى من الإنسان أشياء تغني ، تطرح صوتها بفعل الإنسان ، حيث الغناء نتيجة تستهدفها الحركة السابقة المؤسسة على مجموعة الأفعال الذاتية (ألقيت – رميت – فتت – وزعت ) تلك التي تفضي إلى فعل واحد يتطابق مع فعل الشاعر ويعد نموذجا لمنجزه (قلت ) ذلك المشير للقول بوصفه الفعل الأمثل للشاعر ، ذلك القول الذي يوظفه الشاعر واصفا موقفه تجاه الأشياء معتمدا نفسه نموذجا :

أنظر بي

……..

“أقف الأن وحيدا ، لأرى

أني فتت الألوان ،

وقوست الأضواء ،

وأعطيت الأشياء صفاتي ،

لأقول لها كوني أيتها الأنثى

ثم وثبت على الماء عجولا

وجرحت الطين لأسمع ذاتي ” ([6])

الصورة المحورية في التركيب الشعري تقوم على عدد من المفردات أولها مجموعة الأفعال : أقف – وحيدا – أفتت قوست – أعطيت – أقول – وثبت – جرحت ، وثانيها : مجموعة المفردات الحالية (الدال على الحال ): وحيدا – عجولا ، وبيان الحال لا يتطلب من المفردات ما يكافئ الفعل في تكراره ونسبته إلى صاحبه .

والشاعر في خطابه للأشياء يفتح بابا لحضورها ويعلن هذا الحضور عبر صيغة النداء الصريح ، وهو ما يربط بين عنصرين من العناصر الأساسية في تجربة الشاعر : الأشياء – الغناء.

يتأكد حضور الأشياء في تلك النصوص التي يتصدر عنوانها علامة شيئية : ضوء- مفتاح ، وغيرها من النصوص المشابهة :

مفتاح

هناك في اتجاه قماشة الليل ،

عند انزلاق السماء ،

على الربوة المطلية بالوردي ،

سقط المفتاح الذي

كان يعالج أبواب الأفق ” ([7])

يفرض الليل (بوصفه علامة زمنية ) نفسه على المشهد ، وسقوط المفتاح يعني انغلاق الأفق لإدراك طبيعة المشهد ، كما يعني حالة من تغير الوضع السابق إلى وضع راهن أقل قيمة وأكثر خطرا ، وما تطرحه اللحظة في نسقها المختلف حين تجعل من الليل قماشة تنزلق إليها السماء ، والنص يجعل للمفتاح الفاعلية الوحيدة حين يسند له الفعلين الوحيدين في النص (سقط – يعالج ) لكونهما فعلين يمنحان للمفتاح صفته ووظيفته ، وحيث الفعل الأول منتهى ترقب المتلقي حين تمتد الصورة السابقة منتجة تشوقا يفضي إلى السرد الذي يتهيأ له متلقي المشهد منذ بدايته التي تتأسس على جملة تعمل منذ البداية على إبعاد المشهد عن المتلقي ليكون قادرا على إدراكه بشكل أعمق وأوضح وهو ما تفعله المفردة الأولى (هناك ) في تحديدها لمكان غير محدد بداية يأخذ في اكتسابه معالمه باقترابه من فعل المفتاح

ولا يتوقف الأمر عند المفتاح بصورته المباشرة ، وإنما يتجاوزه إلى القصيدة المفتاح ،تلك التي تعد النص الأكبر حجما في ديوان الشاعر الأخير ” الارتفاع الأملس ” :

مولد

” أذكر أنني جئته ،

وقد كان جالسا بين الغروب والليل ،

وقلت له :

” رأيت يدا ترشق الصخر بالغيمات

وباب الدار مغلقا ومفتوحا في آن ،

ورأيت :

كأنني أدخل من فجوتين مختلفتين بجسدي

الوحيد

وفي الجرة المنسية بركن البيت

سمعت انكماش الماء ..

ودون أن أكمل

سقطت دمعتان حتى بلغتا مفرق الذقن

وقال :

باكرا يابني .. باكرا

أدخلتك النار

في حِلفها ” ([8])

تجتمع في القصيدة عدة مفاتيح نصية تصلح لقراءة عالم الديوان ومن ثم عالم التجربة الشعرية لدى الشاعر دون أن تبخس النصوص الأخرى حقها في الوجود ، حيث النصوص الأخرى تلعب واحدا من الأدوار المتعددة ، منها :

  • التأكيد على ما ورد في القصيدة الكبرى .
  • طرح الجديد والمغاير لما ورد في النصوص الأخرى (الأصغر ) .

والقصيدة تتضمن الكثير من مفاتيح التأويل القائمة على ممتلكات القصيدة من عوامل ثرائها مما تختص به :

  • الحوارية : القائمة على فعلين (قلت له – قال) والفعلان يكشفان عن مساحة فعل الذات والتزام الآخر الصمت مساحة أكبر قبل أن يلقي بكلمته الأخيرة (الجملة الأخيرة من النص ) في دلالتها على التزام الصمت لاستيعاب مقولات الذات التي لا تتوقف إلا لفرصة سقوط الدموع .
  • فعل الرؤية : ذلك الذي يحرك التلقي لاكتشاف مساحات الرمز عبر الانتقال من مساحات السرد المفضية للرمز فالجملة قبل فعل القول تكون بمثابة مساحة العبور إلى الرمز مما يجعل من النص مستويين سرديين : مستوى الحكي خارج القول ، ومستوى الحكي داخله وكلاهما يكونان بمثابة التركيب العضوي للنص في طرحه الراوي العليم وتشكيله النص وفق رؤيته الكلية
  • السردية : المؤسسة على فعل التذكر ومكاشفة الحدث وإنتاج السردية بنظامها المشار إليه سابقا ، يضاف إلى ذلك الحبكة السردية القائمة على التكثيف وتوالي الأفعال وتعانق التراكيب وتوالي تفاصيل الحكي .
  • تعميق الصورة : عبر توقف حركة السارد عبر المكان “جئته ” تمهيدا لطرح المنجز القولي ” وقلت له ” حيث الحركة هنا ترشيح للقول والقول ترشيح لاستنطاق الآخر ردا على فعل الذات وهو ما يعمل على تعميق الصورة عبر التوقف للتأكيد واستكشاف العالم عبر المقولات المتضمنة .
  • السماح بدخول الآخر المغاير للذات : وهو ما يطرحه النص عبر الحكي عن الآخر الذي ينفرد النص بتقديمه خلافا للنصوص الأخرى التي تكاد تكون مساحة لفعل الذات وحركتها مما يجعلها ملعبا خاصا بها لا تسمح بدخول الآخر إلا في مساحات محسوبة ومرات معدودة .

شعرية الغناء \ نظام الأغنية

عبر تجربته الشعرية ، ومن خلال ديوانيه تتكرر العلامة الشعرية (الصوت ) في إشارتها المباشرة في أداء معناها و بوصفها مفردة تفرض وجودها على معجم الشاعر ، يقوم عليها نظام الجملة الشعرية في كثير من مواضع النصوص الشعرية المتوالية :

بداية

صعدت إلى ربوة في اللغات

وكان دمي فوق قرص الحضارة

ينأى .

وكنت ألامس صوت

الذي لا يرى

وأعلن شهقة سنبلة

في العراء

وحيدا وهذي القصائد منفى .

سأهدب لها النار

والأضحية .” ([9])

ولا يتوقف الأمر عند الذات في تعبيرها عن علاقتها بالصوت وإنما ينفتح المجال لدخول الآخر (الأنثى ) في علاقتها بفعل الغناء المؤسس على الحركة المتوقعة للأنثى :

انطلقي كي تولد أغنية في الجهة الثكلى

يولد في ملكوت الجسم كمان ،

روح تنهض أشجارا ،

عطشى

تنهض نايات القيعان ” ([10])

  • تتصدر القصيدة ديوان الشاعر ويتصدر “الصوت” مجموع حركات فعل الشاعر ونشاطه المؤسس على أربعة أفعال : (صعدت – ألامس – أعلن – سأهدي) الفعل الثاني (ألامس ) يمثل هدفا للفعل الماضي الأول (صعدت ) ومفتتحا للفعل المضارع في استمراره
  • والأغنية تأخذنا إلى الصوت بوصفه – فيزيائيا – النشاط الإنساني الأعم من الأغنية ، والفارق بينهما عمومية الصوت في مقابل خصوصية الغناء ، وتعدد أشكال الصوت في تعدد نغمات الغناء واتساع مساحة الصوت لتشمل ماهو إنسانية وماهو غير ذلك (صوت الحيوانات والطيور و الأشياء على اختلاف أنواع أصواتها كأصوات الآلات وسقوط الأشياء وارتطامها ) .

الصوت في النص يكون له حضور ثنائي يقوم على نظامين أساسيين :

  • مباشر : يتمثل في الصوت بوصفه مفردة تفرض وجودها على كثير من النصوص ، داخلة في النسيج اللغوي للنص ، تتعدد في السياق النص بصور مختلفة وكما تتعدد أشكال حضور الصوت تتعدد أشكال حضور الأغنية :”ناديت بملء الصوت – سهوا نمت على غصن أغاني البدو – أقلب أغنيتي في الرمل ([11])- خذ مكانك في الأغنية ([12])- لكن الأجسام بلا صوت ، تأتي ، فأصوتها ([13]) – يطوقني صوتي ([14])- ها إني أخرج من صوتي مكتوفا ([15]) ” ، وغيرها مما يجعل من الصوت والأغنية علامتين شعريتين لهما دورهما الأبرز في إنتاج الدال الشعري وتشكيل آفاقه في سياق التجربة ، ومن هذه الأدوار ، دور يتجلى في توظيف الشاعر للصوت لإبراز الآخر وتفسير العلامات الشعرية الأكثر بروزا ، كما في قصيدة “استحالة ” :

” صوتك الصارخ

ببحته الغاضبة ،

شبيه بذاك

الارتفاع الأملس ” ([16])

حيث الصوت ينتمي للآخر (الأنثى ) كاشفا عن موقفها مما لا يكشفه النص (سبب الغضب) مما يجعله عاما بدرجة ما أو غامضا بالقدر الذي يسم الأنثى بالغموض ، يضاف إلى ذلك الدور تفسير الصوت للعلامة الأبرز (عنوان الديوان ) حيث الصوت شبيه بالارتفاع الأملس بوصفه تعبيرا عن حالة الانحراف حين تنتقل صفة (الأملس ) للارتفاع وليس لما هو مرتفع جاعلا المادي صفة للمجرد .

  • غير مباشر : يضم مجموعة العلامات اللفظية الدالة على الأصوات ، وتتعدد مصادرها في سياق النص : الأفعال بما ينتج عنها من أصوات – الحركة بكل أشكالها المصدرة للصوت .

شعرية الكون

يتحرك الشاعر بين مجالين أساسيين : الذات في ارتباطها بالعالم ، والعالم في تماسه مع الذات ، والشاعر دائم الحركة بينهما ، يقف عند حدود الأشياء أو يتعمقها وفق ما يراه مناسبا لتشكيل شعريته وإنتاج ما يتغياه من الدلالة .

حينما يوسع الشاعر من رؤيته للتجاوز مجرد المشاعر البشرية أو تقف عند حدود قضايا الإنسان في حدودها الضيقة ، أو ترسم مجرد صورة لواقعة ما أو حادثة ما قد يشاركه المتلقي في معرفتها وقد يباغت المتلقي بمعرفة فوق معرفته وفي كل الأحوال يكون عليه إدراك الحقائق من وجهة نظر الشاعر لا من وجهة نظره هو .

في ديوان الشاعر تطرح القصائد مساحات من رؤية الكون القائمة على نظام فريد من المجاز المؤسس على تركيب لغوي يبدو للوهلة الأولى بسيطا غير أنه حين تقترب منها تفكك تفاصيلها وتدقق في العلاقات القائمة بينها ، تدرك طبيعة التركيب وقدراته على إنتاج الدلالة النصية ، في قصيدته “الحروف الملكية ” يقول الشاعر :

تتعثر الأنهار في خطواتها

وتذوب من فرط الرحيل

نعالها

وأنا مياه في مجاريها ،

ترى

وهما يعريه الهوى ويمر

وكأن كونا في الخيال أجره

مني على وهن بدا

وكأنني صور الخيال أجر “([17])

المقطعان استهلاليان لقصيدة طويلة يستهلها الشاعر بمجاز متصاعد يبدأ بالجملة الفعلية “تتعثر الأنهار ” ويبدأ تصاعدها بداية من الفاعل “الأنهار ” بوصفها مفردة تمنح الصورة انحرافها الأسلوبي ، وتنطلق منها مجموعة المفردات المنتجة للصورة أولا و تحال إليه مجموعة الأفعال المسندة للفاعل الواحد “الأنهار “بوصفه المفردة البؤرية في سياق الصورة، تلك الصورة التي تتجه إلى تشخيص الفاعل تمهيدا لوضعه في سياق صراع مع الذات التي تعلن عن نفسها في المقطع الثاني ” وأنا مياه في مجاريها” ، غير أنها تجعل من نفسها (الذات) نظاما أكثر فاعلية من الصورة السابقة تمجيدا للذات في مجابهتها الآخر (الأنهار ) والضمير في مجاريها يمتد إلى السابق طارحا احتمالين :

  • الضمير يعود إلى الأنهار رابطا بين الصورتين ومضيفا للأنهار فاعلية تتجاوز مدى الصورة الأولى .
  • الضمير يعود إلى المياه وهو ما لا يبتعد كثيرا عن امتداد صورة الأنهار وفعلها الممتد عبر الصورة في مقطعيها .

ويكون لتعدد الاحتمالات دوره في التعبير عن ثراء النص ومن ثم ثراء التجربة ، تجربة شاعر يليق به أن يحدد مكانه في سياق التجربة الشعرية العربية .

……………

هوامش وإشارات

[1] – وفق تأكيد طه حسين على المصطلح: ” وقد أطلق اليونانيون واللاتينيون كلمة ” أبيجراما ” أول الأمر على هذا الشعر القصير الذي كان ينقش على الأحجار ، ثم على كل شعر قصير ، ثم على الشعر القصير الذي كانت تصور فيه عاطفة من عواطف الحب أو نزعة من نزعات المدح ، أو نزغة من نزغات الهجاء ، ثم غلب الهجاء على هذا الفن ، ولا سيما عند الأسكندريين وشعراء روما وإن لم يخلص من الغزل و المدح . فلما كان العصر الحديث لم يكن الشعراء الأوربيون يطلقون هذا الاسم إلا على الشعر القصير الذي يقصد به إلى النقد والهجاء ” طه حسين: جنة الشوك – دار المعارف – القاهرة ، ط11، ص 12.

[2] – الشاذلي القرواشي: الارتفاع الأملس – دار إفريقية للنشر – تونس 2009، ص 8، وقد جاء الديوان في (107) صفحات بلغتين : العربية على اليمين ، والفرنسية على الشمال.

[3] – تعريف البلاغة المتداول : مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع الفصاحة .

[4] – الارتفاع الأملس – ص 44.

[5] – الارتفاع الأملس ص 62.

[6] – ظلال الحروف الرائية – ص 34.

[7] – الارتفاع الأملس ص 74.

[8] – الارتفاع الأملس ص 92-94.

[9] – الشاذلي القرواشي : ظلال الحروف الرائية – طبعة خاصة – تونس 2003، ص 11.

[10] – ظلال الحروف الرائية – ص 16.

[11] – ظلال الحروف الرائية – ص 19.

[12] – ظلال الحروف الرائية – ص 25.

[13] – ظلال الحروف الرائية ص 37.

[14] – ظلال الحروف الرائية ص 38.

[15] – السابق نفسه .

[16] – الارتفاع الأملس ص 82.

[17] – ظلال الحروف الرائية ص 43.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)